الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ألكسندر نيهماس: الوجه الآخر لسقراط من منظور فريديريك نيتشه (2/1)

ترجمة: أحمد رباص

2019-10-20 11:03:47 AM
ألكسندر نيهماس: الوجه الآخر لسقراط من منظور فريديريك نيتشه (2/1)
صورة تعبيرية لسقراط

 

طوال حياته، قاد نيتشه معركة فكرية ضد سقراط الذي لم يبد له نفس الاحترام ولا نفس الشغف اللذين أبداهما لمعلميه وعدويه الآخرين "شوبنهاور و فاغنر". لماذا؟ مما لا شك فيه أن نيتشه يشتبه في أن "دوغماتية" سقراط (وجهة نظر بحسبها يكون شكل واحد الحياة، الحياة على هدى العقل، صالحا للبشرية) لم تكن وجهة نظر سقراط نفسه ولكنه كان المصير الذي لا مفر منه لالتزام سقراط بهذا الشكل من الحياة بوصفه الأفضل لنفسه وربما أيضا لبعض الناس الآخرين الذين يشبهونه. هذا الموقف الأخير لا يختلف كثيرا عن "منظورية" نيتشه، واحتمال الاضطرار إلى الاعتراف في نهاية المطاف ليس بعدو، ولكن بمشارك في هذه الصورة التي عرفت بها الثقافة التي حاربها نيتشه طيلة حياته، جعل الأخير يبدو أقل أصالة مما يوحي به مظهره. والأهم من ذلك أن هذا أدى به إلى التشكيك في أن موقفه المنظوري، الذي وفقه يستطيع أفراد مختلفون أن يعيشوا شكلا مختلفا من أشكال الحياة، يمكن في الأخير أن يتم تبنيه على نحو دوغماتي وأن ينظر إليه على أنه استمرار للتقاليد العقائدية التي كان يتمنى كثيرا الابتعاد عنها.

يقول نيتشه في "Considérations inactuelles, III": هناك كاتب واحد فقط أضعه في نفس رتبة شوبنهاور اعتبارا لنزاهته، وأنا أضعه أعلى من ذلك، إنه مونطني. فأن يكتب حقا رجل بهذه الصفة، عن فرحة العيش على الأرض يؤهله لاعتلائها. من جهتي، على الأقل، منذ أن عرفت هذه الروح، الأكثر حرية وقوة على الإطلاق، يجب علي أن أقول ما قاله مونطني عن بلوتارخ: "ما كدت أن ألقي عليه نظرة حتى (شعرت) بأن فخذا أو جناحا دفعني. "إنما معه سوف أرتبط، إذا كانت المهمة المفروضة عليّ هي التأقلم مع الأرض".

نيتشه، الذي لم تفرض عليه أبدا مهمة "التأقلم مع الأرض"، كتب هذه الأسطر في Schopenhauer éducateur (شوبنهاور مربيا)، الاعتبار الثالث من الـ Considérations inactuelles (اعتبارات غير صحيحة)، أحد أعماله الأولى، من بين الأكثر روعة. ففي هذا الكتاب - وليس من قبيل المصادفة - أن نجد تبنيه الأول لشذرة من شعر بيندار: "تعلم، ثم صر كما أنت": "الإنسان الذي لا يريد أن يكون جزءا من الحشد ما عليه إلا أن يكف عن الرضا عن نفسه؛ فليطع ضميره الذي يقول له: "كن نفسك! كل ما تفعله الآن، كل ما تفكر فيه وكل ما ترغب فيه لست أنت من يقوم به، فكر وارغب فيه". انتهى نيتشه إلى تبسيط هذه الفكرة في صيغة رئيسية: "كيف نصير كما نحن؟" (العنوان الفرعي لسيرته الذاتية الفكرية، Ecce Homo، هذا هو الإنسان)، وهي صيغة واعية بالمهمة التي أناط فعلا بها نفسه: العمل على أن يصير تدريجيا الشخص الذي نعرفه اليوم بهذا الاسم.

رسميا، أريد لهذه المحاولة أن تكون تكريما لشوبنهاور الذي أظهر له، سواء من خلال نموذجه الشخصي أو من خلال نظرياته الفلسفية، كيف يباشر المصير الذي آل إليه حقا. ولكن هذا المؤلف هو، في الوقت نفسه، إعلان عن استقلال نيتشه عن قدوته ومعلمه. انتهى بالنظر إلى أن Considérations inactuelles لم تتناول مواضيعهما المختلفة، ولكنها تناولت موضوعا مختلفا تماما. كتب في Ecce Homo عن المحاولات الأربعة، قائلا إنها "في العمق [...] لا تتحدث إلا عن ذاتي. كتاب Wagner à Bayreuth (فاغنر في بيروث)، هو رؤية لمستقبلي. بالمقابل، في Schopenhauer éducateur تندرج قصة حياتي ومصيري في وقت واحد. [...] في الحقيقة، ليس المراد هو"شوبنهاور مربيا"، ولكن نقيضه، "نيتشه مربيا"، الذي يتحدث هنا. المحاولة الرابعة، Richard Wagner à Bayreuth، هي الأكثر نقدا واتهاما، على الرغم من أنه من المستغرب بما فيه الكفاية، كون فاغنر لم يدركها على هذا النحو. وعلى الرغم من ذلك، فإن أيا من المحاولتين لا تترك أحدا يدرك بوضوح القوة التي سينقلب بها نيتشه في نهاية المطاف ضد "مربييه" الأولين.

غني عن البيان أن قوة نيتشه، في هذه النقطة كما في كل ما يتعلق به، ليست بلا حدود ولا تخلو من تناقض. فمن ناحية، يؤكد في إحدى مذكراته المنشورة بعد وفاته أنه "فيما يتعلق بالفكرة القائلة بأن تاريخ ظواهر الأخلاق في مجملها سوف يخضع لتبسيط بقدر ما يتصور شوبنهاور - الذي بالنسبة له يمكن أن نجد الرحمة هي أصل جميع الاتجاهات الأخلاقية السابقة - فقد قدر بلوغ هذه الدرجة من الحماقة والسذاجة لمفكر مجرد من أي حس تاريخي وهارب بأغرب طريقة من هذا التعلم المتين من التاريخ الذي تابعه الألمان من هيردر إلى هيجل". من جهة أخرى، كتب أن شوبنهاور وهيغل، اللذين لا يحبهما أبدا، هما "أخان عدوان للفلسفة، بتوجههما نحو قطبي الروح الألمانية، ظهرا أن كليهما غير عادل تجاه الآخر كما بمقدور الأخوة وحدهم أن يكونوا". وحتى وإن كان شوبنهاور "فيلسوفا حقيقيا" فقد اعتبر نيتشه رؤيته حول أولوية الإرادة مثل "الخرافة"، مثل التبني المبالغ فيه لـ"حكم شعبي مسبق"، ناهيكم عن الإهانة في العبارات الأكثر قسوة ومرارة.

ومن بين عيوب فاغنر التي لا حصر لها، يذكر نيتشه أيضا أنه كان "كارثة كبيرة بالنسبة للموسيقى. في الموسيقى وجد وسيلة لإثارة أعصاب مرهقة - هكذا جعل الموسيقى مريضة". ومع ذلك نجده يفتخر بعلاقة الصداقة التي تربط بينهما، حيث كتب يقول: "[...] يجب أن أقول كلمة للتعبير عن امتناني لمن أعاد دائما وفي كل حين إنشائي بأكبر قدر من العمق والود. دون أي شك، هكذا كانت علاقتي الحميمة مع ريتشارد فاغنر. عشت حالات نادرة (من هذا القبيل) في سائر علاقاتي الأخرى بالرجال. مثل هذا الخليط من العداوة والكرم هو أمر بالغ الأهمية وبعيد عن أن يكون غير طبيعي عند نيتشه. وهذا يستحق التشديد عليه، لأننا سنلتقي قريبا بحالة أخرى مماثلة.

لا يذكر نيتشه في كثير من الأحيان مونطني، لكن وحدها قراءة الأخير استطاعت أن تكون مصدر إلهام له في بعض المقاطع من كتابات مرحلة النضج. في واحد من هذه المقاطع، يقول نيتشه: "تقريبا جميع الإعاقات الجسدية والعقلية للأفراد" مستمدة من كونهم "جاهلين" بالأشاء الأصغر حجما والأكثر تداولا في كل يوم. العالم يعلمنا أن نبتعد عن "الأشياء التي تلمسنا"، عن حاجاتنا الخاصة وعاداتنا، عن أنفسنا:

"الكهنة والأساتذة والطموح السامي للمثاليين من جميع الأنواع، الخشنة والناعمة، يقنعون الطفل بالفعل أن ما يهم هو شيء آخر تماما: خلاص الروح، خدمة الدولة، تقدم العلم، وإما الجاه والممتلكات، كوسيلة لتقديم الخدمة للبشرية جمعاء، بدلا من اعتبار حاجات الفرد، ضروراته الكبيرة والصغيرة، خلال ساعات اليوم الأربعة وعشرين، شيئا حقيرا أو غير ذي بال".

"ليس لدينا هنا إلا صدى من الصفحة الأخيرة من كتاب Essais، حيث يكتب مونطني، كما فعل عدة مرات، أننا "نسعى إلى ظروف أخرى، حتى لا نفهم كيف تمر ظروفنا ونذهب خارج أنفسنا، حتى لا نعرف ما يقع فيها"؟ كان نيتشه على بينة من هذا التواطؤ: مونطني يمثل بالنسبة له، كما يكتب، "قسطا من الراحة في حد ذاته، ملاذا هادئا في حد ذاته، واستراحة لتنفس الصعداء". ثم قرب نيتشه مونطني من سقراط، الشيء الذي يعيدنا إلى موضوعنا:

سقراط دافع بالفعل عن نفسه بكل ما لديه من قوة ضد هذا الإهمال للانساني على حساب الإنسان، وكان يحب، من خلال اقتباس من هوميروس، أن يذكر بحدود وموضوع كل رعاية وتفكير: ذلك، كما قال، هو فقط ما يحدث لي أنا من خير أو شر.

أخذ نيتشه من ديوجين لايرسي هذه الحكاية عن الاقتباس الذي قام به سقراط عن هوميروس. لكن مثل هذه الصورة الإيجابية لسقراط الذي ابتعد عن خدمة الدولة، [عن] تقدم العلم، أو [عن] الجاه و[عن] الملكية تستحضر عناصر مشتركة في صور عن مونطني واكسينوفون. لكن الشيء المثير للاهتمام هو أنه في النهاية لم يعد نيتشه أكثر إخلاصا لمصادره من مونطني الذي تنكر هو الأخر لمصادره. سقراطه، مثلا، لم يفكر في "مصلحة الإنسان"، كما فعل سقراط اكسينوفون. الأول لا يهتم إلا بنفسه، ومن هذا المنظور، هو أقرب إلى التمثل الذي يرتسم عنه في نفس الوقت في المحاورات الأولى لأفلاطون ولدى مونطني نفسه. على الرغم من استساغته للتعميمات على مستوى العالم والتاريخ، فإن نيتشه يتشبث كثيراً بفكرة أنه من المهم أن يقوم بالانطواء على نفسه، وهو الانطواء الذي قام به هو نفسه في مجمل أعماله الأخيرة. في Le Crépuscule des idoles، على سبيل المثال، يؤكد بأسلوب لا يخلو من إطناب "أننا لا نعترف بالرجال العظماء إذا نظرنا إليهم من منظور بائس للمنفعة العامة. إذا تعذر استخلاص أي منفعة منهم، فهذا هو الجوهر نفسه للعظمة...".

لا نعرف لماذا بدأ نيتشه في تقدير سقراط، الذي نقده نقدا لاذعا في La Naissance de la tragédie، حينما كان مشغولا بكتابة Considérations inactuelles و Humain, trop humain، وبينما كان يتحرر تدريجيا من شوبنهاور وفاغنر. في La Naissance de la tragédie، مثلا، يتهم سقراط بالتسبب في ضياع التراجيديا. والاستعارة المعتمة التي تمثل بها تأثير سقراط هي استعارة "ظل يمتد باستمرار تحت شعاعات شمس المغيب". بعد عامين، مع ذلك، كتب في Schopenhauer éducateur أن "الظروف اللازمة لخلق عبقري لم تتحسن في الآونة الأخيرة. بالعكس، الاشمئزاز الذي يشعر به الرجال الأصلاء ازداد لدرجة أن سقراط لم يستطع أن يعيش معنا، وأنه على كل حال لم يكن عمره قد بلغ السبعين عاما".

وعلى الرغم من كونها مؤقتة، فقد كانت لفتة نيتشه لصالح سقراط أبعد من أن تكون دالة؛ ففي ملاحظة تعود لعام 1875، كتب أن "سقراط أفلاطون هو بالمعنى الحقيقي "كاريكاتير" عبء ثقيل". نحو عام 1878، بدا له أنه من الممكن أن يتفق مع أفلاطون وسقراط على فكرة أن "أيًا كان ما يفعله الإنسان، فإنه دائمًا يفعل الخير، أي: ما يبدو حسنا بالنسبة إليه (مفيد)، وفقا لدرجة ذكائه، للمستوى الحالي لمنطقة". هذه المجموعة من النظرات في مجال الأخلاق، لم يكتب لها الدوام مع ذلك. إذ انتهى نيتشه إلى التخلي عن الأطروحة التي بموجبها كل تصرف يهدف إلى الخير، وقد تم ذلك بأكثر الطرق حسما. وبينما عاد مرة أخرى لإدانة سقراط - بطريقة أكثر جذرية مما فعله في La Naissance de la tragédie - توصل نيتشه إلى فكرة أن أفلاطون دافع عن هذا الرأي رغم أنفه، وبسبب التأثير الخبيث لسقراط: "هذا المنطق تشتم منه رائحة العوام، الذين لا يرون في عمل سيئ سوى عواقبه المؤسفة ويعتبرون فعلا أن "من الغباء التصرف بشكل سيئ"، من خلال مماثلة" الخير" مع "المفيد والممتع" بدون أي طريقة".

يعيدنا هذا التلميح إلى "العوام" إلى "مشكلة سقراط "، آخر نصوص نيتشه المنشورة حيث يقف طويلا عند قضية سقراط ويتخذها موضوعا رئيسيا لهذا الفصل بالتفصيل: "ينتمي سقراط من حيث أصله إلى الفئة الدنيا من الشعب: كان سقراط من الدهماء. نحن نعلم، بل أيضا نشاهد كيف كان قبيح الوجه". الطابع الشخصي (قد نميل إلى أن نقول غير الفلسفي) لهذا النقد الدقيق ليس استثنائيا: إنه في مجمله محاولة يهيمن عليها ازدراء وعداء. تقريبا جميع الانتقادات التي صاغها نيتشه في حق سقراط ضمن كتاباته الأخيرة هي انتقادات شخصية. وسؤالي هو: لماذا؟

بصرف النظر عن شوبنهاور وفاغنر، لم تؤد أي شخصية دورًا مهمًا مثل دور سقراط في ازدهار نيتشه الشخصي والفكري. في الواقع، كانت تربطه بسقراط علاقة أكثر عمقا من العلاقة التي جمعته بالاثنين الآخرين، وكان يعرف ذلك: "سقراط، اعترفا مني في هاذي المرة وإلى الأبد، قريب جدًا مني بحيث أجدني دائما تقريبا في معركة أخوضها ضده". لكن لماذا؟، خارج الهدنة التي أبرمت معه في أعمال النضج (باستثناء واحد، سنعود إليه)، لم يبن نيتشه حيال سقراط عن سعة أفق، عن احترام، عن امتنان، بل عن حب، مثلما تصرف مع معلميه الآخرين؟ لماذا، في حالة سقراط وحده، هذه الملكة التي كانت لنيتشه للتفكير في الأمور من وجهات نظر متعددة، لأن يكون موضوعياً، بالمعنى الذي فهمه، ولأن "يستخدم من أجل المعرفة هذا التنوع الشديد في وجهات النظر والتأويلات الوجدانية"، لماذا تخلى عنها؟ هل كان نيتشه جزئياً بحيث أن كتاباته عن سقراط توحي بذلك بوجه عام؟ أم أن المظاهر خادعة؟ تشير مرارته الشديدة إلى أنها كذلك. يرفض نيتشه، بشكل عام، منح مصداقية لا تحاكى للمواقف الحاسمة. على سبيل المثال، يستنكف عن الاعتقاد بأن رفض الملذات الدنيوية التي تدعو إلى الزهد المسيحي بكل هذا الحماس هو في الواقع رفض للحياة التي يبدو عليها.

ربما يجب علينا تطبيق التشخيص الذي قدمه عن الزهد على مقاربته الخاصة لسقراط. ربما يجب أن نقول إن إدانته القاطعة لسقراط، مثل كراهية الزهد في الحياة، "يجب أن تكون نوعًا من التعبير المؤقت، تأويلا، صيغة، حلا توفيقيا، سوء فهم نفسيا لشيء لم يكن بوسعنا لفترة طويلة أن نفهم طبيعته الحقيقية، أن نتعرف على جوهره الحقيقي".

قبل إخضاع المؤول الحذر لتأويل لا يقل حذرا، من المعقول أن نسأل ما إذا كان سقراط هو بالفعل أحد "معلمي" نيتشه. هل أدى "سقراط" في فكر نيتشه دوراً مشابهاً لدور "شوبنهاور" و "فاغنر" ، أم أنه ببساطة كان عدوه؟ إذا كان دوره غير قابل للمقارنة، فإن الرفض القاطع الذي يميز موقف نيتشه قد لا يكون له في الواقع سوى فائدة نسبية. ومع ذلك، حتى لو كان السؤال مطروحًا؛ فإن صورة نيتشه المحارب ضد سقراط لا ينبغي أن تضللنا وتؤدي بنا إلى إنكار أن الفيلسوف اليوناني احتل مكانًا يشبه ذلك المكان الذي يحتله شوبنر وفاغنر في حياة وفكر نيتشه. لم يعتقد نيتشه أبداً أن المقاومة استبعدت أي تعلم فعال. مقطع جميل جدا من Gai Savoir يظهر ذلك بوضوح شديد:

"تلاميذ غير مرغوب فيهم، - "ماذا علي أن أفعل بهذين الشابين؟" صرخ بمزاج فيلسوف "أفسد" الشباب، كما كان سقراط قد أفسدهم سابقاً، - هؤلاء هم التلاميذ الذين وصلوا إليّ بشكل سيء. هذا لا يعرف كيف يقول "لا"، وذاك الآخر يجيب على كل الأشياء بالتزام الحد الأوسط. وإذا سلمنا بأنهما فهما مذهبي، فإن الأول سيعاني أكثر من اللازم، لأن أفكاري تقتضي روحاً محاربة، رغبة في الأذية، رغبة في النفي، غلافا متينا، - سوف يستسلم لجراحه المفتوحة وجراحه الدخيلة".

هذا الفيلسوف الممتلئ "مزاجا"، الذي ربما لم يكن بعيداً عن نيتشه نفسهح يريد تلاميذ قادرين على قول "لا". إذا كان بإمكانهم قول "لا" بشكل عام، فيجب أن يكونوا قادرين أيضًا على قول "لا" لسيدهم: "لدينا القليل من التقدير للمعلم، عندما نبقى دائمًا تلاميذ". من الواضح مع ذلك، أنه لا يكفي أن يحارب نيتشه ضد سقراط ليصبح تلميذه. لقياس ما إذا كان كذلك، إذا كان سقراط ، في نهاية الأمر، أحد معلمي نيتشه، فيجب أن نذهب أبعد من ذلك.

من بداية أعماله إلى آخرها، من La Naissance de la tragédie إلى Ecce Homo ، يربط نيتشه سقراط بمجموعة من الأفكار والمواقف التي يمكن أن توصف، على وجه التقريب، كما يلي. أولاً، نفى سقراط أهمية الغريزة وفضل التأكيد على العقل والجدل، وهو ما احتفظ به للنشاط البشري الأساسي. ثانياً، أدخل الأخلاق إلى العالم. وهذا يعني، وفقاً لنيتشه، أن سقراط أدخل طريقة تفكير تستدعي الأسباب التي على أساسها يتصرف الناس من أجل تبرير عملهم. وهي مفهومة بهذه الطريقة، توضح الأهمية التي أعطاها سقراط للأخلاق فكرة أن العقل هو خاصيتنا الأساسية. وكما يعتقد نيتشه أن الأسباب بطبيعتها، كونية - إذا كان هناك شيء ما في الواقع سبب، فهذا سبب كل المخلوقات العاقلة - يعتقد أيضًا أن الأخلاق يفترض تطبيقها على الجميع بنفس الطريقة. الأخلاق، كما يراها نيتشه، تقتضي أن الأشخاص المختلفين في وضع مماثل سوف يتصرفون بنفس الطريقة، لأنهم، من وجهة نظر أخلاقية، متطابقون (أي عقلاء). ومن ثم، فإن الأخلاق هي في جوهرها، وفقاً لنيتشه، كونية أو لاستخدام لغته، دوغمائية. فهي تتصور مجموعة واحدة من الدوافع ومدونة سلوك واحدة يجب على الجميع الالتزام بها. ثالثًا، من خلال مناشدة العقل والأخلاق، دمر سقراط العالم اليوناني التراجيدي وفنه، وزرع بذور ما نحن عليه الآن: فهو، بكل جد، أول شخص حديث.

في La Naissance de la tragédie، كما رأينا، اتهم نيتشه "سقراط" بالتسبب في ضياع التراجيديا. استنادا للتصور الساذج الذي كان لدى نيتشه عن اليونان القديمة والكلاسيكية، لا تعتقد الثقافة التي تم التعبير عنها من خلال المسرحيات التراجيدية لإسخيلوس وسوفوكليس أن العالم والحياة في هذا العالم يتطلبان تبريرا صريحا. قبل اليونانيين الأوائل العالم والحياة كما كانا، واحتفلوا بالمظاهر الأكثر بشاعة. على وجه التحديد، فإن التراجيديا، فنهم الأكبر، مجد جهودا مصيرها حتما الفشل كان الفرد يبذلها كي يروض ويستخدم لأغراض إنسانية هذه العناصر المعينة من العالم التي يكون مصيرنا غير مبال بها تماما والتي بالنسبة إليها لا نكتسي أي أهمية تذكر. وفقا لنيتشه، مجدت التراجيديا، في شخص البطل، الرجل الذي يقف عبثا ضد عالم لا يصل إليه عمل الإنسان، في نفس الوقت الذي، تحت ستار من الجوقة، احتفلت فيه بهذا نفسه العالم الذي في النهاية يشكل الفرد المعني جزء منه. الأفراد ينتمون إلى الطبيعة وجهودهم لإخضاعها هي الأخرى طبيعية نتاج للطبيعة التي ينوون قهرها. الصراع الذي يواجه الفرد بالمجتمع، الثقافة بالطبيعة، واضح ليس إلا.

الأفراد الذين يقيسون أنفسهم بالعالم، مثل الثقافات كلها التي تسعى لتغيير مجرى التاريخ، بالنسبة لنيتشه، ليسوا شيئا آخر غير إبداعات "فنية" من صنع العالم نفسه. يواصل نيتشه في مقطع مشهور قائلا إن الفن ذاته كما الحياة "لا يقدم لنا بأي حال من الأحوال، من أجل تحسيننا وتعليمنا، فلا يعدو أخيرا كوننا المبدعين الحقيقيين لهذا العالم الفني. ولكن من المؤكد أن لدينا الحق في أن نفكر، باعتبارنا مبدعيه الحقيقيين، بأننا بالفعل صور وإسقاطات فنية، وأنه عن طريق فهمنا للأعمال الفنية، نصل إلى أعلى درجات الكرامة، - لأنه لا يمكن تبرير الوجود والعالم أبديا الا كظاهرة جمالية فقط؛ - في حين أننا في الواقع نكاد نكون أقل وعيا بالدلالة التي تؤول إلينا وهي أن المحاربين الذين رسموا على قماش يمكن أن يكونوا مدركين للمعركة التي تم تمثيلها هناك".

تكشف التراجيديا، وفقا لنيتشه، أن الأفراد وأفعالهم، مثل الثقافات ومنتوجاتها، ليس لها أدنى أهمية في نهاية الأمر. لا يمكن لهم أن يؤثروا على العالم الذي "رغم تغير الأجيال وتقلبات تاريخ الشعوب، يبقى كما هو إلى الأبد". لكن التراجيديا تظهر أيضًا أننا كائنات، وأننا جزء لا يتجزأ من الحياة التي "تظل في حقيقة الأشياء، رغم تقلب الظواهر، قوية بشكل لا يمكن إزالتها ومليئة بالمتعة" وتتيح لنا، باعتبارنا كذلك، الاستمتاع بالقوة التي نتقاسمها مع الكل الذي ننتمي إليه. يعتقد نيتشه، بنوع من الحنين، أن السكان الأرستقراطيين في العالم الذي أنتج هذا الفن مرهونون باحترام التقليد والسلطة: كانوا "متأقلمين مع الأرض"، واعين ربما بقسوتها بحيث لا تكون لديهم في النهاية، أي أهمية، ولكنهم على استعداد لقبول كل هذا في الحال. كانوا على استعداد للعيش والعمل، مع علمهم بأن أفعالهم لن تغير العالم بشكل ذي دلالة لأنهم كانوا يدركون حدود العقل. كانوا يعرفون أن المرء لا يستطيع الوصول إلى فهم منهجي ودقيق للعالم، ولا إلى تبرير عقلاني نهائي للفعل. كان ثقل التقليد هو السلطة الوحيدة التي أسندوها لأفعالهم: فقد عاشوا كما عاشوا لأن الناس مثلهم عاشوا هكذا دائمًا.

إذا تتبعنا تأويل نيتشه؛ فإن سقراط كان مندهشا من التقاليد المستثمرة بمثل هذه القوة: لا الفنانون ولا الرجال العظام في العصر التراجيدي حازوا فهما عقلانيا لنمط حياتهم أو للعالم الذي يعيشون فيه. من المهم جدا أنهم لم يكونوا قادرين على إعطاء إجابة لسقراط عندما كان يسألهم، كما نراه يفعل باستمرار في حوارات أفلاطون، "لماذا؟ ". نمط حياتهم بشكل عام، لم يحتضن السؤال العقلاني بـ"لماذا". تصرفوا "غريزيًا فقط": "غريزيًا فقط": هذه العبارة تجعلنا نضع الأصبع على قلب ونخاع التوجه السقراطي. بهذه الكلمات، أدانت فلسفة سقراط كلا من الفن والأخلاقيات السائدين في وقته: حيثما توجه بنظره المتفحص، يلاحظ غياب الحكم وسطوة الوهم، ويخلص من ذلك إلى عبثية متجذرة، إلى إدانة كل موجود. فلسفة سقراط الأخلاقية تماثل الفضيلة بالمعرفة. لازمتها الطبيعية هي "فلسفته الجمالية"، التي تربط بين الجمال والذكاء. التراجيديا وجدت الجمال والخير في ما لا يمكن تفسيره بالعقل. فلسفة سقراط، أي فكرة أن ما هو خير وجميل لا يمكن أن يكون إلا معقولا، دمرت التراجيديا كما دمرت عالما بأسره "الذي سيكون من دواعي سعادتنا القصوى أن نتسلم منه بكل تقديس أصغر مشعل"، وفقا لنيتشه.

كيف استطاع "سقراط" تدمير عالم بأكمله؟ "عينه الواسعة العملاقة" لم تر في هذا العالم وفنه سوى "شيئا غير معقول تماما، أسباب يبدو أنها ستبقى دون تأثير، وآثار لا يمكن تمييز أسبابها". لقد رفض فكرة أن العالم لا يمكن فهمه بشكل نهائي، وأنه لم يخلق من أجلنا، وأن لا شيء مما نفعله  كما أظهرت التراجيديا، يمكن أن يغير هذا العالم بفعالية وإلى الأفضل. لقد شعر بالرعب من الرؤية التراجيدية للأبطال المدمرين بينما هم لم يرتكبوا أي خطأ ولم يقترفوا أي فعل من أفعال الشر. ورفض النظرة التشاؤمية القائلة بأنه بعيداً عن ضمان النجاح والسعادة، فإن المعرفة والفضيلة يمكن أن تؤدي إلى تدمير البطل. رفض اتباع مسار التقليد غير العقلاني. بدلا من ذلك، نصب سقراط نفسه كـ"نموذج أصيل للتفاؤل النظري، الذي ينسب في وقت واحد، في ظل إمكانية التعمق في طبيعة الأشياء، للعلم ، للمعرفة ، فضيلة الدواء الشافي ، ويعتبر الخطأ شرا في حد ذاته". هو من أسس الجدل، الذي اقترح (صيغة المبني للمجهول) للكشف عن سبب كل ما نفعله، ودافع عنه، وهو الأمر الذي لم يكن بمقدور لا المجتمع ولا للفن القيام به. كانت انتقاداته قاتلة، لأن الثقافة التي هاجمها سقراط لم تكن قادرة، كما طالب، على تقديم سبب لما كانت عليه، وكان قادرا على إقناع معاصريه بأن يروا في هذا الضعف اعاقة لا تغتفر.

لقد حان الوقت لوضع La Naissance de la tragédie جانباً: مسودة التعليق هاته لم يكن موضوعها سوى عرض الثيمات المتعلقة بسقراط التي فرضت على نيتشه الانشغال بها طوال حياته. لكن، بينما ظلت هذه الثيمات بدون تغيير، لم يكن الأمر نفسه صحيحاً في ما يتعلق بموقف نيتشه. لقد رأينا، في كتابات النضج، كيف أن نيتشه، عندما ابتعد عن شوبنهاور وفاغنر ( بطلا La Naissance de la tragédie)، ظهر أنه قد أبرم نوعًا من الهدنة مع سقراط. الجدل، الذي هوجم بعنف في ...La Naissance، اكتسب الآن صورة إيجابية؛ أصبحت حوارات أفلاطون كلها نابضة بالفرحة بابداعه. المحدثون الذين لم يتذوقوه كانوا عرضة لهجوم صارم:

"في ذلك الوقت، في اليونان، كان لا يزال لدى المرء على لسانه هذا المذاق الآخر، الأكثر قدمًا والأكثر قوة في الماضي: وبجانبه، ظهر الذوق الجديد بجاذبية كبيرة لدرجة أننا بدأنا نغني ونتأتئ بالجدل، "الفن الإلهي"، كما لو كنا فريسة لجنون الحب. الذوق القديم، كان هو الفكر العبودي والأخلاق التي لا وجود فيها إلا لأحكام ثابتة، لوقائع محددة، وليس هناك من أسباب أخرى غير أسباب السلطة [...]. لقد كان سقراط هو الذي اكتشف الجاذبية المعاكسة، جاذبية العلة والأثر، السبب والنتيجة: نحن الرجال المعاصرون الآخرون، اعتدنا على ضرورة المنطق ونشأنا على فكرة هذه الضرورة، التي تقدم نفسها لنا كمذاق طبيعي، والتي، باعتبارها كذلك، تبغض بالضرورة المستمتعين والمغرورين".

تعرضت هذه الهدنة لاضطراب، ولم يبتعد نيتشه أبداً عن احتياطه من سقراط. كان دائما على استعداد للسخرية منه: "ربما على هذا النحو أيضا يكون شيطان سقراط مرضا أصاب حاسة سمعه، بحيث أنه هو نفسه، وفقا لتوجهه الأخلاقي المهيمن، يمكن أن يشرح ذاته بطريقة أخرى لن يستطيع اليوم استعمالها". بالنسبة للباقي، استغرقت هذه المهلة المضطربة نفسها مدة قصيرة. في الوقت الذي كتب فيه Le problème de Socrate الذي سوف أهتم به الآن، قرر نيتشه أن "التفاؤل النظري" عند سقراط، وهو ما عابه عليه في La Naissance، كان علامة على انحطاط مريع . يؤكد الآن أن سقراط كان مريضاً ، أنه أدرك - استوعب وعاش - الحياة كمرض . اليكم الكلمات الأخيرة لسقراط في محاورة Le Phédon لأفلاطون: " في ذمتي ديك لأسقولابيوس"، تشير فيما يبدو، إلى العادة التي كانت تقتضي التضحية بديك على شرف إله الطب بعد الشفاء من المرض. يؤكد نيتشه أن المرض الذي كان سقراط يشعر بالامتنان لاستشفائه منه هو الحياة نفسها. كان نيتشه قد عبر عن هذه الفكرة قبل بضع سنوات، عندما كتب أنه يود لو أن سقراط، الذي كان ثرثارة جدا، "لزم الصمت في اللحظات الأخيرة من حياته". وأضاف: "هل هذا ممكن! رجل كان سعيدا وعاش أمام الجميع كجندي - رجل كهذا متشائم! لكنه في الحقيقة لم يحاول حل مشكلة سقراط قبل Crépuscule des idoles. هذه الجملة لا غبار على معناها لأن العنوان المكتوب بالفرنسية هو لأحد كتب الفيلسوف الألماني نيتشه، . كان من الممكن إضافة "صدور" Crspuscule des idoles.