الجمعة  26 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جوليا كريستيفا / فيليب سولرز: زاوج الفكر والجسد (3/3)

​ترجمة: سعيد بوخليط

2019-08-26 09:19:32 AM
جوليا كريستيفا / فيليب سولرز: زاوج الفكر والجسد (3/3)
جوليا كريستيفا وفيليب سولرز

 *صامويل دوك: لقد هذبتم الاختلاف في علاقاتكم الزوجية، وبما أن المجتمع النرجسي لا يتحمل قط ثنائيا يعيش هذا الاختلاف؛ فقد رفضتم الامتثال للعبة المجتمع. مع ذلك، يظهر لي بأن الأمر لا يتعلق فقط باختيار ''سياسي''، بحيث يبدو لي أن اختياركم سياقا مضادا لسولرز، كان سينتهي بكم في نظري، نحو طريق مسدود بخصوص تصوركم عن "التداخل النصي": يعتد بحضوره على مستوى تجدد بنائكم الشخصي، كما أن بصماته واضحة بخصوص كتاباتكم فكان بالنسبة إليكم أساسا فكريا وعاطفيا. 

*جوليا كريستيفا: يعتبر عنوان فيلم ''حكايات عشق وجسور"، لصاحبته تيري وين داميش (فيلم وثائقي عن كريستيفا، قناة فرنسا 5)، دقيقا جدا. انطلاقا من تفاؤلي، فأنا أعيش فترة الثلث الثالث من حياتي، بالتالي يقترب الموت أكثر فأكثر، مخاوف وارتجاف بالتأكيد، وأحس بالفزع نحو النتائج، فأنا مقتنعة جدا مثلما قلت سابقا، ما دمت قد نجحت في أن أحوِّل إلى الخيال جوهر هذه ''الأنا'' التي ''تسافر'' و"تتخلص من قيودها"، بالطبع، يندرج ضمن ذلك المثقفة والمواطنة الفرنسية. في هذا الإطار، لا تمثل عدائية وافتراءات النزعة العشائرية الفرنسية، سوى طريقا مضلِّلا، يمر بجانب هذا ''السفر'' وكذا دوره باعتباره "جسرا''.ليس فقط ''ممرا" بين الحقول الأكاديمية، ومدارس التحليل النفسي والتعدد الثقافي والنزاعات الدينية التي نفهم من خلالها أوروبا والصين، لكن أيضا بين شخصيتي فيليب وأنا.

* صامويل دوك: شرعتم في مدح السري، منذ رواية الساموراي، انطلاقا من سياق شخصيتي إيدالواي وأولغا: "يلزم بكل بساطة الحفاظ على سرية (تاريخهما)، والعناية به، هذا كل شيء. ليس لمجرد أن لا صلة  لذلك بمكر الخطأ، ثم تستر الخيانة وكذا الوعي الشقي لكوميديا فودفيلvaudeville؛ فالسر بمثابة خيمياء يمنحنا حق البحث عن أنفسنا دون جرح الآخرين.الاحتراس الهادئ الذي يعظِّم إرادة القوة ويكبحها، تتحقق المرأة فعليا من خلال السر، بينما يتلف الرجل الأسرار من فرط تجميعها. عندما تتوقف على أن تظل مجهولا بالنسبة لذاتك، فماذا تصير لحظتها؟ حكيما! ليس بالضرورة. بالأحرى، مريضا، بل تقريبا ميتا "(جوليا كريستيفا، الساموراي، ص309 ).

*صامويل دوك: أعتقد أن كل واحد منا تقاطع في يوم من الأيام مع شخصية إيدالواي، بحيث نلج منطقة مضطربة يحدث داخلها شيء شيطاني، حينما نستحضر إشكالية الاختيارات الجاذبة لكما.

*جوليا كريستيفا: يعكس الأمريكي إيدالواي عشيق أولغا، مزيجا رومانسيا، يمكننا السعي إلى اكتشاف النموذج أو النماذج، ونمارس دور الباحثين. يمكننا اعتباره مثلما فعلتم، بمثابة وجه كوني، أو الاقرب إلى النص المستشهد به، يرمز لجيل، بل بنية ذكورية متواترة: الرجل المهووس بكفاءاته، المنجذب إليها، وكذا طموحاته ودقته المصممة بعناية، مثل إيدالواي صنف يجذبني أحيانا دفعة واحدة، ثم لِماما بكيفية دائمة، أيضا انفعاليته المضطربة المصحوبة بالضعف، تثير اهتمامي مثل نجاحاته المهنية التي يحكمها غالبا تسيير شديد التدقيق لكن بغير رؤية. تكشف اليوم الشفافية الإعلامية هذه الأعطاب لدى السياسيين، لاسيما الذين ضلّوا عن المثال الأعلى الديمقراطي، منخرطين أكثر فأكثر بحيوية وانفعالات وهستيريا بيد أنها حالة تهم كل شخص، من العالِم الكبير وصولا إلى المقاول الذاتي العابر، حينما تتحجر الذكورة ضمن الهوس بالسلطة. يجذبني هذا الاقتفاء الرجولي للسيطرة وكذا الصورة، بحيث يضعف في خضمها الرجال أسرع من النساء اللواتي يظهرن في نهاية المطاف أكثر قدرة، بل "اختراق الدرْعِ"، أو على الأقل التخفيف من وطأته بفضل حساسيتهن. يعجز صاحب الفكر المتسلط عن الاتفاق، لكنه يتطلع  إلى ذلك؛ وحينما يمتلك زمام السلطة، لا يمتنع أبدا كي يتناول الرأي للاستشهاد عن انتصاراته. أنا لا أستهزئ، بل أشفق على هذا النوع من المعاناة التي تشكل جانبا من التركيب الذكوري، واليوم أكثر من أي وقت مضى. ثم يتسع المشهد مع تحرير النساء وكذا إعادة تشكيل الأُسر، ضمن أشياء أخرى، لكن من العبث التأكيد على كوننا نعيش "نهاية الرجل الغربي". الرجولة بصدد التحول، حيث الديمقراطيات بمثابة القوة المتقدمة لهذه التغيرات الأنثروبولوجية. الوضع الذي يقتضي من النساء أيضا، حنكة أكبر بخصوص التشكل إلى اثنين، حتى "لا يموت الرجل والمرأة، كل واحد من جهته'' مثلما أبديا خشيتهما في هذا الإطار أو كشفا عن تخمينهما، كلا من ألفريد دي فيني ومارسيل بروست، إذن، حسب إعادة تركيب الحب هاته، تسامحتُ جدا فيما يتعلق باختيار السرِّي. أنتَ على حق، نعم لقد مدحتُ السرِّي، هل يعتبر اختيارا أنثويا؟ ربما أحيانا وليس بالضرورة. لكنه بالتأكيد، يعكس سمة أو حاجة شخصية.

* صامويل دوك: أتابع أفكار تحليلكم، لنعد إلى شخصية ذكورية أخرى، أقصد ''فيسباسيان'' . 

* جوليا كريستيفا: تكشف علاقة أولغا/ إيدالواي عن لا تماثل جوهري داخل الثنائي رجل/امرأة، بلغ أوجه على امتداد صفحات روايتي: الرجل العجوز والذئاب. لقد ذهبتُ أبعد ما يكون بخصوص التعبير بالكلمات عن العنف بين ''فيسباسيان'' و''ألبا''، حول المعاملة السيئة للنساء فيزيائيا وسيكولوجيا ،الملازمة لمجتمع يتحول فيه الرجال إلى ذئاب، ليست متع الرجل والمرأة نفسها، ولا أيضا محطاتهم المجتمعية، أن نتأسف على ذلك ثم نحاول تغييره، هنا تكمن القضية: يقبل المجتمع بسهولة أن يكون الرجل عنيفا والتباهي بمبارزاته وكذا مكاسبه، أنا من اللواتي يعشن متعهن وشغفهن بكيفية أكثر تكتُّما، ربما لأن الجسد النسائي النافذ  نحو الباطني النفساني، أكثر خفية والتواء صوب وجهة الداخل، قد يعود أيضا هذا النزوع إلى طبيعة تربيتي وكذا معاركي، أعتبر بأني أدافع عن عشقي وصداقاتي، عندما أبقيهما جانبا.

*صامويل دوك: اتخذ بسرعة الوجه العمومي لعلاقتكم مع سولرز، شكل تأمل في نصوصه الروائية: كتبتم سنة 1968 بحثا عنوانه ''إحداث الصيغة" انطلاقا من روايته "أعداد''، ثم دراستكم الأخرى ''التعدد الحواري'' سنة 1977. هل تفحصون الشخص أم الكاتب؟

*جوليا كريستيفا: أو ''المتمرِّد''، كما يقول عن نفسه. كنت وما زلت دائما مأخوذة إلى كتابة سولرز المعادل الصحيح ل"شخصيته'': السرعة والتكثيف، توخت هذه الحركات عبر اللغة، العثور على ''كلمة جيدة، رحبة، طبيعية'' (أفكر في كلمات مالارميه، بين طيات كتابي ثورة اللغة الشعرية)، فتنتج المجاز جوهر الشعر (على سبيل المثال "الإنسان نبتة مفكرة"، "الأرض زرقاء مثل برتقالة"). يسود لدى فيليب سولرز، هذا الحجز والتكثيف، الأفكار والسرد. يقتطع جملة، تعبيرا أو كلمة، مثل نسر يهاجم فريسته. ويظهر إمساكه بمثابة الممكن الوحيد، الأكثر إيحاء، بالتالي لا يتوقف عند التفسيرات. هكذا يحدث عند كاتب وخز المفهوم بكيفية حية، أو في إطار الراهن، يَرِنُّ مع أخرى، ثم تنبجس مفاجأة جراء هذا التصادم الغريب ظاهريا: تصعقون للوهلة الأولى، لكن سرعان ما يتجلى الإيضاح، ثم يبرز "تأويل'' جديد، وكذا "رؤية أخرى للعالم". تُمارس إضاءة رامبو مثل فن للقراءة والكتابة والحياة. هل يتعلق السياق بالفلسفة، التخيل، أو الشعر؟ يبدو له الحكي نهجا تعليميا أكثر مما ينبغي، والسينما فنا بطيئا جدا: لا نذهب إلى السينما، ليس فقط بسبب حظر التدخين داخل القاعات. لكني أتابع مختلف الأفلام الجديدة، بفضل مبادرات تلاميذي، وكذا أحبائي ماريان وجان فرانسوا رابان، مختصين نفسانيين وعاشقين حقيقيين للسينما، واللذين تمكنت أيضا بفضلهما من اكتشاف سحر السينما اليابانية.

يمنح هذا يوميا، بكيفية غريبة رشاقة دائمة، تؤشر عليها نوبات غضب. مع انسحاب بليغ  بخصوص علاقاته ب ''الأفراد'' و''العالم''، حتى وإن "ظهر'' سولرز غالبا هنا أو هناك، لكن بشكل أقل خلال السنوات الأخيرة،  بيد أن قناع الراحة هذا، لا يعني عطالة، وإنما تيقظا حادا، خلف الاطمئنان، بحيث يستحسن سولرز التحليل النفسي، رغم استخفافه بالمحللين النفسانيين وتأكيده على أن فرويد أضحى متجاوزا، بالتالي آثر مقابل ذلك تقديم الرأي السياسي، شريطة التعبير عنه في إطار  بصمة للطريقة الفرنسية.  

*صامويل دوك: ينبغي أن تنجزوا دراسة حول كتابات سولرز؛ لأنكم لم تضيفوا شيئا في هذا الإطار منذ صدور رواية ' أعداد" (1968)، وكذا "H" سنة (1973). لقد توقف الصحافيون عن القراءة، ولم نعد نعاين دراسات نقدية جادة.

*جوليا كريستيفا: ستبتسمون… يلزمني الاعتراف لكم، بأني لست نزيهة. أعتقد بأن كتابة سولرز، تندرج ضمن السلالة القوية ل"الأقوال المأثورة'' عن الأخلاقيين الفرنسيين، حيث تتقاطع مفاجآت القصيدة، وسلاسة الطاوية ثم الحضور الكلي لجنسانية تنويرية، إنها كما يقول سولرز بمثابة حركة ''المتحرك''. من هنا الفارق عن الروائي الاستعراضي، الذي يخلق انطباع الجمود، الصمت، أو على العكس، أقصى درجات الإثارة. يلعب سولرز ويسجل مثل بلاتيني أو زيدان، فلا يضيع أي فرصة نحو ''شباك مرمى'' الخصم خلال المباراة الكبرى للبشر. تجلى سلفا زخم هذا الفوران مع روايات "أعداد" (1968)، "قانون" (1972)، و"H "(1973 ثم جنة (1981). خلال تلك الحقبة، أمكنني القول بأن سولرز يعتبر ''موزارت منتميا إلى منطقة التبت''. ثم  بالنسبة لأعماله الروائية الأخيرة: "رواية حقيقية" (2007)، "مسافرو الزمان (2009)"، ''انفراج (2012)"، "مدرسة اللغز (2015)"، ولاسيما "حركة (2016)"، هكذا تشتغل دائما نفس الحدّة ،التي لا يتخلى عنها سوى في مدينة بوردو أو لحظة احتسائه نبيذ الويسكي(JB)… لم يغب عن ذهني قط بأن لوي مولينيي، جدّه من جهة أمه، كان بطلا لفرنسا في المسايفة. وبالفعل، فقد عاش فيليب سولرز وكتب حقا مثل محارب. 

*صامويل دوك: بدل الانكباب على قراءة أعماله، يعتب البعض على سولرز انخراطه في السياسة، بحيث يصطف عموما إلى جانب هذا الرأي أو ذاك. مارأيكم في هذا التأويل؟

* جوليا كريستيفا: في الحقيقة، ساهم سولرز في الحركة، حركة الحياة، الفكر مثلما تريدون؛ وبما أنه فيزيائي، وجسدي، يشعر كأنه من جماعة الجيرونديين (حزب سياسي)، فقد شكلت السياسة بالنسبة إليه جانبا متمِّما لهذه الحركة، أي حركته. لذلك، كما تلاحظون، لا يقف الأمر عند مجرد "اهتمامه بالسياسة''، بل يتذوق على الدوام من خلالها تشابك الحب والكراهية، بذرة التركيز، وجسد الكتابة. إنه شغوف بها. حروب ثم حروب العصابات بين السياسيين، فيستخلص هذا الوحش حربا للذوق، هكذا يجري الأمر: نعم يخفي المحارب بالفعل وحشا… أما عن اختياراتي السياسية، قد تتلاقى أحيانا مع اختياراته، وتتباين مرة أخرى، بالتالي لا يتعلق الأمر أساسا ب ''رأي سياسي جاهز مسبقا"، لكن يتخذ  النقاش انعطافا، بوسعنا أن نقول عنه، ميتافيزيقيا، إيستيتيقيا أو سيكولوجيا… .

*صامويل دوك: ليست غريبة عنكم، إذا تجرأت على القول، هذه الحالة الذهنية.

*جوليا كريستيفا: ربما ينبغي اعتقاد ذلك، وإلا انعدمت الرابطة الجامعة بيننا ضد الرياح والتيارات. لكن ''تناظرنا'' معا ليس فظَّا، وعلى نحو كبير أقل عراكا، بحيث يعكس في كل الأحوال، تركيزا آخر.

*صامويل دوك: على أية حال لم تكن العلاقة التي نسجها سوليرز مع دومينيك رولان (عشيقة سولرز فترة شبابه) سهلة الوقع بالنسبة إليكم.

* جوليا كريستيفا: لماذا؟ هي علاقة شغف ترسخت وتشكلت سلفا قبل لقائنا، مع امرأة تنتمي لجيل سبقني، كان لدي الإحساس بأنه موضوع عشق أولي، أمومي. تهم هذه العلاقة والدة سولرز أكثر مني. لاسيما أني لم أشعر قط بأي غيرة نحو أمي، المقتنعة بأن أبي فضَّلني عليها وقياسا للجميع. حتما، اعتقادي بذلك يؤشر على عَرَض، إن لم يشكل على الأقل قوتي، استحال بالنسبة لفيليب التخلص من  نفوذ العلاقة الأولى، فقد كان ارتباطا جوهريا ويدين سولرز كثيرا إلى دومنيك رولان بخصوص المكانة التي يحظى بها اليوم. لقد صاحب فيليب دومنيك رولان بوفاء وكرامة غاية موتها، ومثلما عَبَّرتُ سابقا، نمثل ضمن حياتنا المشتركة، زوجين-عاشقين: فأنا الزوجة-العاشقة، ثم فيليب بمثابة العاشق-الزوج. كنتُ المتطفِّلة والشيء الشاذ، ثم المزعجة ضمن سياق الإفراط ذاته. وضعية جعلت اغترابي استثنائيا لا يمكن تعويضه، غير مُدانة ولا مُجبرة، بل شعرت أني تخلصت من أغلال ضمير الأنا الأعلى، واستسلمت لخصوصيتي. واتضح بأن الانفراد منبع الحرية، لا تلزمني شبكة معينة؛ بل أرتبط بأخرى جديدة، أشارك، أنخرط، أن  يُنظر إلي بعين الاعتبار، أو غير ذلك، قد تذهب حدود التقدير غاية تتويجي والاحتفاء باسمي، لكني أظل دائما منفصلة و"غير نمطية''. ينطبق نفس الوضع على فيليب، لكن بكيفية أخرى، تحدث هذه التوافقات بين اغترابين صدمة مثل بداهة اللقاء العاشق: هكذا الأمر، دون أن يشكل هذا رأيا، فأنتم تنتمون إلى "شيء ما'' طبيعي وتاريخي كالألب أو فيرساي، تعرفون مدى تذوقي للمجازات الهائلة، خاصة عندما يسمو الاغتراب نحو كونه تجربة وحظا.

*صامويل دوك: هل واجهتما معا، وبكيفية مختلفة، منع ارتكاب المحارم؟.

* جوليا كريستيفا: أقلية هم الرجال الذين لا يخشون المرأة، حدّ تحملهم، أبعد من الانتشاء الجنسي، هذه العلاقة المتبادَلة ذات الدينامية الحرارية، وكذا بين اختلافين غير قابلين للتصرف فيهما. مع حب متبصر، قد يقوم "بين طيات الحب نفسه''، بالتشديد على كلمة حب، ذلك المتعلق بالأحاسيس المحتشدة، والتي سخرت منها العظيمة غابريل كوليت. الذين يعتقدون بوصولهم إلى ذلك يختبرونها بشكل عام حسب استيهام تدنيس حظر المحارم المُؤَسِّس للبشرية، وشهادة جورج باطاي قوية بهذا الخصوص. ليست حالتي؛ لأني أتدبر أمر عقدتي الأوديبية  الأبوية والأمومية بوسائل أخرى لا تقل إفراطا: يأخذ مناحيه عبر المنفى والالتزام الثقافي؛ ثم يكتمل هذا المسار دون نهاية مع التحليل النفسي: تحويل، توضيح، تسامي. بالتالي، أنا من صنف النساء اللواتي يرغب الرجال في الزواج بهن. طبعا، المسألة غير مطروحة، بحيث انتهى الأمر وبكيفية مطلقة لا رجعة فيها.

* صامويل دوك: ورد في روايتكم  ساعة الحائط المبتهِجة، بأن الزمن هو الشخصية المحورية للثنائي العاشق.  

*جوليا كريستيفا: فعلا. لكن كيف؟ باختلافاته وكذا استقلاليته، فلن يستمر الثنائي سوى إذا صار عنده الاهتمام مقوما جوهريا. لكن دون خلطه بالأمومة. يشكل الاعتماد المتبادل تجربة تقع على كاهل الجنسين. تقوم في قلب التَّأنسن، ولا شيء أقل، حسب اعتقادي! ينبغي الوعي بازدواجية الاندفاعات اللاإرادية وكذا الأهواء: تعلُّق وعدوانية، حب و كراهية، تحويلها إلى صلة، ثم إمكانية التكلم والتفكير. يعمل الاعتماد المتبادل ضد النفوذ الأمومي، حتى يصبح الانفصال على العكس، ممكنا ويتيح الاستقلال الذاتي لقاءات جديدة. أستمع إليك، تستمع إلي، أصغي إليك، تصغي إلي، وضع يغيرنا. تثق في، أتعدد، أنتَ تنضج، علاج يتجدد في إطار الاعتماد، تكمن ''الثقة'' و''إعادة بدء'' للصلة.   

*صامويل دوك: تركزون كثيرا حول الفرادة، بحيث لديكم هذا المفهوم، لكن أي فرادة تقصدون، ثم كيف ترون تلك المتعلقة بكم؟

*جوليا كريستيفا: انتفاء لأي جماعة أو عشيرة أو انتماء أو طائفة  فلا جدوى من ذلك. أيّ ادعاء؟ أعلم جيدا! وباء نسجه المنفى. عندما تجدون أنفسكم وسط فضاء مثالي (باريس، فرنسا، مثلا) لكنه بارد، منغلق، إن لم يكن عدوانيا، تعلمون لحظتها بأنه فقط يلزمكم الاعتماد على ذاتكم. لا أسرة، لا جذور، لا شيء تخسره، ثم بعض الشعارات التي تلهمنا الطاقة والسند: "لا شيء في جعبة البروليتاريا كي تخسره سوى أغلالها'' (ماركس)؛ ثم تأويلي النسوي للمقولة، لا يوجد شيء لدى المرأة لتخسره، اللهم قيودها أو كذلك: "لا شيء تمسك به اليدان، بالتالي لا شيء تطويه جيوبك ''(سارتر). أو: "لا تعتمد سوى على نفسك'' (ماو). فضلا عن ذلك، كنا على هذا المستوى متشابهين كثيرا، سولرز(الجيروندي)، ثم أنا (البيزنطية) وسط فرنسا منشغلة بحرب الجزائر، تعيش أوج انهيارها الفكري، وقد أثارته الرسائل الفرنسية لصاحبها أراغون وكذا سيرة غابريل بيري ''أيام الغد العذبة'' بحيث مثلت عناوين ثائرة على التكتلات، أو الشبكات، مثلما نقول اليوم.

إذن بالنسبة لوضعية تفتقد للجاذبية مثل الآنفة الذكر، لا يبقى من خيار سوى التفاني حتى النهاية. تحمس جاف، عفوي، متطرف، خلق لدى البعض انطباعا بأن حلقة ''تيل كيل، مجموعة إرهابيين''.يبقى التأمل، منيعا وحارقا، لكنه لا يعيبه أن يكون مُقْتسما، وبالتالي مدعوما حسب، هذا المعنى. أحيانا، على قاعدة سوء الفهم، لكن أيضا نتيجة انجذابات عاشقة، نحو لغة دلافين مرموزة، عويصة بالنسبة لهؤلاء ''المطمئنين''، وأصحاب القرار، ثم المتخاطبين. كان الاتصال أول بعد ترددات، مع عائلة فيليب. ثم رولان بارت، الذي أبان عن استئناس لا يوصف، وأضفى دلالة جديدة، أوسع، على الغريبة، والغرابة: أيهما؟ غربتي؟ أو تلك المتعلقة بحالة الكتابة، حينما ننغلق ويحدث التقاسم في إطار الحميمي؟ ثم لوسيان غولدمان، ماركسي لوكاتشي، باسكالي ملحد، بنيوي جدلي. وإيميل بينفنست، لساني صارم والموقِّع أيضا على عريضة للسورياليين. والناشر كلود دوران، الأشبه بالإلكترون فيما يتعلق بحرية النشر. إذن مثلما تلاحظون ركام تناقضات، أخذت طريقها نحوي والعكس بالعكس. علاقات تضامنية عفوية متقطعة لكنها فعالة، تجاوبت مع هذه الطاقة المسافرة، التي ربما انتهت إلى الاخفاق، لو لم تجد أمامها تلك العلاقات. بفضل تلك الأسماء التي ذكرتها، تطورتُ غاية الوقت الحاضر سواء داخل فرنسا أو خارجها. نماذج غير مألوفة، ولا مصنفة، استمرت على هامش أسرهم الخاصة أو جمعياتهم الأخوية: مثليو الجنس خارج جماعة الضغط اللوطية، يهود مستقلون، ماسونيون غير مطمئنين، كاثوليكيون مضطربون. ينتفي"الوسط'': بل، مؤثرات جاذبة تعمل وتضمحل، تغفو وتتأجج. مثلما ترون، تعتز الأجنبية بكونها كذلك. ثنائي (جوليا /فيليب)غير نمطي ومنعزل، ثم التاريخ المتعدد عبر تجربة الكتابة.

*صامويل دوك: الباعث على الاسترخاء، هذا الانطباع بأن الحياة، الوجود، تجسد مختبركم. مع ذلك، وكما تعلمون، فتأويل أو تحليل إحدى الأعراض لا يقوم دائما، مقام الألم الذي يحدثه. أتذكر من خلالكم فرجينياا وولف، المشبعة بالأحاسيس خلال كل لحظة، اندمجت ثم امتدت في الزمان واستحوذت على العالم.

*جوليا كريستيفا: ربط غريب، بحيث أثرتم فزعي! فيرجينيا وولف الفريدة من نوعها! لا تنسوا بأنها انتحرت. أما أنا فلست بعد مستعدة لذلك، ولن أكون قط كذلك. حاولت "نيفي" الشخصية التي تمثلني في رواية ساعة الحائط المبتهجة، إغراق نفسها، لكن ''تيو'' أنقذها. مع ذلك، أفهم طبيعة حساسيتكم من المنفى المقزِّز، قد يتحول عند المكتئب إلى إحساس قاتل بالدونية، ثم العدوانية التي تعود إلى الداخل، نحو الذات، حينما لا تتسم بالهمجية ضد ''الأصول البناءة ''؛ بل على العكس، ينصب تركيزي حول الاغتراب المتمرد لفيليب، وكذا اغترابي المنعرج، إذا أمكنني القول: إنه يثور، بينما أتعدد.لا أعتقد بوجود بديل عن إشارتكم بخصوص عرض المرض والألم المترتب عنه. يمكن تفكيك هذه التجارب والارتقاء بها على نحو لانهائي. يوجد عدد من الوسائل لتجنب الاكتئاب المرضي تقريبا، سبق لأرسطو الاستدلال عليها، هكذا تبرز الدهشة نفسها! عند أساس القلق الفلسفي. ألا تعتبر الحضارات المفتقدة للاغتراب، حضارات ميتة-حية؟ يمثل احترام الاغتراب – سواء اغتراب الآخر أو الذات - رئة، والطريقة الوحيدة للتنفس. في هذا الإطار، أكد السياسيون المتبصرون أن أوروبا غير موجودة قط دون أجانبها. لكن لا يكفي مجرد إعلان عن ذلك، بل ينبغي تجسيده وعيشه على أرض الواقع. شخصيا، قادني التحليل النفسي الفرويدي نحو اكتشاف فوائد الاغتراب، ثم تطويرها بوسائل جديدة: التسامي، الكتابة.. هكذا يستمر السفر.

مع ذلك، أعترف أنكم ترصدون الأمور بكيفية دقيقة. لقد ترددت فيما يتعلق بمشروعي المتعلق بالعبقرية النسائية، الاشتغال على حلقة ثالثة مخصصة لفيرجينيا وولف، العمل الذي انغمست فيه، أو الجزء الآخر المخصص لغابريل كوليت حيث نشطت همتي، بيد أني فضلت الزهد الحسي، عندما يقارب إحباطي أقصى مستوياته.

يخاطب مجرى التحولات وكذا الإيحاء المباغت  للغامض، رخاوتي الليلية فأتقاسم بعض تأكيدات حلقة البلومزبري (مجموعة من الكتاب والفنانين البريطانيين): "أن تكتب يمثل سعادة حقيقية، ثم أن  تُقرأ يبقى مجرد سعادة سطحية"، "أن تكتشف نفسك رأسا لرأس مع الشعر والفلسفة، يجعل الخيال أفضل''. وأناقش أشياء أخرى: "تقوم عزلة، حتى بين الرجل وزوجته، فجوة؛ وينبغي احترام ذلك "طبعا، لكني أجدِّد العزلة وأقفز فوق الفجوة". أو أيضا  ''الحياة حلم، بينما اليقظة تقتل''. ربما، أو العكس: الحياة تيقظ دائم، غياب الحلم يقتل. أرتعش وأنا أقرأ الرسائل الأخيرة لفرجينيا وولف: تسمع أصواتا، تحس بأنها أصبحت مجنونة، و"لا يمكنها الاستمرار في المقاومة''.

لكني لا أقاوم سوى ظاهريا؛ بينما ألتجئ جوهريا صحبة كوليت إلى جسد العالم: "الحب، إحدى أكبر الأشياء ابتذالا في الوجود، انسحبْ مما يخصني () أخرجْ من هنا، وسنلاحظ بأن ما تبقى مرحا، متنوعا، متعددا". "تتمثل بالنسبة إلي المأساة الأساسية في هذه التجليات المزهرة، أفضل من الموت التي ليست غير إخفاق مبتذل''. وأيضا، هذه الشعيرة "الكلمة أكبر من الموضوع''، التي يبثها الملحد المتلهف كي يقنعنا بأنه لا شيء يجدر القيام به سوى الكتابة: "تكفيني كلمة من هذا النوع لإعادة بعث رائحة، وكذا لون الساعات المنقضية، إنها رنانة ومفعمة وكذلك ملغزة مثل صَدَفَة يتغنى البحر من خلالها".

* صامويل دوك: أفكر في مود مانوني (محللة نفسانية)، التي ركزت على ضرورة كبت الغريزة وإنعاش النرجسية.  

*جوليا كريستيفا: بالتأكيد، مود مانوني صديقة كبيرة، كنتُ ضمن أعضاء لجنة مناقشة أطروحتها تحت إشراف بيير فيديدا. بعثتْ إلي أولى الحالات المتعلقة بالعلاج النفسي التحليلي للمراهقين، المنتمين آنذاك لمدرسة اختبارية توجد في منطقة بونوي. لكن يلزمني التأكيد: إن تخلص التسامي بالشعور العاشق بفضل الكتابة من ''ابتذاله'' (الذي تحدثت عنه كوليت)؛ فإنه يختلف جذريا أيضا عن خيمياء العلاج. لنقول، من باب الاختزال، إنه مع التجربة التحليلية، فالإثارة الجنسية ''لا تبتذل'' ولا' 'تتجمَّل''. لا يشبع المعالج النفساني غرائز وكذا رغبات الذات الخاضعة للتحليل؛ بل يؤجلها، ويكبتها وفق هذا المعنى. مع ذلك، بفضل صلة التحويل/والتحويل المضاد، يرمِّم التحليل النفسي الجروح النرجسية ويبعث القدرة على الحب. يتأتى هذا، نتيجة التداعي الحر للشخص الخاضع للتحليل وكذا تأويل المحلِّل. النجاح الدائم للتحليل!  مسألة نادرة، لكنها واردة.

هذه الصلة النوعية بين المعالِج والمعالَج، التي تخيلها فرويد، بمثابة رواية أخرى عن الحب بشكل مفارق، ما زالت غير معروفة كثيرا لبنات هذه التجربة التحليلية، ولم يتم تطويرها والتنظير لها كفاية. لقد خصصتُ حلقتي الدراسية داخل جمعية التحليل النفسي الباريسية للتأويل وكذا دوره في القدرة على الإحاطة بالآخر. يبدأ بتعاطف المعالِج مع المعالَج، ثم يتواصل بإفصاح الكلمات عن صدمات قديمة وكذا انفعالات حالية: إصغاء، ثم صياغات تقتضي الكثير من المهارة. الحصيلة، يعمل التحويل على التأليف في خضم هدم المحركين الأساسيين  للعلاج، ويصاحب غريزة الموت التي تهدد تكامل المتدخليْن: المعالَج والمعالِج. تهديد اشتكت منه فرجينيا وولف مؤكدة عجزها عن المقاومة، بينما بادرت مود مانوني إلى مجابهته: تعالج ذاتها عبر معالجة اعتلالات هؤلاء المراهقين وتوقظ إبداعاتهم، لأنها توجد عند الأكثر هشاشة. 

*صامويل دوك: النزوع المدمِّر الذي وصفتموه في قلب العلاج يحاكي ما نعاينه لدى الطفل، الذي يكسر أشياء من أجل اختبار حقيقة أشكال متعلقة بالقرابة، مثلما أوضح دونالد وينيكوت، ثم كشف عن إبداعية المحركيْن الأساسيين منذ العلاقات المبكرة: أمّ– طفل.

*جوليا كريستيفا: إن تأتى لنا، عزيزي صامويل، إدراك أعماق هذه الحياة النفسية التي يكشف عنها التحليل النفسي، فليس لمجرد انتمائنا معا إلى هذا الحقل. كيف نواصل هذه ''البيو'' التي تبرز مع نقاشاتنا الثنائية، إذا لم نستعد النزاعات العنيفة التي تحرك العولمة وتفرض علينا الذهاب أبعد من السرمدي حيث ينصحنا ب "احترام الآخر"؟ ''العيش مع الآخرية /الغرابة/الخصوصية "، المتجلية في التحويل/ نقيض التحويل، موقف يظهر إلى أي حد يجهل العلاج السياسي والتربوي، البعد الوجداني للروابط، ويبقى عاجزا، منحصرا عند سطح الأزمات الأساسية. الحياة الثنائية –أعود إلى التحويل داخل الثنائي- تابعة لأعماقها، ومرتبطة بها؛ بل تجددها أيضا بإضافة ''التيار الناعم" إلى الاستهلاك الوافر للطاقة نتيجة الإثارة الجنسية. إذن، يأخذ تجاور الحياة والموت صيغة ضمن المفهوم المحتمل عن كائن غير متوقع وعابر، الطفل، القادم الجديد.      

- مصدر الحوار:

جوليا كريستيفا: حوارات مع صامويل دوك .منشورات فايار. 2016 . ص : 130-145