الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معركة الصورة/ بقلم: عبد الصمد بن شريف

2016-10-18 09:46:20 AM
معركة الصورة/ بقلم: عبد الصمد بن شريف
عبد الصمد بن شريف

 

أصبح من تحصيل الحاصل التأكيد على أن عصرنا هو عصر أعلامي بامتياز،لأن كل المؤشرات والمعطيات تحتشد وتنتصب قرائن  دامغة تثبت بقوة ، أن كل مجالات الحياة والمكونات الأساسية  للدول أصبحت تشتغل وفق منطق يتحكم فيه الإعلام ويؤثر على ضبط إيقاعه ،ولا يقتصر الأمر على جانب التأثير الرمزي المتمثل في أنتاج عدد من الخطابات والحمولات التي تبثها وسائل الإعلام وتعرضها على الجمهور ليتفاعل معها أو يصدها بردود فعل سلبية ،بل نجد أن  الإعلام في وقتنا الراهن بتنوعه وتعدد وسائطه  تجاوز إلى حد كبير  هذه الوظيفة وبات أداة تدخل قاسية وصارمة  ومفاجئة تفرض   بعض الاكراهات والضغوطات على صانعي القرار السياسي والاقتصادي، بغية الدفع بهؤلاء إلى ردم تلك المسافة المفتعلة القائمة  بينهم وبين واقع مجتمعاتهم .ورغم أن الإعلام لا يمكن أن يقدم حلولا جذرية  لعدد من الأزمات  أو يجترح بدائل ممكنة لإشكاليات معينة ، فإنه مع ذلك يساهم في بلورة بعض الحلول أو الدفع إليها كما يفتح مسالك للتداول في قضايا  تهم المواطنين واستقرارهم ومصائرهم .

 

إن الإعلام  ضرورة حيوية لا محيد عنها  لاشتغال جيد للديمقراطية، ولا ديمقراطية جماهيرية  وقاعدية بدون إعلام ،لآن هذا الأخير وما ينطوي عليه من خصائص ،وما يقوم به من أدوار وما ينهض عليه من أسس ومبادئ وقواعد ومعايير، يخلق مساحة للتفاعل والتقارب بين النخب وأصحاب القرار والمواطنين ،وهو إلى جانب ذلك  يمنح هؤلاء إمكانيات لا حصر لها لفهم العالم وتجسيد قيم التواصل غير المنفصل عن الديمقراطية  في شتى أبعادها ،علما أن المواطن الذي يقضي سحابة يومه في تدبير شؤون حياته ،يظل بحكم موقعه في التراتبية الاجتماعية والوظيفية بعيدا عن مراكز صناعة القرار السياسي والاقتصادي ،وأحيانا لا يخبر بما يدور  حوله .ومن هذا المنطلق تتضاعف أهمية وفعالية وقيمة الإعلام خاصة السمعي –البصري والالكتروني من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التى  تملك قدرة هائلة على إنتاج سلسلة من الصور والإيقونات التي من شانها تقليص المسافة بين الفاعلين الذين يملكون سلطة سياسية أو اقتصادية أو  ثقافية أو إدارية وبين المواطن .

 

لقد أصبحت للتلفزيون سلطة تعود في المحل الأول إلى الطفرة التكنولوجية  الهائلة  التي خلخلت كثيرا من المسلمات والصور السائدة  في حياة المجتمعات المعاصرة، وأفرزت ثقافة جديدة،  وطرائق تواصل ثورية،  أصبحت تلعب دورا أساسيا في   تشكيل وعي أجيال بكاملها ،كما أن هذه الطفرة   أفسحت في المجال أمام انجازات غير مسبوقة في تاريخ الاتصال  والإعلام ،حيث جعلت من التلفزيون وسيلة إخبار تحدد الخبر ومواضيع الساعة  ودرجات أهميتها .ونظرا للسرعة المذهلة  التي تنقل بها الأحداث وتبث بها الأخبار والمعلومات  ،فإن التلفزيون غير إيقاع حياة الناس ، وتدخل بكيفية أحيانا لاشعورية في صياغة أفق انشغال جديد لم يكن موجودا من قبل .فالمشاهد الذي كان سجين قنواته الوطنية التي لا تتعدى لم تكن تتعدى  اثنتين أو ثلاثة ،أصبح بمقدوره إن يختار بين مئات  القنوات التي تبث على عدد من الأقمار الصناعية  ،كما وجد نفسه شريكا في استهلاك الصور التي تتدفق عليه من كل بقاع العالم .وبما أن الصورة تملك سلطة وجاذبية  وقدرة على الإقناع الفوري وشحنة عاطفية  وعناصر تأثير مهيجة أو مهدئة ،فإنها تختزل آلاف الكلمات  والبرقيات ،ولذلك فإن رجال السياسة   والاقتصاد والتكتلات التي تدافع عن مصالحها  لايدخرون  جهدا في استثمارها إلى ابعد مدى لخدمة جملة من الأهداف  وتوجيه حزمة من الرسائل إلى من يهمهم الأمر،ولا غرابة كذلك في أن يقبل كل فاعل سياسي أو عضو في مؤسسة برلمانية على التعاطي المبالغ فيه أحيانا لهذه السلطة  متعددة الوظائف .ولا احد من هذه الفصيلة يتردد  قيد أنملة في الهرولة على  استوديوهات التلفزيون إن وجد على ذلك سبيلا  قصد تكذيب أو تأكيد معلومة أو الدفاع عن موقف أو الرد على اتهام أو إشاعة وإظهار قدرته على ضبط النفس ومواجهة العواصف والأزمات  واللحظات الحرجة  وإقناع المشاهدين بأنه لن يرضخ لاكراهات ومشيئة الصور التي قد يكون هو احد اللاعبين الأساسيين في نسجها .

 

 المسلم به في التقاليد الإعلامية الديمقراطية هو أن استديوهات التلفزيون والإذاعة فضاءات لتقابل الآراء خاصة في السياقات المتوترة  عندما  تندلع الأزمات و تنشط الصراعات وتتباين المواقف حول قضايا جوهرية تهم عموم المواطنين .فهناك من يرى الواقع  بنية متناغمة ومنسجمة ومتكاملة  ويعتبر أن حدود رؤيته وتقويمه للأشياء هو ما يجب أن يكون مرجعية ومعيارا ن لكن الشارع له نبض آخر ورؤية مغايرة  ولا يترد في صب غضبه واستيائه على من يتدبرون شؤونه .وتتخذ هذه المشاعر الساخطة أبعادا درامية في كثير من الأحيان  تزداد احتقانا  عندما تتدخل وسائل الإعلام ،خاصة شبكات التواصل الاجتماعي والتلفزيون  لتوسيع مساحة الهيجان  والسخط.لكن هناك مسار آخر  قد يقلب الأمور رأسا على عقب ،   عندما تعمل وسائل الإعلام على تحويل أزمة من الأزمات إلى مجرد حدث  عبر تطويق تداعياتها  وحصر ذيولها وامتداداتها باعتماد أسلوب الحوار وأخذ آراء كل المعنيين وأيضا عبر تهيئ الشروط النفسية  لاقناع الاطراف المتصارعة  او المتنافسة بالاحتكام إلى منطق التفاوض والحوار والإنصات المتبادل.

 

وإذا كان الإعلام  في شكله الجديد  و الصادم بكل المقاييس ،يشكل سلطة مضادة  شريط أن لا يخل بالقواعد المهنية وأخلاقيات الصحافة ،فإنه يتعين على صانعي القرار السياسي والاقتصادي  أن لا يحجبوا شمس الواقع بغربال انشغالاتهم الضيقة ومصالحهم الشخصية ،وعليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار الرسائل التي تحملها الصور الموجهة إلى الرأي العام ،لأن عدم التفاعل الايجابي والإنصات الواعي والتعامل العقلاني مع حمولات ومضامين تلك الصور ،لان عكس ذلك قد يفسره الجمهور بأنه شكل من أشكال التعالي والتنصل من تحمل المسؤولية ،وقد يفهم على انه  تستر على مشاكل الواقع وأعطابه .

 

استنادا إلى كل ماسبق ،يمكن الجزم بدون تردد ،أن الصورة هي  الحقيقة  الصارخة  غير القابلة للنفي أو النقض  ،وأن معركة الصورة هي المعركة الحقيقية، ومعركة من أجل إظهار الحقيقة  ، لآن ما نراه وما نشاهده  لا يمكن تكذيبه ، فهو الدليل والبرهان والشاهد ، لنستحضر صورة  الطفل السوري" ايلان  الكردي "الذي لم يتعدى عمره ثلاث سنوات، عثر عليه مرميّا على شاطئ بودروم  بعد أن ،  قال بكل عفوية وبراءة  "بابا.. أرجوك لا تموت"، وكانت  هذه  آخر كلمات يائسة  نطق بها  أثناء مقاومته مع والديه وأخيه الأمواج بعد أن انقلب القارب الذي كان ينقلهم إلى أوروبا هربا من العنف والفوضى وحمامات الدم  في بلاده. بقيت له سُترته الحمراء وسرواله الأزرق فقط. حتى وجهُه انقلب لتداعبه  الأمواج.. هذه الصورة –الصدمة  أثارت  عند نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتلفزيونات العالمية حالة من الغضب والجدل لدى الشعوب العربية والعالم أجمع. الم تختزل  هذه الصورة  التراجيدية أقصى درجات الألم  ؟ الم تكن  نقطة تحول في النقاش  الذي تفجر حول  السماح لطالبي اللجوء من سوريا  العبور أو الاستقرار  في عدد من الدول الأوربية؟  بكل اختصار تلك الصورة أدمت الوعي الكوني  وزعزعت  الضمير الإنساني في كل مكان.