الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حماية الأطباء من غضب الضحايا| بقلم: ناجح شاهين

(بمناسبة الاعتداء على طبيب في بيت لحم)

2021-02-17 09:54:56 AM
حماية الأطباء من غضب الضحايا| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

لاحظ محمد يوسف القعيد في "شكاوي المصري الفصيح" أن دور الدولة في زمن الراحل السادات هو حماية نوم الأغنياء من أرق الفقراء. وإذا لم يكن هناك من طريقة لإطعام الجياع، فلا بد من بناء الأسوار العالية حول بيوت من يتمتعون بوفرة في الطعام وصولاً إلى وضع قوات مدججة بالسلاح لحمايتهم من طمع الجائعين عندما يخرجون عن طور الإنسانية، ويدخلون في نطاق الوحشية الحيوانية الهائجة جوعاً مجنوناً لا يلوي على شيء. 

هناك أيضاً رواية إنجليزية تتحدث عن طبيب شاب، ذكي ومجتهد، بدأ العمل في الأرياف الإنجليزية، حيث كان يخدم الناس بإخلاص، ويتقاضى منهم الأجر الزهيد لقاء خدماته المتفانية. كان يفحص كل حالة مرضية بترو وتدقيق لا يستكين، ولا يكل ولا يمل. وظل على الرغم من ذلك، أو ربما بسبب ذلك، طبيباً فقيراً. وعندما كان يلتقي بزملائه الأقل منه موهبة ومهارة، كانوا يحثونه على الانضمام لهم في المدينة (لندن) من أجل أن يطور وضعه المالي البائس. وهكذا انتقل الطبيب الشاب المجتهد إلى لندن ليدخل تدريجياً في "بزنس بيع" المرضى لزملائه، ليقوموا بدورهم ببيع مرضاهم له. وعندما يقع مريض ما في يد هذه "العصابة" فإنه لا يخرج منها قبل أن تستنزف ماله وصحته على السواء. كان طبيب القلب يحول المريض لطبيب الأعصاب، وطبيب الأعصاب يحوله لطبيب الغدد الصماء، وهذا يحوله لطبيب المسالك البولية… الخ. كان لا بد لأفراد العصابة جميعاً من الاستفادة من المريض وعصره حتى آخر جنيه في جيبه. 

الحمد لله، لم يعد لمثل هذه الممارسة مكان في بريطانيا ولا أي بقعة في العالم فيما أظن وأحلم وأتوهم. لكن هذا لا ينفي حالات شبيهة، وإن تكن أكثر لطفاً، تقع هنا وهناك: مثلاً منذ أعوام انتشرت في الأردن الشقيق ظاهرة اسمها "الدكتور محمد". وهو راعي أمي زعم أنه يعالج المرضى ويجري لهم العمليات الجراحية المختلفة بالاستعانة بجراحين من الجن. كان يدخل المريض إلى "غرفة العمليات" ويتركه هناك لبعض الوقت حيث يقوم الجراح الجني بإجراء اللازم. الغريب في الأمر أن "الدكتور محمد" ورفاقه الجن لم يمتلكوا تقنية تصوير الأشعة على الرغم من اتساع خدماتهم وتنوعها وشمولها، لذلك كانوا يستعينون بمراكز تصوير وأطباء من بني البشر ليشخصوا المرض قبل أن يتخذوا الإجراء الطبي اللازم. 

هل تتوقعون أن مراكز الأشعة وأطبائها في عمان والزرقاء وإربد.. الخ كانوا يتعاونون مع "الدكتور محمد"؟ أعتقد أنكم تتوقعون ذلك، فنحن جميعاً في هذا الوطن فقدنا الثقة والأمل بكل ما هو قائم. ولسوء الحظ فإن هذا الجزء من القطاع الطبي لم يخب ظننا؛ فقد قاموا بإجراء الصور التي طلبها الدكتور محمد وشخصوا له الأورام والحصى والكسور… الخ، وما كان على أطباء الجن إلا إجراء العملية العلاجية بدون تحمل مشقات التشخيص. 

بنى الدكتور محمد قصراً كبيراً في عمان، وأصبح لديه أصدقاء ومريدون حتى في أوساط الحقل الطبي ذاته، وعندما صحت الحكومة لسبب ما، وأرادت أن توقفه، كان ذلك صعباً جداً بسبب تعود الناس على خدمات الجن المتفوقة قياساً إلى الطب البشري المحدود والمشبع بالقصور الإنساني الناجم عن التعب والإرهاق والإهمال والسهو والجهل واحتمالات الصواب والخطأ...الخ. 

وقد قلنا ما قلناه، هل ينطبق محتوى السطر الأخير على الحالة الطبية في مناطق السلطة الفلسطينية؟ بالأحرى هل يجرؤ أحد حتى من العاملين في الحقل الصحي في بلادنا على إنكار محدودية الموارد والخبرات والمهارات والأجهزة التي دفعت بمنظمة الصحة العالمية قبل عقد من الزمان إلى مقارنة أوضاعنا بأوضاع الدول الإفريقية الأشد فقرا وجهلا ومرضا؟ 

 نحن بلد صغير يعاني الاحتلال، موارده ضعيفة، وميزانية وزارة الصحة فيه "غلبانة"، ويتزاحم الناس على أبواب مشافيها وعياداتها القليلة أكثر مما يتزاحمون على طواف الكعبة في موسم الحج. 

من ناحية أخرى، وإضافة إلى اكتظاظ المرضى في طوابير تنتظر أشهرا طويلة حتى يصلها اليوم الموعود للعلاج، فإن هناك مشكلة تتصل بكفاءة الطبيب. بالطبع لا نرغب أبدا في انتقاص الأطباء، فتغضب منا نقابتهم التي لا تتسامح ولا تتساهل مع أي انتقاد، ولكننا نعلم أن النقابة تمتلك من الذكاء ما يؤهلها لتقبل فكرة أن معظم الأطباء المميزين يمكن أن يرحلوا إلى بلاد أخرى تجزل لهم العطاء، فلا يظل في البلاد إلا من لا يمتلك الفرصة للعمل في دول الخليج أو في شمال العالم. ليس سراً أن هجرة العقول ظاهرة شائعة تشمل الدول الفقيرة كلها. لكن هجرة الأطباء تحديدا هي الأوسع لأنهم قطاع خدمات يتصل بأغلى ما يملكه البشر فيشتد عليه الطلب في كل مكان، بما في ذلك البلاد الأكثر تطوراً من قبيل الولايات المتحدة وغرب أوروبا والدول الاسكندنافية واليابان. 

بعد هذا لا بد لنا من الاعتراف بأن التجهيزات والمباني والأدوات اللازمة للتشخيص والعلاج وكل ما يتصل بقدرتنا على تقديم خدمات طبية ذات مستوى عال، هي في حدها الأدنى لأسباب واضحة بذاتها. ومن نافلة القول إن أية نية لتطوير الخدمات الطبية في بلادنا تكاد تنعدم بسبب ضعف الموارد من ناحية، وبسبب عدم احتياج مجتمع النخبة لخدماتنا المحلية لاعتمادهم على خدمات الجيران الاسرائيليين والأردنيين المتوسطة، وخدمات الدول المتقدمة المميزة من ناحية أخرى. 

ربما يفسر هذا الأمر ظاهرة لا تتكرر كثيرا في الممارسة الطبية، وتتصل بجرأة الطبيب على التعامل مع المرضى وكأنه سيدهم بدل أن يكون خادمهم، أو على الأقل أن يمثلوا له الزبائن الذين يحتاج إلى نقودهم. وهكذا يبدو أن بؤس المرضى الذين يطلبون الخدمات الطبية المحلية، يعطي الفرصة لضعاف النفوس في الحقل الطبي للتنمر على المرضى والاستهانة بألمهم ومعاناتهم وصولا إلى الاستهتار المريع بحياتهم ذاتها.

لحسن الحظ فإن معظم الناس في بلادنا لا يميلون إلى لوم الطبيب عندما تقع أية مصيبة. غالباً الناس يلقون باللائمة على القضاء والقدر. وهكذا لا يتعرض القطاع الطبي معظم الأحيان لمعاتبة بسيطة. لكن بعض الأشخاص "الكفار" وقطاع من الفقراء المتعلمين "الأشقياء" طوروا الكثير من المشاعر الغاضبة تجاه قطاع الطب بسبب تكرار حوادث الموت والإعاقات المختلفة الناجمة عن أخطاء تتصل بالجهل والإهمال الصارخ في بعض الأحيان. هؤلاء "الغوغاء" يتظاهرون ويكسرون و"يفتعلون المشاكل" كلما مات قريب أو "انشل" حبيب مدعين أنه لا يوجد أية سلطات تعلو سلطة الطبيب، وأنهم لا يستطيعون الدفاع عن حياتهم وحقوقهم إلا بهذه الطريقة. 

هل يشير الواقع إلى أن هؤلاء "الغوغاء" مخطئون، وأن هناك فعلاً جهات قضائية وتنفيذية تتمتع بالأهلية والصلاحية لمحاسبة المهمل ومعاقبة المسيء من العاملين في الحقل الطبي سواء كثروا أو قلوا؟ 

قبل سنتين رفضت نقابة الأطباء فيما أذكر رفضا قاطعا أن تتم مساءلة الطبيب من أية جهة باستثناء النقابة ذاتها. باختصار أصر الأطباء ممثلين بجسمهم المنيع على أنهم أحرار فيما يفعلون، ولا يحق لأحد أن "يتطاول" على مقامهم السامي بأي شكل من الأشكال. 

هكذا على ما يبدو تم دفع الناس إلى الالتصاق بالجدار حيث لم يعد أمامهم إلا الاستسلام التام لما يحدث لهم وتقليد إخوتهم المؤمنين بقضاء الطبيب وقدره، أو أخذ القانون بأيديهم بالطرق المختلفة التي تتجلى في التخريب والاعتداءات التي تصل أحيانا إلى معاقبة الطبيب الذي يعتقدون أنه أساء لابنهم أو صديقهم أو حبيبهم. يمكن "للدولة" بالطبع أن تردع هذه الممارسات، بل وتجعلها مستهجنة ومنبوذة كلياً في حال امتلاكها الشجاعة الكافية لتنظيم القوانين والقواعد والأحكام التي تنصف المريض/ متلقي الخدمة الطبية، وتحمي الطبيب، الممرض، الفني/ مقدم الخدمة. أما إذا اختارت أن تنصاع لرغبة الأطباء في ممارسة حرية هوبز المطلقة فلا بد أن مجتمع هوبز الفوضوي الذي يحارب الكل فيه ضد الكل هو ما يجب أن ننتظره ونتعايش معه.