الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

اختارت الحدث | عندما يمتلئ المجتمع بالدين

2016-08-05 08:54:36 PM
اختارت الحدث | عندما يمتلئ المجتمع بالدين

 

الحدث- لبنان

 

اختارت الحدث المقال التالي للكاتب اللبناني الفضل شلق، والذي نشر اليوم في صحيفة السفير اللبنانية.

 

وهذا نص المقال:

 

المسألة ليست في وقوف أي منا على خط يفصل بين الاعتدال والتطرف الديني، بل هي في موقع الدين وموضعه في المجتمع؛ هل يملأ الدين المجتمع أم يغلق كل حيز فيه؟ فلا يدع مجالاً للتفاعل مع العوامل السياسية والاجتماعية والعسكرية؟ أم أن الدين ذاته يتغير بمعنى أن نصوصه المتشددة المتطرفة تصير أكثر شيوعاً مكان النصوص المعتدلة. في كل دين نصوص لكل الظروف. بأيها يأخذ المجتمع؟ يعتمد الأمر على وضع المجتمع في تعامله مع الدين. التركيز هنا على نقاط ثلاث: هل يملأ الدين المجتمع بحيث لا يبقى مجال للنقاش والحوار، بالأحرى للتفكير، بغير الأمور أو المعايير الدينية؟ هل الهوية الدينية، مع الأخذ بالاعتبار أن هوية كل واحد منا متعددة، تصير هي الهوية الوحيدة؟ وماذا يبقى للأمور المعاشية والمطلبية، أي للظروف الاجتماعية عندما يمتلئ المجتمع بالدين؟


1 ـ عندما يمتلئ المجتمع بالدين يتقدم اعتبار الإيمان على كل شيء، بل يصبح هو الاعتبار الوحيد. لا معنى للإيمان إلا أن هناك حقيقة واحدة في الدين، يدل عليها الإيمان، ويتوجب الدفاع عنها وهداية الناس من أجلها بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك العنف، ربما العنف وحده. هداية أو تبديل المجتمع لا تهم إلا عن طريق العنف، سواء جاء العنف عن طريق الإيمان أو الإلحاد. هندسة المجتمع تبنيها تنظيمات اليسار كما اليمين. ليس سهلاً أن يتغير المجتمع لمجرد دعوة سلمية، ربما كان ذلك مستحيلاً. الإيمان في كل مجتمع امتلأ بالدين هو مصدر العنف.


2 ـ كل منا متعدد الهويات: عربي ـ لبناني، من محافظة كذا أو قرية كذا، مهنة معينة، عشيرة أو إثنية، فريق فوتبول أو باسكتبول. عندما يمتلئ المجتمع بالدين تختصر الهويات، يصير لكل منا هوية واحدة مصدرها الدين. المذهب دين ضمن الدين. التعددية ضمن الفرد هي أساس كل التعدديات في المجتمع. الهوية الدينية، عندما تصبح هي كل الهوية، تلغي كل الهويات الأخرى. إنسان ذو بُعد واحد. ينتفي العقل. لا يعود هناك مجال للخيار بين إمكانات متعددة. تنكفئ الحرية على نفسها إذ لا خيارات متاحة. لا تنفع الديموقراطية حينها إلا لتعداد الأصوات، لإثبات وجهة نظر. أساساً لا وجهات نظر. الإيمان وحسب. الإيمان هو ما يحدد كل ما عداه. كل مَن هو خارج الإيمان كافر. ليس ضرورياً أن يقول الكافر أو يفعل شيئاً. هو كافر فقط لأنه مختلف، مختلف عن ذوي الإيمان. الاختلاف يقررونه هم. مع هذا الإيمان يستوي الموت والحياة، ليس بالنسبة لغير المؤمنين بل أيضاً بالنسبة للمؤمنين أنفسهم. لكل فرد حي مكانه المقرر سلفاً في الجنة أو النار.


3ـ مصادرة المجتمع. يصادر أصحاب الإيمان الدين، وعن طريقه يصادرون المجتمع. يصير الناس وسيلة للإيمان، المجتمع بحر للإيمان، فيه تمخر السفينة العباب. تتوجه الأبصار كلها للآخرة. أمور الدنيا تزول عن مسرح النقاش والحوار والنضال. أنت هنا على هذه الأرض، فقط لتمهد من أجل احتلال موقع في السماء. ليس مهماً أن تقرر أنت ما يجب أن تفعل من أجل ذلك.


الذين صادروا الدين صادروا المجتمع، وفوق ذلك صادروا الله. لا إرجاء في الحكم على الإيمان. سُحب هذا الأمر من يد الله. يقرر الذين صادروا الدين على هذه الأرض مصيرك في السماء. لا حوار مع الإيمان. الإيمان هم. الله هم. المصير هم. أنت مصادر وكفى.


* * *


الحقيقة موجودة. هي مصير، صيرورة إلى المطلق. الإيمان لا علاقة له بالحقيقة، لا يوصلنا إلى الحقيقة، الإيمان وجهة نظر وحسب. يؤكد لنا الإيمان ما نعرفه أو ما نقرأه، لا الحقيقة التي نصنعها بمقدار ما نصنع الصيرورة ونتطور معها إلى المطلق، إلى تلك اللانهاية التي نسميها الله، ويعطيها الآخرون أسماء مغايرة.


الحقيقة موزعة. خُلقنا قبائل وشعوباً. خُلقنا هويات متعددة، خلق كل منا في هويات متعددة. لدينا الحقائق نسبية حسب كل مجال من مجالات النشاط البشري في المعرفة والعمل والإنتاج. لا تتولد الحقيقة إلا من السعي للقلق والتوحد في اللانهاية. لا تولد الحقيقة من أدمغة بعضنا مهما كانوا عليه من الإيمان والعلم. والعلم، لا نعلم شيئا عن الله إلا بالمزيد من العلم عما أوجده الله أي عما كان الله سببه. خلق السماوات والأرض وما فيها، أما تتفكّرون. الفكر يكون بالتجربة والتأمل المجرد. الإيمان لدى أصحابه ليس له علاقة بالتجربة أو بالتأمل. لو قرأ هؤلاء النص المقدس لوجدوا أن كثرة مما ورد فيه من «حقيقة» هو نصوص متشابهات. اكتناه المتشابهات يتناقض مع الإيمان المطلق والمنبعث من قراءة بضعة نصوص لمن سلف.


* * *


يدعون الحقيقة ويصادرون الدين، وعن طريقه يصادرون المجتمع. مشكلة الاعتدال والتطرف الدينيين هي ليست في أي مكان تضع نفسك، أقرب لهذا الطرف أو ذاك في الصراع. المشكلة هي في مساحة الدين في المجتمع، وهل يترك الدين لغيره حيزاً آخر. عندما يكون الدين كل المجتمع، وهذه حالتنا، يكون المجتمع كله متطرفاً، لأن الدعاء لا يتسع لشيء آخر كالسياسة أو الاقتصاد أو العقل أو الروح. يصير كل شيء.

 

إنه اعتقاد يقرره أهل السلطة، والاعتقاد يتحول إلى إيمان. المهم التقيد بالطقوس. يصير الدين هو الطقوس وحسب. حركات يكررها الأتباع. تخلو النفوس عندها من الإيمان. ينقلب الإيمان على نفسه. يلغي نفسه.


ما زال موضع الدين في المجتمع واحداً من المحرمات عندنا. أصبح الوضع أكثر إحراجا لمن يريد النقاش مع الاستبداد وسيطرة السلطة الدينية من أهل الايمان. منذ سنوات تحالفت السلطتان، وربما سيطرت الواحدة على الأخرى. السؤال هل تتفكك الواحدة منهما بتفكك الأخرى. إن غداً لناظره قريب.