السبت  20 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عميل بمنصب رئيس! بقلم: د. سامر العاصي

2019-11-06 08:54:21 AM
عميل بمنصب رئيس! بقلم: د. سامر العاصي
سامر العاصي

 

مع صدور كتاب "روسيا من ثورة إلى ثورة" أو "روسيا أُحجية التاريخ"؛ كان السؤالان الأكثر ترددا بين الأصدقاء هما:-

السؤال الأول: هل كان الرئيس السوفيتي جاربتشوف عميلا لاستخبارات أجنبية أم لا؟.

والحقيقة، أنني اخترت أن أضع القارئ أمام بضع حقائق، منذ وصول الرجل الى سدة الحكم وحتى استكمال مهمته يوم 24  ديسمبر 1991، وترك القارئ ليحكم بنفسه، إن كان العميل قد صار صار رئيسا، أم لا؟.

بدأ الرجل أولى خطواته رئيسا للحزب في مقاطعة "ستافروبل" جنوب البلاد، حيث المنتجعات الصحية الدافئة والمصايف الجميلة، مما جعله على علاقات مباشرة مع قيادات الحزب والدولة، حتى أنهم بعثوا بتوصياتهم ورجائاتهم إلى رئيس المخابرات آنذاك، بتعيين جاربتشوف رئيسا لإحدى دوائر الجهاز. وجاء رفض رئيس المخابرات الجنرال "سيمي تشاسني" رفضا قاطعا لجميع التوصيات، لما لديه من تحفظات دون إثباتات قاطعة، بعد أن تزايدت الشبهات من زيارات جاربتشوف المتكررة خارج البلاد، خلال ترؤسه جمعية المحافظة على البيئة السوفيتية.

وفي نهاية السبعينات، توفي مسؤول الزراعة في الحزب، وتم تعيين (بلدياته) ميخائيل جورباتشوف سلفا له، الذي سرعان ما أصبح عضوا في المكتب السياسي. وعلى الفور، طلب الرجل نقل سفير الاتحاد السوفيتي في كندا "الكسندر ياكفلف" للعمل معه. يذكر أن تقارير المخابرات السوفيتية كانت قد نوهت منذ سبعينات القرن الماضي، بأن "ياكفلف" قد تم تجنيده من قبل السي آي آيه، عندما أُرسل للدراسة في جامعة كولومبيا عام 1959، بصحبة أحد عملاء المخابرات السوفيتية "اوليج كالوجين"، (الذي حكم عليه بعد 30 عاما حكما غيابيا بالسجن لمدة 15 عاما بتهمة الخيانة العظمى)، مستفيدين من منحة فولبرايت الدراسية.

وما أن وضع الرجل قدمه في داخل المكتب السياسي عام 1980؛ حتى بدأ الكرملين في غضون سنوات قليلة، يفقد أعدادا متتالية من قياداته العليا، كان الرجل خلالها يقفز من منصب إلى آخر، نحو القمة. وبدا وكأن الحظ كان ينتظره ولم يكن ينتظر غيره!. فقد توفي رئيس الوزراء "كوسيغن" الذي كان يدعم ترشح رئيس الحزب في ليننجراد السيد "رومانف" لمنصب الرئاسة. ثم توفي زعيم الحرس الحديدي ومنظر الحزب "سوسلف"، تبعه موت الزعيم بريجنف الذي كان داعما لترشح صديقه رئيس الحزب في أوكرانيا الرفيق تشيربيسكي. واستمر حكم سلفه "اندروبوف" أقل من العام ونصف العام، وقيل إنه قتل. ثم توفي الرجل القوي في البلاد ووزير الدفاع "اوستينوف"، وتؤكد الشائعات بأن الرجل مات مسموما وزميله الوزير التشيكسلوفاكي. وصار المريض المتهالك "تشيرننكو" رئيسا للبلاد. وبوفاة تشيرننكو يوم 10 آذار 1985، اجتمعت القيادة السوفياتية لاختيار الرجل رقم 1، وبدا أن معركة الخلافة ستكون بين 4 أشخاص، كان أقلهم حظا وكفاءة هو جاربتشوف!.

وبدأ الاجتماع الذي سيغير مجرى التاريخ، وسط غياب المرشحين الأقوياء الثلاثة!، فقد كان المرشح الأقوى للمنصب هو الرفيق "تشيربسكي"، وللصدفة! كان الرجل في زيارة لأميركا، وقيل بأن طائرته لم تعطى الإذن بالإقلاع إلا بعد فوات الآوان. أما المرشح الثاني رومانف، بطل الفضيحة الكاذبة التي بثها صوت أميركا، من أن الرجل استعمل "محتويات قصر الارميتاج" في عرس ابنته على بطل العالم في الشطرنج اناتولي كاربف"، فقد وصل موسكو بعد أن كان الاجتماع قد انتهى، وقيل بأن ذلك كان صدفة أيضا!. كما أن سكرتير الحزب في موسكو الرفيق "جريشين"، الذي أنهكته إشاعات ال "بي بي سي" الكاذبة عن تورطه بالفساد، كان وللصدفة أيضا خارج البلاد. وتم حذف الخيارات الثلاثة، بعد أن استعان "جاربتشوف"، بصديق! ضمن صفقة، ضمنت حصول الصديق وزير الخارجية المخضرم أندريه غروميكو، على منصب رئاسة الدولة الفخري. يذكر أن غروميكو بعد اعتزاله السياسة عام 1989، طلب عدم ذكر اسم جاربتشوف أمامه.

في بداية حكمه، رفع جاربتشوف شعاري "البيريسترويكا والجلاسنوست"، أي إعادة البناء وحرية التعبير، دون أي تفسير لهما رغم إلحاح الاقتصاديين والسياسيين بضرورة شرحهما للعامة وبضرورة التطبيق خطوة خطوة. وبدأت عمليات هدم كل شيء بحجة "إعادة بنائه"، وصارت حرية الكلمة لمن سيمتلك المال ووسائل الإعلام، التي سرعان ما سيسيطر عليها وعلى اقتصاد البلاد كلها اليهود الروس. وبدأت عجلة التغيير في المجتمع الاشتراكي تسير نحو الهاوية والدمار الاقتصادي والأخلاقي. وتبين فيما بعد، أن الأب الروحي والعراب الحقيقي لهذه السياسة، كان الكسندر ياكفلف، وليس ميخائيل جاربتشوف. وقبيل وفاته عام 2005، اعترف ياكفلف بارتباطه بوكالة الاستخبارات الأميركية، قبل أن يصبح سفيرا لبلاده في كندا.

وهكذا جاءت قرارت جاربتشوف بإعادة البناء وحرية التعبير والسماح بالملكية الخاصة والإفراج عن السجناء السياسيين والانسحاب من أفغانستان وإعلانه وقف سباق التسلح النووي وحربه الشعواء ضد المشروبات الكحولية، لترفع من شعبيته داخل وخارج البلاد، حتى أن الصحافة الغربية أطلقت عليه اسم "غوربي". وسرعان ما اختار غوربي لمنصب وزير الخارجية الرجل الأقل حنكة والعديم الخبرة في السياسة الخارجية، إدوارد شيفارنادزه، ليقودا معا إعادة بناء، أو لنقل "تدمير" منظومة الدول الاشتراكية وإنهاء حلف وارسو العسكري، وذلك بسحب الدعم المالي والجيوش السوفياتية من ألمانيا الشرقية أولا مقابل 5.4 مليار مارك فقط لا غير!، علما أن ألمانيا الغربية عرضت قبل 30 عاما، مبلغ 124 مليار مارك مقابل وحدة الألمانيتين، مع تعهد دولي بأن تكون الدولة الموحدة دولة حيادية. ومع نهاية الثمانينات، أتم الرجل إعادة بناء الكتلة الاشتراكية، بعد أن صارت دولا رأسمالية، تتقدم بطلباتها ورجاءاتها إلى حلف الناتو لقبولهم أعضاء مخلصين، بعد أن تم دفن حلف وارسو.

وجاءت كارثة تشيرنوبل، وحادثة هبوط طائرة الشاب الألماني الغربي الشراعية في الساحة الحمراء، حجتان في إجراء تغيرات جذرية في الحزب وفي كل الوزارات. وجن جنون الاقتصاديين من تبني جاربتشوف لخطة المستشار الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس، بخصخصة كل المؤسسات العامة في البلاد خلال 500 يوم فقط!. وبدأت أسعار النفط والغاز العالمية بالانهيار، بعد أن كان 40% من الاقتصاد السوفيتي معتمدا عليهما، ولنقل بأن ذلك كان مصادفة أيضا!،. وصارت علامات الفوضى تسطع من كل الجمهوريات السوفيتية، بعد أن أُفرغت رفوف المحلات من كل البضائع دون استثناءات. وظهرت المافيات، وانتشرت الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وحل الفلتان الأمني، بعد أن كانت البلاد رمزا للأمن والأمان. وتبين بعد سنوات أن جيفري ساكس، ما هو إلا عميل للسي آي آيه!. وبدأت الجمهوريات تطالب بالاستقلال، واشتعلت الفتن القومية والاشتباكات المسلحة بين الأقليات، حتى صار الخوف من أن تصبح جمهورية روسيا نفسها 10 جمهوريات.

وكان من المستحيل انهيار الدولة السوفياتية دون تحطيم جيشها، شريطة عدم إطلاق رصاصة واحدة نحوه. وهو ما تكفل به ميخائيل جاربتشوف وحده. يقول ليونيد زمياتين سفير الاتحاد السوفياتي في بريطانيا أثناء زيارة غوربي للسيدة مارغريت تاتشر:- فجأة، ووسط دهشة الجميع، تناول جاربتشوف من حقيبته الخاصة، خريطة للمملكة المتحدة، وفيها تظهر مواقع وإحداثيات  توجيه الصواريخ النووية السوفيتية نحو المدن البريطانية، قائلا، بأنه يريد نزع السلاح النووي العالمي.

ثم كشف غوربي لاحقا دون أي مقابل، عن سلاح "العربات القاتلة"، الذي كان يُحَمَلُ على عربات قطارات، كانت تجوب البلاد دون توقف، تحمل كل منها، صاروخا ذو عشرة رؤوس نووية. يذكر أن الأميركان كانوا قد خصصوا 150 مليار دولار لمكافحة هذا السلاح، دون جدوى. كما وافق الرجل من جانب واحد على تخفيض عدد الرؤوس النووية بنسبة 3:1 لصالح الأميركان، بعد أن وافق على تعديل حمل 1500 قاذفة سوفيتية برأس نووي واحد، بدلا من  12 رأسا نوويا. ووافق غوربي، دون أي مقابل أيضا، على تدمير الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى المسماة (ك.أ-KA)، التي تطلق من شاحنات متحركة، والتي كانت قادرة على تدمير كامل أهدافها. وجاءت الطامة الكبرى، عندما وافق غوربي على إهداء الأميركان 53 ألف كيلو متر مربع من المياه الحدودية في الشرق ( 5 أضعاف مساحة لبنان)، الغنية بالثروة السمكية النادرة، إضافة إلى ما اكتشف من احتوائها على 16% من مخزون النفط العالمي.

أما السؤال الثاني، فكان يأتي من شقين:-

 الشق الأول هو:- لماذا لم يتم إلقاء القبض على جاربتشوف؟، والثاني:- لماذا لم يحاكم الرجل؟.

وجاء جواب الشق الأول يوم 19 آب 1991، عندما قام نائب جاربتشوف، ووزير الدفاع ورئيس المخابرات ووزير الداخلية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء وسكرتير مجلس الأمن القومي، باعتقال الرئيس في بيته، في أغبى عملية انقلاب في التاريخ، كان الخاسر الأكبر من تلك المحاولة الفاشلة، المتآمرون والمتآمر عليه، إذ أن غوربي خرج ضعيفا، وقيل بأن دوره قد انتهى بعد أن ظهر وجه جديد آخر، اسمه بوريس يلتسين.

وقبل 50 يوما فقط من اندثار الاتحاد السوفيتي، رفع النائب العام للدولة، لائحة شكوى ضد رئيسها "ميخائيل جاربتشوف"، بتهمة الخيانة العظمى، والتفريط  بأمن البلاد، وإفشاء الأسرار العسكرية، والتفريط بأراضي الدولة التي أقسم على حفظ ترابها ووحدتها، وتسلمه رشاوى مالية من رئيس كوريا الجنوبية "رو دي هو"، أثناء زيارته لكوريا الجنوبية في نيسان 1991. وعند سؤال جاربتشوف عن حقيقة تسلمه أموال من رئيس أجنبي، أجاب المتهم غوربي، بصحة ذلك دون إنكار، مدعيا أن الأموال كانت لصندوق دار الأيتام الخيري!. وعن سبب عدم تسليم المبلغ للدولة، ادعى الرجل بأنه نسي ذلك!. ومع اختفاء الدولة السوفيتية مساء يوم 24 ديسمبر 1991، سقطت كل التهم عن الرئيس، لعدم وجود المتضرر، وهي الدولة السوفيتية.

وتأتي خاتمة المقالة هذه، من فم جاربتشوف نفسه، الذي صرح قبل 3 أيام من الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، في العاصمة البريطانية لندن، ومعه صديقه المقرب "شمعون بيرس"، يوم 27 شباط 2011 ، قائلآ:- بأنه لم يكن يوما "شيوعيا"!، مضيفا بأن هدفه طيلة حياته كان هدم الشيوعية!. وعند سؤاله إن كان له دور في هدم الاتحاد السوفيتي؟ أجاب الرجل حرفيا:- ليس هناك أي داع للخجل، لقد كانت الأمور جدية جدآ ..نعم..نعم. الطريف ذكره، أنه وأثناء الاحتفال قي لندن والرقص على أغنية"هابي بيرذداي"، كانت فرقة موسيقية من الشباب الروس، تغني له أًغنية وسط موسكو اسمها:- يا خائن ..يا خائن! 

ترى عزيزي القارئ، هل تصدق بعد الآن، أن عميلا لاستخبارات أجنبية، يمكن إيصاله يوما ما إلى منصب الرئيس، أو الملك أو حتى الإمبراطور.... أم لا؟

من كتاب "روسيا من ثورة إلى ثورة" روسيا أًحجية التاريخ