الثلاثاء  16 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أبو الصابر.. أخاديد النكبة/ بقلم: أسامه منصور (أبو عرب)

(إهداء للاجئين الفلسطينيين على امتداد العالم)

2020-08-10 01:00:35 PM
أبو الصابر.. أخاديد النكبة/ بقلم: أسامه منصور (أبو عرب)
أسامه منصور

 

كعادته وفيما كان يتجول في سوق عكا القديم، يداعب هذا ويناغش تلك رغم كون عمره قد قارب على المئة عام، فإنه ما زال يحتفظ بروحه الجميلة التي تتراءى لك كـسلة فواكه تحتوي كل الأنواع وسواء كان موسمها أم لا، فروح أبو الصابر أبعد من حدود الفصول الأربعة، ونكهة حديثه لا يملها بشر، عشرات الأعوام مرّت وهو يأتي كل يوم ما عدا الجمعة أو أيام تكون لديه مهام خاصة به شديدة السرية، يبتاع له كعكة ويجلس في المقهى الشعبي يشرب شايه الثقيل فيما يلتئم حوله الجميع ليسمعوا منه حكايات الكفاح الطويلة، ومشاركاته في الحروب والمعارك والعمليات البطولية وتعذيبه في سجون الإنتداب البريطاني والإحتلال البغيض، قصص لا تنتهي يأتي ليقصها فيما تغيرت الوجوه التي تسمع، فمرور عقود جعل أصدقاء له يرحلون فيما التأم أبناؤهم يستزيدون بالسماع لحكايات أبو الصابر، وابو الصابر لا يتغير ولا يتبدل، وإن كان قد بدّل حماره "القبرصي" غير مرة لنفوقه، فهو ذٰلك الرجل الطويل القامة المتراصف البنية العريض المنكبين الأسمر البشرة الثابت الخطى رغم إصاباته المتعددة في أنحاء جسده، أما عكازه المزركشة فإنه يحملها "للمغاياة"، وجهه عالم طويل عريض لا ينتهي، فقد غارت عيناه الصغيرتان في وجهه العريض حتى كادتا تتلاشيان، وأضافت التجاعيد الممتدة في وجهه وقارا يتناغم مع سنه وعنفوانه فكانت كأنها أخاديد منحوتة بحنكة وروية من قبل فنان تشكيلي متمرس، وزاد في وقاره "الهدم" الأسود الذي يلبسه والمشقول من الناحيتين ليظهر سرواله أبيضاً ناصعاً يتماهى مع بياض حطته ليعكس كل ذٰلك المقصود او اللامقصود في لباس هذا الرجل العظيم، حطة بيضاء فعقال أسود فـ"هِدم" أسود وحزام أسود فسروال أبيض وجوارب بيضاء وحذاء أسود شديد النظافة واللمعان لا يتسخ رغم طول المسافة المقطوعة يوميا من هناك إلى هنا أو من هنا إلى هناك، من أرضِنا إلى أرضِنا.

خلال جولته المعتمدة المعهودة في أسواق عكا، شيء غريب واحد غير مفهوم كان يفعله عند وصوله لأحد المحلات المحددة والمعروفة للأسماك الطازجة فقد كان ابو الصابر يضع في "هدمه" عند صدره من الداخل كيس قماش بداخله كيس ورقي، ويجلس في ذلك المحل، فما أن يغيب التاجر أو ينشغل حتى يسحب سمكة كبيرة نوعا ما ويضعها داخل "هدمه" في الكيس ويغادر بعد الاستئذان.

كانت تربط التاجر وأبو الصابر علاقة حميمة جدا، وفي البداية لم يكتشف التاجر ذٰلك، لكنه مع مرور الأيام إنتبه فراقب وعرف واستغرب كثيراً، لكنه آلىٰ على نفسه أن يعتاد المسألة لأنه لا يريد أن يخسر أبو الصابر صاحب الروح الجميلة والحكايات الطويلة والمواقف الأصيلة، ولعل موقفه عندما حاول زعران مستوطنين التبجح ذات يوم على التاجر كان موقفا عظيما، حيث قام أبو الصابر بتأديبهم بعصاه ففرّوا هاربين وما عادوا أبداً، وهذا لم يمنع التاجر من الاستمرار بالتفكير والتحليل حتى أنه ذات يوم ومن لحظة وصول صديقه باغته بكيس كبير فيه أنواع من أفخر أنواع الأسماك كهدية له ولعائلته، فرفض ابو الصابر بشدة وكاد أن يغضب ويغادر حتى اعتذر له صاحب المحل وصاحبه، وأنهيا القضية بكاسة شاي، لكن أبو الصابر كالعادة أخذ سمكة وغادر، وبقي صديقه مستغرباً محتاراً وقد قرر أن لا يفتح الموضوع وأن يترك في كل مرة طيلة عقود لصديقه هامشاً ليأخذ سمكته ويغادر.

كان أبو الصابر قد فقد زوجته منذ سنوات عديدة، وكانت كل يوم يصل البيت فيه تتساءل "ليش ريحتك سمك، أي نفسي مرة اتجبلنا سمكة انذوقوا، والله يا ابو الصابر اللي بوكل لحالو بزور" فيرد عليها "والله يا مرة ما ذقتو" فتكتفي بهذا القدر من الكلام لأنها تعلم أن ابو الصابر لا يكذب، وتعد له عشاءه الذي غالبا ما يكون عدساً أو فتيتاً أو صحن زيت وبصل، وقد حزن كثيراً لدى فراقها، وأقسم أن لا يتزوج بعدها، وكان ابنه الصابر وزوجته يقومون بواجبه، فيما كانت تأتي ابنته صابرة لتتفقده بين الفينة والفينة وتقوم ببعض التنظيفات والترتيبات وتغادر.

استأنف ابو الصابر حياته بنفس الشكل وعلى نفس الوتيرة خاصة بعد أن كبر وما عاد يقو على القيام باي أعمال ضد المحتل، فكان مع شقشقة الضوء يعمر إبريق شايه على الحطب تحت الزيتونة المجاورة لمنزله والتي سمح له أصحابها بالإستمرار بالقيام بطقوسه تحتها، ويبدأ "البلكشة" بـ"ترانزستور" قديم لديه منذ عشرات السنين، ويستمع قام فلان بزيارة لدولة كذا، فيقول لنفسه "الله يرحم لمن بقينا أنا وياه محاصرين بمغارة الضبعة"، اجتمع فلان مع كذا فيقول لنفسه "الله يرحم لمن مسكتوا بسرق التموين وضربتو ع راسو وما عادهاش"، هذا وسيقوم فلان اليوم بزيارة منطقة كذا فيقول لنفسه "إخص عليك لو تميل علينا اشوي ونتخرف عن أيام زمان ولّا اكبرت علينا، ولك ما بتكبر إلا المزبلة"، ويستمر على هذا الحال ساعة ثم يمتطي حماره القبرصي "ووينك يا عكا".

ذات صباح، أفاق أبو الصابر كعادته، قام بطقوسه، وامتطى حماره متوجها لعكا، وعندما وصل نقطة محددة وجد جداراً عاليا كبيرا يتأفعى أمامه لا يستطيع إدراك ارتفاعه، ولا يستطيع إدراك نهايته يميناً أو يساراً، فجلس واتكأ لذٰلك الجدار اللعين وبكى، إنهارت دموعه دماء من عيناه، إسودت الدنيا بوجهه واستشاظ غضبا وكمدا وحزنا.

في ذلك اليوم انتشر خبر وفاة أبو الصابر في القرى المجاورة لكنه لم يصل عكا، وبينما أبو الصابر مُسجّىٰ جاءت عائلة كاملة مكونة من أم وأب مقطوع القدمين وأبناءهم وبكوا عند قدميْ أبو الصابر وجاءت عائلة ثانية وثالثة وعاشرة وكلهم بكوا عند أقدامه، فيما توجه طفل إلى جانب السرير وحمل كيسا ونادى أمه "يما يما هيْ الكيس اللي بقا يجيبلنا فيه سمك" والعائلة الثانية والثالثة والعاشرة قالوا "وإحنا"، وتمت مواراة جثمانه إلى مثواه الأخير بحضور الكثيرين إلا الذين لعق معهم مرارة الكفاح الأول، من مات وهو يعاتبهم كرفاق درب عندما كان يستمع لـ"لترانزستور" كل صباح.

في عكا رغم عدم وصول الخبر إلا أن كثيرين كانوا ينتظرون أبو الصابر، وفجأة وفي سوق السمك فاحت رائحة سيئة، فقال التاجر الأول "السمك مفطس هسا صدناه" والتاجر الثاني والعاشر كلهم قالوا "إيش صاير للسمك"، إلا الصديق الحميم، قذف بنفسه على كرسيه في محله وهو يشتم رائحة السمك السيئة، وشهق بأعلى صوته "مات أبو الصابر".

(من وحي خيال الكاتب)