الثلاثاء  23 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

“الإغارةُ بسرعة أكثر من الموت”

قراءة في كتاب

2014-01-20 00:00:00
“الإغارةُ بسرعة أكثر من الموت”
صورة ارشيفية

محمد الأمين سعيدي- شاعر وأكاديمي جزائري

تشكّلَ عنوانُ هذا المقالِ الذي سنتحدّث فيه عن تجربة الشاعر الجزائريّ بوزيد حرز الله من عنوانيْ ديوانيْه:”الإغارة”، و”بسرعة أكثر من الموت”. ذلك لأنَّ القارئ لنصوص المجموعتيْن سينتبه إلى التفاصيل التي انبنتْ على أساسها رؤية الشاعر إلى ذاته أولا، وإلى علاقتها بما يحيط بها ويؤثث عالمها الخاصّ والحميمي؛ فالمدينة بشتى عناصرها المشكِّلة لها، والحياة بمختلف تمظهراتها اليومية هي موضوع الشاعر الرئيس في كل نصوصه. هذا ما يكشف عن ولعه الشديد بالإغارة سريعا على تلك التفاصيل محاولا القبض على تجلّياتها وتوصيفها في حينها، خشيةً من انفلاتها بتحوّلها أو ضياع الخيط الرابط بين وجودها الواقعيّ باعتبارها تجاربَ حياتية، وبين ترحيلها إلى عالم الشعر لتتحوّل رويدا رويدا إلى تجربة شعرية تنهل من الحياة أهمّ ركائزها لتصدر بعد ذلك مفعمةً بحرارة الصدق، معبّرة عن اللحظة قبل فواتِها، مؤرخة لفرادتِها قبل أنْ تزحف نحو سنابلها مناجلُ النهاية. فالشاعر يطمح، من خلال عنوانه ورؤيته الشعرية، إلى تجاوز سرعة الموت ليصل قبله إلى الأشياء الجميلة في هذه الحياة فيلتقط لها صورة بعدسة القصيدة التي تُغيرُ على جواهرها لتكشف فيها عن قيَم الإنسان المحاصرة في زمن يكفرُ بالإنسان، ويمنح هشاشته لجوع الأفكارِ المغلقة والانتماءات الضيقة:

“ويُلزمني الناس لباس التقوى، والأقوى مني

حين تمزّقني قبلاً عمياءَ، فيبدو الله قريبا

منّي، سيعاقبني..”(بسرعة أكثر من الموت، ص23).

هكذا يستعيرُ الشاعر من واقع النّاسِ ما يحتاجُه لبناء مشهد شعري متوتِّر يتنامى تماما في المسافة القائمة بين الإلزام بكل ما يعبِّر عنه من معاني التقييد والإلغاء والحجْر، وبين الرغبة في التمرّد على الزّيف الذي يلوّن مظهر الحياة الاجتماعية، ويمنح سلطته المغشوشة إلى بشر تسلّحوا بشتى أصناف المثالياتِ التي تفتح أمامهم الطريق واسعا لتحقيقِ مآربهم البعيدة عن تلك الطهارة المزعومة. لذا يلجأ الشاعر إلى الغواية والشعر معلنا تمرّده الصريح على الخديعة الكبرى التي ترتدي البياض/لباسَ التقوى متبدّيةً على جبينها آثارُ  صلاح كاذب ظاهريّ يخفي باطنا مليئا بالظلمة والسّواد. هذه التفاصيل التي عبر عنها نص “السينات”، مثالا لا حصرا، ترسم طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة في حياة لا تؤمن إلا بالتشابهات لأنّها تكفر بحق الواحد في أنْ يكون متميّزا مختلفا عن القطيع وعن ثقافته. وإذْ يتدرّج الشاعر في توصيف هذا الحال البائس الذي جعل مجتمعا بكامله يتحوّل إلى مجرد عيون على خصوصيته؛ ينتفض بلا سابق إنذار مصدرا حكمه النهائيّ:

“ولذا أفعالي لا يعنيها البؤسُ

أنا بمجرّد هذا السّهو حفرتُ مغارة قلبي

وسلبتُ التفاحَ على مرأى من إبليس..

فداهمني الشّعر”.(ص26).

إنّ الشاعر هنا يعلن بداية”الإغارة” على القيَم التي لا يؤمن بها هو، ويقدّسها مجتمعه، مفتتحا بالسلب ثورته الشعرية التي ولدتْ في مغارة القلب بعيدا عن ضجيجِ بشرٍ زائفين برغم تعددهم كأنما هم واحد من فرط التطابق والتقليد، لكن في الآن نفسه تراه متعرضا هو أيضا، للإغارة من طرف الشّعر الذي داهمه على غفلةٍ منه فمنحه حكمة السهو  لينتبه إلى سلطة الكلمةِ يرسمُ بها عالمه الممسوس بالعشقِ الذي يرتِّل حرقته لا مباليًا إلا بجسد الحبيبةِ ينشئ فيه جنة رؤاهُ الهاربة من جحيم اليقينياتِ التي تلجمُ أحصنة رغباته الراكضة في هضبات العمر، معلنا بهذا كله انتصاره للاحتماليّ والنسبي متقلِّبا رافضا أنْ يستقرّ على حالٍ واحد يقتله ويقضي عليه، فوهب نفسه للمتاه واستسلم للأسئلة يهدِم بها حصون الأجوبة الكاذبةِ:

“وعشتُ العمرَ سهوا

لا أبالي

تنام الريح في كفي

وألقي

بذاتي

في احتمالات السؤالِ.”(ص85).

يمارسُ الشاعر إذًا في كتابته الإغارة على مستويات عديدة تنطلق من الداخل المتصالح مع ذاته، برغم قلقه الواضح، متجهةً صوب الخارج الذي يهدد ذاك التصالح أو يشوّشُ عليه. لكنّ أوضحها في نصوصه هي تلك الإغاراتُ الشقية على كلِّ لذة، خاصة في مجموعته”بسرعة أكثر من الموت”، وكأنما يفعل هذا، كما أشرنا سابقا، لينقذ أعراس الملذّاتِ من مآتمَ تجهشُ بها عواصف فناءٍ قادم عمّا قليل. ويمكن القولُ بأنَّ الشاعر بهذه الطريقة يهجو العالم ويشاكسه وينتفض على أعراف أهله وتقاليدهم ليلجأ دائما إلى ملذّاته وغواياتها التي نختصرها في مجاليْن اثنين جميليْن مرتبطين ببعضهما أشدّ الارتباط هما المرأة والشعر. فالمرأة أوّلا هي الملاذ والمرآة الشفافة الصادقة الذي يختصر فيها الشاعر العالم وأسرارَه، بل يختزل في تمجيده لمفاتنها حقيقته هو كإنسانٍ والمعنى المخبوء وراءَ وجوده المحتفل بالغوامض والمتناقضات في زمن يمارس ضدّه النفيَ المستمرّ. لذا يختصر القضية كلّها في قصيدة “وديع” المهداة إلى ابنه، كاشفا بنبرة خيّامية تستعير عصا الواعظ عن الحقيقة البالغة الوضوح لدرجة التغافل عنها، حقيقةِ آدم وهو يبحث في صدر حوائه عن التّفاح والأسرار ليكتشف الغاية من وجوده في هذه الأرض المنفى:

“يا وديع ستدرك المعنى

وتلمس مثل هذا الشيخ نهد صبية أولى

لتنفتح المسافة بين قافيتيْن”(ص65).

أمّا الملاذ الثاني، وهو غير مفصول عن المرأة، فهو الحرف والكتابة وقد اختصرهما في الشعر الذي امتلأ به قلب الشاعر المنعتق من أسْر الأطر والإلزاماتِ إذ يعلنُ في مجموعته الإغارة:”أتماثلُ للشعر”(ص126). لأنّه يسقط في الوجع حين يسقط من لسانه الكلام. فالكتابة الشعرية هنا هي حاجة للتماثل من الآلام والاغتراب في عالم يتنكّر لكلّ بهجة ولذّة، ويحاولُ عبثا أنْ يحاصر الشاعرَ المنتضي ثورته خطابا واقفا ضدّ الثبات الذي يريدُ أنْ يوقف سريان الحياة ويقضي على أجمِل معانيها الكامنة في الاختلاف والتعدد. لهذا تجده في قصيدة”الشاعر” يثبت بأنّ النّصّ هو الملاذ والميلاد والانبعاث من خلال مخاطباته لصديقه الشاعر المهدى إليه النص الطيب صالح طهوري:

“وحده النخل مبتهج بالأماسي..فيا أيها الطّيّبُ

اختصر الليل في رقصة النجم بين أصابعكَ

المشعلات الرمادْ..

افترشْ غيمة من سهادْ.”(بسرعة أكثر من الموت ص109).

هكذا أعلن بوزيد حرز الله في مجموعتيْه ثورتَه، وانحاز إلى القصيدةِ محتميا بصراحة جدرانها من كذب الخليقة، فاتحا قلبه على الشّعر والحياة، منسجما مع رؤيةٍ إلى العالم لا تعادي الواقعيّ بل تنطلق منه، وتعود إليه، لأنّ القصيدة في هذه الحالة تالية للتجربة، بل إنها توصيفٌ لها، ومحاولةٌ لتخليدِها، قبلَ فنائها، بالكلام. لكنّ الشاعر، برغم وثوقيّة ثورته، يمتلئ بالارتباك، لأنه يعلم بأنّ العمر لا يسعف لترميم كل شيء، لتحقيق كل شيء، للثورة على الحماقات التي تحكم وثاق الحياة في مدن عربية تعيش خارج العالم واللحظة الزمنية التي ترتبط بها وجدانيا وحياتيا شعوب العالم. من أجل هذا يعلنها بوزيد حرز الله بكل صراحة وتعبٍ، وهو يحاول “بسرعة أكثر من الموت”، الإغارةَ على مباهج الحياة بنفس زوربويّ :

“يتسلل من بين شقوق المرآة

هذا الخوف

إلى قلبي.

هل يسعفني العمر

لأرممني..

قال الشاعر.”(بسرعة أكثر من الموت ص136).