الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في حضرة المنسي وأولاده.. أدوارٌ باتت حرة وأخرى لا تزال في السجن أسيرة

لن ننسى أولادك يا منسي!.. هكذا يحيى أشبالنا الصغار في الأسر..

2020-01-02 12:28:16 PM
في حضرة المنسي وأولاده.. أدوارٌ باتت حرة وأخرى لا تزال في السجن أسيرة

الحدث الثقافي - آيات يغمور

شعار ذكرى نكبة "كي لا ننسى"، وعائلة لاجئة اسمها مَنسي، اسم مفعول أمره منهيٌّ، لكن شخوصها فعلت وفعلت حتى أنجبت وتذكرت أطفالًا تناستهم الإنسانية، فكانوا أولاد المنسي. ليس هذا فحسب، هو حقًا لؤي المنسي الذي ذاع صيته رغم جدران عازلة، كان أبًا روحيًا لأرواحٍ شابة يافعة، يسمونهم أشبالًا هم أسودٌ لم يكتب لهم البقاء في برية حرة، وأجبرتهم قوة خارجة عن الطبيعة بالبقاء في أغلال سجون تكره نفسها لفعلها فعل السجن بحق أطفال أشبال بحاجة لرعاية لحضن لتنشئة!

أولاد المنسي، فعالية نظمها متحف الصورة التابع لوزارة الثقافة ونادي الأسير الفلسطيني، وبإدارة القاصة والشاعرة أحلام بشارات، محاضرة تعبيرية جمعت أسرى محررين، أطفالًا بذاكرة سجن حية، جلسوا جميعهم فوق خشبة مسرح، توسطهم المنسي، لؤي الذي أقيمت هذه المحاضرة تقديرًا لجهوده في احتضان أطفالٍ قُدّر لهم أن يصبحوا أسرى في سجون الاحتلال في سن صغيرة لا تقوى بهم على البقاء، فكان لؤي قارب نجاة.. اسمًا يحمل وزنًا، ملجأً يداوي جرحًا، أذنًا تسمع، وصدرًا واسعًا رحبًا ينشرح لأطفال ليسوا يتامى هم فقط سرقوا وسجنوا ليصبحوا قسرًا بلا أم وأب، بلا عائلة.. فكان هناك المنسي وأولاده.

تنقلت بين مقاعدهم أحلام بشارات، حاورت ذاكرتهم وأخرجت مشاعر فرح وحزن وضحكاتٍ، سألتهم عن المنسي، عن علاقتهم التي ولدت يوم خطفوا.

أن تعد أسابيع اختطافك بطنجرة مقلوبة!

سُجنت لمدة 28 مقلوبة من صنع المنسي، و12 عشرة مقلوبة آخرين في سجن الدامون، هكذا أخبرنا مروان، فضحكنا جميعًا واشتهينا مقلوبة مكوناتها شجاعة قوة تفوح منها رائحة كرامة!

اشتريت المكونات من حسبة رام الله بثمن مقبول، لكن الأسعار في السجن يزداد ثمنها عن تلك التي في الحرية، لا تتوفر الخضرة بكثرة، نجمع البندورة حبة حبة طيلة الأسبوع، علنا نصنع منها سلطة! نخبئ حبات البطاطا لتكون جمعتنا بنكهتها ألذ وأكثر ثراء. الباذنجان مكروه رغم وفرته، نضعه في مقلوبتنا أيضًا. رأس الثومة سعره 10 شواقل لوحده.

عيدنا مقلوبة جمعة، أعيادنا تزداد في الأسر، فكل مناسبة سببٌ للاحتفال، مدعاة للفرح، نحتاجها تلك اللحظات التي توهمنا بالسعادة المؤقتة، فنصنع وليمة أسر، نتجمع حولها فرحين بسذاجة، لكنا دومًا شاكرين. المنسي أخبرنا عن شهرته بالمقلوبة، عن حبه لإطعامه الأسرى والأشبال الذين توسطهم، فيوزع 12 طنجرة على كل غرفة تحوي تقريبًا 8 أطفال زاد منها شبلٌ أم خرج حرًا من الأسر.

المنسي: "أحدنا يغسل الخيار، وآخر يقطع البندورة، نقلي الباذنجان غير المحبب، ونقلب المقلوبة بسعادة، نعمل معًا كخلية نحل، كلٌ يأكل مما يصنع".

الأدوار

يحدثنا المنسي فيقول: أدوارٌ لعبناها جميعنا، قسمناها وفقًا لمهارات واعتبارات، كنا إخوة وأنا والدهم، جلس على مسرح القصبة وحوله أولاده، تحدث بصوت أسيرٍ ما زال مرتبطًا بواقع الأسر، رأيناه متحدثًا جالسًا صامتًا، ينظر لأولاده يحكي لإخوانه الأسرى من الحضور أيضًا عن فعل الأب، عن التعويض، عن المسؤولية، عن إنجاز هو نفسه لا يعي حجمه.

أيمن بدران، كان في السجن طباخًا وخارج الأسر طفلًا يحمل حقيبة مدرسية، بات يرتدي مئزرًا، ويرى في الطبخ دورًا محببًا، يصنع كنافة لا مثيل لها، خبزٌ مبشور فوقه قطر ساخن أو في روايةٍ أخرى يستبدل الخبز بالسميد.

محمد موجه الغرفة عريف صف لو كان خارج الزنازين، ومسؤول غرفةٍ تحوي 8 أشبالٍ عليه توجيههم، إيقاظهم ضبطهم واحتواء همومهم التي تجاوزت أعوامهم اليافعة، يستيقظ باكرًا قبلهم وينام بعد أن تغفى جفون كل واحد منهم.

متعدد المواهب، مروان العريان، خارج الأسوار نجارٌ، وداخلها يلملم غسيل الأسرى، لم يخترها بل اعتاد المنسي توزيع الأدوار على الأشبال ليستمروا بالحياة رغم توقفها، ليشعروا بفاعليتهم، لكن مروان لم يكن فقط يلعب دورًا، كانت أدواره عديدة، تعكس مواهب ربما تفجرت هنا وربما كانت مختفية هناك. أكياس البطاطا باتت خيطانًا في يده، تعلم الحياكة بمفرده، يخيط زر قميص هذا ويرثي بنطال ذاك، وجهة أخوته كان، يستعيرون ملابسه في المناسبات المهمةّ كزيارة لأم قد يطمئن قلبها عندما ترى صغيرها حسن الهندام، أو كموعد محكمة لن تراه يومًا إنسان، لكنه برتابة يحاول أن يظهر متماسكًا.

قميصٌ بني ارتدوه، يخيطونه حينًا ثم يعودون فيفكوه، حاولوا غسله مرارًا عل لونه يصبح بنيًا فاتحًا، لا يهم إن أصبح باهتًا قليلا. على المسرح الذي اعتلوه أرونا إياه، ابتسموا جميعهم في مغادرة جماعية نحو ذاكرة رغم حجم إيلامها إلا أنها جعلت منها إخوانًا وجعلت من راعيهم أبًا لن ينسوه.

عبد الرحمن شحادة، كان شبلًا محترفًا، كنزٌ كما وصفه المنسي، أن تجد حلاقًا في السجن! إنه لأمرٌ عظيمٌ فعلًا، رغم صعوبة الحلاقة الشديدة لنقصان أبسط الأدوات كشفرة الحلاقة مثالًا لا حصرًا، إلا أنهم تمكنوا من صنع الأدوات وتسخيرها لخدمة أسرى لم يسمحوا للظروف قهرهم ومنعهم من تلبية أبسط احتياجاتهم. لم نكن كثيري الحلاقة، كل شيء هنا كلفته مختلفة وإجراءاته أكثر تعقيدًا، لذا فإن طقوس الحلاقة أيضًا يلزمها مسببات كزيارة أهلٍ أو جلسة في محكمة.

أشبالٌ آخرون تحدثوا عن أدوارهم، كانوا يروون واجباتهم ومسؤولياتهم باعتزاز، وكأنه دور طبيعيٌ لطفل فلسطيني، جمهور ضحك وحزن معهم وحاول تخيل غرفة تشاركوها لكنه حتما من الجهة الأخرى كان الجمهور يختنق، عجز أو تقصير!

يتذكر الأشبال إخوتهم، يجنون لجمعة تزينها مقلوبة، يتمنون لو يخرج الجميع فيلعبون أدورًا جميعهم معًا، أدوارًا أكثر عدلًا وإنصافًا، لكنهم حتمًا لم يعودوا قادرين على لعب أدوارٍ طفولية فاتتهم وتنساتهم.

لؤي

صغير السن بمستقبل واعد كان، لاعب كرة سلة وسيم وموهوب في آن، 15 عامًا دخلها ابن أحدهم وخرج أب الجميع، استقبال حافل بلؤي، الكل الفلسطيني بات يعرفه لاحتضانه أطفالنا ولصيت مقلوبته التي باتت أكثر شهرة منه، إنها مقلوبة المنسي!

في إحدى المباريات، كان المنسي واقفًا وخلفه جمهور يصفق بحرارة، فقد سدد أول أهدافه من الضربة الأولى بعد خروجه من السجن بثلاثة أيام، لربما فقد 15 عامًا لكن مهارته ما زالت إلى جانبه مخلصة، وكذلك كانت ابتسامته.. تصفيقً حارّ آخر، وابتسم الجمهور.

لن ننسى ولم تنسى يا لؤي.. فكنت أبًا لأشبال وكانت مقلوبتك غذاء أرواحهم الطفولية التي لم يعد ذويهم قادرين على سماع ضحكاتها.