الخميس  28 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"تفريغات 2005": نموذج لتشويش الحقيقة والمتاجرة بمعاناة الناس| بقلم: جمال زقوت

2021-04-07 10:45:53 AM
جمال زقوت

مصطلح "تفريغات" تعود في الواقع الفلسطيني للحقبة اللبنانية للثورة. فبعد خروج المقاومة من الأردن إثر معارك أيلول الأسود، توسع الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان بشكلٍ تجاوز الهدف الرئيسي للكفاح المسلح، حيث سعت الأنظمة العربية المساندة لمشروع التسوية وتلك المعارضة لها بعد حرب تشرين على تسليح قوى المنظمة، والتسليح المضاد لقوى الرفض كما كانت تسمى في حينه، وبما يتجاوز بمضمون هذا التسليح حرب العصابات الذي بنيت على أساسها فكرة الكفاح المسلح، لتتحول تدريجيا إلى ما يشبه القوات شبه النظامية، وقد توسعت هذه الظاهرة العلنية أثناء الحرب الأهلية في لبنان حيث بطريقة أو بأخرى أصبح هدف قوات الثورة الفلسطينية في لبنان يتركز على حماية الوجود العسكري العلني المسلح في لبنان، وكأن ذلك يشكل جزءاً من المواجهة مع العدو الإسرائيلي لإبقاء القضية الفلسطينية حية سيما في إطار المعركة على التمثيل الفلسطيني، وما كان يسمى بالقرار المستقل في حينه، وخاصة بعد انتزاع وحدانية التمثيل في قمة الرباط عام 1974.

انتشرت هذه الظاهرة وتوسعت تدريجياً لتتحول لتفريغات واسعة امتدت داخل المخيمات من خلال تجنيد وبناء ميليشيا شبه عسكرية، واتسمت العلاقة مع آلاف الأفراد المنضوين في إطارها بما بات يعرف "بالتفريغ" والجلوس في البيت، وقد اتسع مع هذه الظاهرة "التنافس عبر التفرغ" في كسب الولاءات بديلاً عن الانتماء على أساس القناعات.

شهدت الانتفاضة الثانية، والتي اتسمت بالعسكرة، وبناء تشكيلات شبه عسكرية، أو انفلاش ملاك بعض مجموعات قوى الأمن، وانضمامها لهذه التشكيلات الميليشياوية. صحيح أن بعض المجموعات المسلحة كانت قد أبدعت في توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال وكان ذلك في معظمه يتم تحت غطاء من السرية المطلقة، في وقت أن السمة العامة لهذه الظاهرة كانت قد خرجت عن السيطرة وتحولت في جزء جوهري منها سيما في وقت متأخر من تلك "الانتفاضة " إلى شبكة من المصالح والفوضى والخاوات والفلتان الأمني الذي بات يهدد أمن المواطنين ووحدة نسيج المجتمع الفلسطيني وتماسكه.

في تلك الآثناء وبعد استشهاد الرئيس أبو عمار "الذي كانت له القدرة والهيبة على الإمساك بخيوط تلك اللعبة الخطرة، رغم خروجها عن طوعه في الفترة الأخيرة من حياته"، حاول بعض القادة الفلسطينيين احتواء هذه المجموعات المسلحة وكسب ولاءاتها بإعادة إحياء سياسة التفريعات مرة أخرى، والتي هي بمضمونها في الواقع عملية استحواذ إن لم نقل شراء الولاءات، وقد اتسع نطاق ما يسمى بهذه التفريعات لمراضاة المجموعات القريبة من السلطة، وهي في الحقيقة لم تقتصر على قطاع غزة فقط، بل امتدت إلى بعض مدن الضفة الغربية.

وصل عدد هؤلاء "المتفرغين" ما يفوق عشرات الآلاف، في مخالفة واضحة وانتهاك صارخ لقانون الموازنة العامة الذي يحظر التوظيف سواء المدني أو العسكري دون توفر شواغر معتمدة، فبخلاف الحقبة اللبنانية و"تفريغاتها"، حيث لم تستخدم حتى كلمة راتب أو مكافأة، فأي تجنيد أو توظيف للمؤسسة الأمنية في مرحلة بناء السلطة يتطلب وجود شواغر مالية، فبدونها لا يجوز تجاوز هذا المبدأ؛ على الأقل هكذا أصبح الأمر إثر بدء عملية الإصلاح المالي بعد تعيين الرئيس عرفات لفياض وزيراً للمالية، وما كانت تتطلبه مالية السلطة الوطنية من إصلاحات جوهرية لم يكن أقلها وقف دفع الرواتب لمنتسبي الأجهزة الأمنية بشوالات الكاش، وحساب الخزينة الموحد، وضبط أصول الاستثمارات في إطار قانوني تحت مسؤولية صندوق الاستثمار، بالإضافة للعمل وفق موازنات محددة ولأول مرة منذ نشوء السلطة الوطنية، مع العلم أن هذه الإصلاحات البنيوية في النظام المالي الفلسطيني تمت في عهد الرئيس أبو عمار وبموافقته الكاملة عليها، كما يقول فياض نفسه في مقابلة له مع مجلة الدراسات الفلسطينية خريف 2009.

هذه "التفريغات" التي كانت موضع جدل عندما تولى فياض حقيبة المالية في حكومة الوحدة الوطنية حيث لا يوجد شواغر لتغطيتها في الموازنة العامة، وأيضاً لا حاجة لها، إلا أن الوقت لم يسعف فياض لمعالجتها وتسويتها في الشهور الثلاثة من عمر تلك الحكومة، حيث كانت الأولوية في حينه "لفكفكة الحصار المالي" الذي كان سبق وقد فُرض على حكومة حماس واستمر بدرجة أقل قليلاً على حكومة الوحدة الوطنية والتي سمي بموجبها هنية رئيساً للوزراء و فياض وزيراً للمالية.

تفاصيل نشوء المشكلة:

في نهاية سنة ٢٠٠٥ وتحديداً في نهاية شهر ١٠ استقال عدد من وزراء الحكومة التي كان يترأسها "أبو علاء" أحمد قريع للمشاركة في الانتخابات ومن ضمنهم سلام فياض، فتولى رئيس الوزراء "أبو علاء" وزارة المالية وكلف وكيل الوزارة في حينه جهاد الوزير بإدارتها. ولأسباب انتخابية وضغوطات مسلحين تم صرف معاشات مجموعة كبيرة من هؤلاء المتفرغين من موازنة الخدمات الطبية العسكرية، وبعد فوز حماس واستلامها للحكومة تم اعتماد آلاف العسكريين للتوظيف في الأجهزة الأمنية، ولكن ذلك ترافق مع توقف دفع الرواتب لمدة ثمانية عشر شهراً.

بعد انقلاب حماس واستيلائها على قطاع غزة وتشكيل حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض، تم الحصول على الكشوفات من التنظيم والإدارة والإدارة المالية العسكرية، حيث تم البدء بصرف الرواتب بعد اعتمادها من الأجهزة الأمنية. وأوقفت جميع التعيينات التي ليس لها قيود في التنظيم والإدارة وكان عددها خمسة وثلاثون ألفا. وتم إعادة دفع الرواتب لكل من جرى اعتمادهم بشكل رسمي من قبل الأجهزة الأمنية والتنظيم والإدارة. وبقي جزء أوصت الأجهزة الأمنية والادارة المالية بأنها ليست بحاجته.

كان ذلك واحداً من رزمة قرارات للإصلاح المالي ووقف هدر المال العام والذي شمل أيضاً في حينه معالجة ما يعرف بصافي الإقراض المتصل بالتسيب الهائل في مستحقات فاتورة دفع الكهرباء حيث بلغت قيمة الهدر والتسيب في هذا البند لوحده ما يفوق المليار شيقل سنوياً، بالإضافة للتوظيف و"التعيينات الوهمية" على ديوان الموظفين خارج أي خدمة فعلية، وغيرها من الفوضى المالية التي كانت قد ترافقت مع الفوضى والفلتان الأمني والتي شكلت سبباً جوهرياً لنجاح حماس في انتخابات 2006 وما تلاها من انقلاب حماس على حكومة الوحدة الوطنية عام 2007.

في إطار معالجة فوضى هذا الملف، وكون هؤلاء "المتفرغين" ضحايا لسياسة التسيب والفوضى والمحسوبية التي كانت سائدة، وضمن الحد الأقصى للقدرة التي تحتملها الموازنة العامة للسلطة الوطنية أي المال العام من دافعي الضرائب، أقرت الحكومة الفلسطينية بناء على توصية من ما كان يعرف بلجنة غزة "قبل أن يتم حلها" في حينه اعتماد مبلغ شهري مقطوع بقيمة 1000 شيقل لكل من هؤلاء "كمساعدة اجتماعية شهرية دائمة"، وتم رفعها لاحقاً إلى 1500 شيقل، بالإضافة للتأمين الصحي. واستمر هذا الأمر نافذاً حتى اتخذت الحكومة التي تلتها قرارات مالية وإدارية مجحفة في أبريل عام 2017، بعضها تضمن دفع نصف الراتب وفي حالة هذا الملف دفع نصف الاستحقاق من المساعدة الاجتماعية لتصل إلى 750 شيقلا، إلى أن أُعيد تصويبها فيما بعد من الحكومة الحالية لتعود كما كانت 1500 شيقل .

استخدام الملف مرة ثانية، وضمن قضايا أخرى بهدف الإساءة للإصلاحات المالية والإدارية التي ميزت حقبة متميزة من حياة السلطة الوطنية في الأعوام 2007-2013، وربما بهدف تقويض تلك الإصلاحات كما هو بالتأكيد محاولة من مراكز النفوذ المتضررة للمس بفياض وبالتأكيد لأغراض سياسية ليس لها علاقة بأصحاب هذا الملف.

المستهجن أن بعض من يطالبون بالإصلاح من بعض الفصائل ويأخذون "وهم ربما محقون" على السلطة الوطنية تضخم موازنة قطاع الأمن والتي من ضمنها آلاف المنتسبين كاسترضاءات بتعيينات فصائلية "لم تحظ من الجمل على أكثر من أُذنه" كما يقول المثل، في وقت أن بعضهم الآخر كان قد نسب الآلاف وبعضهم المئات لقطاع الأمن ومن ضمنهم هذا الملف، إلا أنهم يمارسون تضليلاً غير مسبوق ضد من قاد عملية الإصلاح بشجاعة ونزاهة نادرتين، وهم أنفسهم يحرضون ويشجعون على غريزة التهييج النفعية لهؤلاء "الضحايا" من فساد تلك المرحلة.

هذه هي قصة إبريق الزيت التي تسمى تفريغات 2005، وهي نموذج لقضايا أخرى تمت معالجتها أو كانت قيد المعالجة الملموسة بحلول عملية لوقف نزيف هدر المال العام، ولكنها للأسف جوبهت من مراكز القوى الذين يعتاشون على فوضى الفساد وما زالوا.

الحركات الوطنية الجادة وأنظمة الحكم الرشيدة تراكم على إنجازاتها بغض النظر من يقف خلفها؛ فما بالكم إذا كان الأمر يتصل بمكافحة المحسوبية وهدر المال العام في وقت أن الفساد يمثل العقبة الكأداء الذي علينا اجتثاثه.

إنهاء مأساة غزة لا يمكن أن تُعالج بالتحريض ولا بإيجاد حلول مجزأة وفتح ثغرات في أماكن أخرى، بقدر ما تتطلب أولاً وقبل كل شئ إلغاء كافة القرارات غير القانونية التي مست بحقوق موظفي القطاع، وسيظل المدخل الأساس الذي لا يُعلى عليه لمعالجة هذه المأساة هو إنهاء الانقسام، ومحاسبة الانقساميين كمدخل وطني شامل لإعادة غزة، باعتبارها أولوية عليا، لاهتمامات النظام السياسي الموحد، ومرة أخرى لتستعيد مكانتها كرافعة للحركة الوطنية المتجددة ولمسيرة البناء والتحرر. فهذا هو الذي يفتح الباب لتنمية جدية توفر فرص العمل التي تخفف العبء عن الموازنة العامة لجهة تطوير البنية التحتية المهشمة والتي تشكل الأساس لترميم الاقتصاد الضعيف وتحويله لأداة فاعلة للصمود والعيش الكريم.