الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الشبح الذي يظهر ويختفي/ بقلم: أحمد رباص

2020-05-22 11:02:33 AM
الشبح الذي يظهر ويختفي/ بقلم: أحمد رباص
أحمد رباص

 

بدافع من طموح منهجي محفز (catalyseur) متمثل في تكسير آلية السرد الخطي الأحادي الاتجاه كما أعلنت عن ذلك سابقا، أراني مبادرا الى القيام بعملية تأخير الأول ووتقديم التالي بشكل يسمح باستدراك ما جرت مجاوزته، أو بالأحرى ما تم القفز عليه..ذلك أن الذاكرة ليست مثل كراسة تدون فيها وقائع وأحداث جرت في زمن حاضر أمسى غائبا، أي في عداد الماضي، انما هي (الذاكرة) جزء من ذات حية عاشت الأحداث والوقائع بحلوها ومرها، ومارست عليها حقها في النسيان بصورة دائمة أو مؤقتة. ربما لهذا السبب، يتعذر تقييد الذاكرة أثناء الحكي، ويستحيل، بالتالي، معاملتها كموضوع مسالم ومنفعل. هنا، يصعب تمييز الذات عن الموضوع، لأنهما يتبادلان الأدوار فيما بينهما على مستوى المسند والمسند إليه او على مستوى الفعل والمفعول فيه..

ودون محاولة لترويض الذاكرة وإرغامها على التذكر، يحلو لي أن أترك لها العنان حرا كي تتجه الوجهة التي يحلو لها فيها البوح المباح..هاهي بوصلة الحكي تشير بعقربها الى دوار الفكارة الذي احتضن أول مدرسة فرعية قدر لي أن أدش بها وفيها مساري المهني. منذ اليوم الأول، اكتشفنا أن الموقع الذي اختير للمدرسة يبعد عن الدوار بمئات الأمتار بحيث صارت أقرب الى الجبل الطويل والعريض الحاجب للأفق منها الى منازل الطوب التي يأوي اليها سكان البلدة. قريبا من المدرسة وخلفها، يقع بستان غير مسيج تتخلله أشجار اللوز والزيتون..تتكون المدرسة من ثلاث أقسام: قسمان بالبناء المفكك وثالث مبني بالطوب ومسقف بالصفيح..في الساحة، ثمة بئر لم تكتمل أشغال حفرها مع أن قرارها يبدو غائرا وتغمره أمتار مكعبة من الماء. وراء القسم المبني بالتابوت، هناك بيت مستطيل الشكل تهدم جانبه الأيمن بفعل تسرب مياه الأمطار الى الجدار. قيل لنا بأن سبب بناء هذا البيت يرجع الى وعد تلقاه سكان الدوار من السلطات يبشرهم بقرب تعيين ممرضة لتقدم خدماتها الشبه الطبية لنسائهم وأطفالهم وما عليهم سوى تهييئ البناية التي ستكون بمثابة مستوصف صغير..بنى السكان "المستوصف" بجانب المدرسة وظلوا ينتظرون مجيء الممرضة الى أن استحال أملهم الى سراب..

توالت أيام العمل رتيبة بين المدرسة و"لكصر" حيث تم إسكاننا بدون اختيارنا وإرادتنا..ونزولا عند رغبة المعلم الذي أراد الاستفراد بالغرفة الكبيرة المتقابل بابها مع باب المسجد والذي سبق له أن أخطرنا بأن مقامنا معه مؤقت ليس إلا، تدبر ثالثنا المتحدر من آسفي أمره حيث استغل علاقته بأحد رجال الدوار ممن يواظبون على أداء الصلوات الخمس وتسلم منه مفتاح البيت الكائن على يمين باب المسجد. انتقل المعلم المسفيوي إلى سكنه الجديد وبقيت أنا في الحانوت الكبير وجها لوجه مع المعلم المكوني الذي بدا لي أن بقائي معه تحت سقف واحد بات يزعجه رغم أنه لا يسكن بهذه الخربة بمقابل مادي وإنما بالمجان..لهذا لم يستطع مواجهتي ومفاتحتي في الأمر بشكل مباشر فطلب من شابين من أبناء الدوار إقناعي بضرورة إخلاء الغرفة مقابل السكن بمفردي في بيت صغير ومظلم يقع مباشرة فوق بيت المعلم الأزيلالي..امتثلت لما تم اقتراحه علي كحل، ويا ليتني لم أمتثل!!!

منذ الليلة الأولى التي قضيتها في هذه الغرفة المتربة المظلمة، ترسخ في شعوري ومخيلتي أني دفنت حيا بأسمالي وأهيل علي التراب من كل جانب..في الصباح، وأنا في طريقي إلى المدرسة، أشعر باني عائد إلى مشتل الحياة بعد ليلة عشتها في عداد الأموات..

بقيت مدفونا بهذا القبر المظلم ذي السلم المفضي مباشرة إلى الشارع وذي الكوة الصغيرة المطلة على ساحة المسجد التي تتوسطها بئر يستبطن منها المصلون الماء الذي به يتوضأون ويغتسلون..في المساء، اعتدت الجلوس بالقرب من باب زنزاتي الطوبية وأنا أحتسي كأس شاي قلما يكون منعنعا، فإذا بي ذات مساء ألمح شبحا يظهر ويختفي من بين بنايات قديمة مهجورة ملوحا بكلتا يديه في اتجاهي طالبا مني القدوم عنده..ذات ليلة، استجبت لتلويحات الشبح وهرعت في اتجاهه لأكتشف حقيقته هل هو من الجن أم من الإنس. ولجت بقايا وأنقاض منازل قديمة في لجة ظلام دامس بدون مصباح في محاولة مني للالتقاء بالشبح فإذا هو شابة حمقى رأت في أنا فارس أحلامها..عندما اكتشفت جنونها أشفقت لحالها واستبعدت من دماغي فكرة اغتصابها تفاديا للفضيحة..ودعتها بطبع قبلة على خذها في جنح الظلام وعدت مذعورا مفجوعا الى جحري المترب..

حل شهر رمضان بطقوسه وأجوائه وجرى تكييف الزمن المدرسي وفق إملاءات وتعليمات المذكرة ذات الصلة..طيلة هذا الشهر، استحوذت علي فكرة البحث عن سكن أليق من هذا الكهف الحقير الذي زج بي فيه دون ذنب يعاقب عليه قانون أوتدينه شريعة، لا سيما بعد أن أكتشفت أن عابر سبيل قضى رفقة دابته ليلة في "لكصر" بأحد البيوت السفلية بعدما سمحوا له بذلك وأحضروا الحشيش لمطيته. أواه!! كيف أعامل بدرجة أقل من الاحترام الذي يحظى به عابر سبيل؟ في المدرسة، سألت التلاميذ عن من يحتفظ بمفتاح المستوصف. قالوا لي: المفتاح عند المقدم..طلبت من تلميذين الذهاب عنده ليخبراه بأن "الموعليم" يريد مفتاح المستوصف..ما هي إلا لحظات حتى عاد الصبيان ليقولا لي بأن المقدم رفض تسليمهما المفتاح..عندها، ضربت الباب برجلي اليمنى ضربة كانت كافية لإسقاط دفة الباب في وسط الكوخ الذي انهار جانبه الأيمن ذات ليلة مطيرة..

اقتحمت "المستوصف" وجلت بأركانه فوجدته مفعما بنور الشمس ولو انه مشاع للريح..طلبت من التلامييد مساعدتي على نقل حوائجي من "لكصر" إلى هذا المكان الذي لذت به بعد إهمال طال أمده..هيأت الأرضية لفراشي وبسطته في الفسحة التي تشكل امتدادا للركن القريب والمقابل للباب..في مساء نفس اليوم، التحق بي أحد أصدقائي من أبناء الدوار مباركا لي السكنى الجديدة ومقترحا علي إصلاح الباب بإعادة تثبيته في مكانه شريطة اقتناء مسامير غليظة وكميةمن الجبص..وما دام أن الغد كان يوم خميس، فقد كلفت صديقي بشراء تلك الأشياء من أكدز الذي يحتضن في مثل هذا اليوم سوقا أسبوعيا..