الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الثامنة)/ بقلم: نبيل عمرو

حكاية نشيد آخر ونشرة الأخبار الأولى والأخيرة التي قرأتها من أريحا

2022-06-06 08:04:33 AM
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الثامنة)/ بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

الشاعر المبدع مريد البرغوثي التحق بالإذاعة في وقت متأخر، كان صاحب صوت لامع وقلم مميز يعالج القضايا السياسية بأسلوب وجداني مؤثر ولغة رفيعة المستوى.

في يومٍ كنت فيه مناوباً أي وفق ترتيبات فؤاد ياسين مشرفاً على الإذاعة – إذ كان الرجل يدربنا على الإدارة بأن يكلفنا بالتناوب عليها "أنت المناوب اليوم، إذاً أنت المسؤول الأول عن الإذاعة، تراجع المواد المكتوبة وتجيزها بوضع توقيعك عليها، توزع المواد على المذيعين كل حسب ما يناسب شخصية صوته، وتكون كمناوب من يضع خطة العمل اليومي ويشرف على تنفيذها على مدى ساعتين".

كان مهندس الصوت يقوم بعمل "مونتاج" لحلقة من برنامج كلمات إلى فلسطين الوطن والشعب، كان البرنامج بمثابة تعليق سياسي ولكن يكتب بأسلوب وجداني، ويقرأ كذلك.

يومها كان الحدث الأبرز الذي فرض نفسه على الإذاعة، وحتى على العالم كله.. العملية الفدائية النوعية التي هبط فيها عدد من الفدائيين على شاطئ البحر، كانت قائدة العملية فتاة اسمها دلال المغربي، وكانت العملية بمثابة جبهة قتالية امتدت على مسافة كيلو مترات على الشاطئ، وقد اشتبك الفدائيون مع الجيش الإسرائيلي في أكثر من مكان.

قررنا نشر مغزى العملية على كل المواد الإذاعية، التعليقات والأخبار والمنطلقات القصيرة، والبرامج. كان من نصيب مريد أن يكتب عنها حلقة خاصة من برنامج كلمات إلى فلسطين الوطن والشعب.

كان المهندس أبو علي يعد الحلقة للإذاعة - بوضع لمساته عليها كالموسيقى المصاحبة لصوت المذيع، والفواصل المنتقاة والتي توحي بالمعنى الذي يرمي إليه النص، سمعت مقطعاً منها حين كنت مارا من أمام باب الأستوديو، استوقفني، طلبت من المهندس إعادة النص المسجل كاملاً، كان مريد قد غادر بعد أن سجل ما كتب:

إليك نجيء يا وطني.. إليك نجيء.

بنا وجدْ إذا مدته ريح هواك.

 فوق الأرض فوق البحر يمتد.

وإن متنا فلا نرتد عن عينيك.

 بل إنا إلى عينيك نرتد.

 

همسنا في جذور الزرع يا وطني.

 بأنك وحدك العهد

ونرضع حبك الأطفال ما ولدوا.

وليس يعوقهم عن زحفهم للأرض لا مهد ولا لحد.

 

فتى يأتي يزنره الهوى والوجد. تلو فتى.. وتلو فتى.

 

فيا أعدائنا عِدُوا ...

 

استدعيت الملحن الأول مهدي سردانة على الفور، استمعنا معاً

إلى النص، وقلت له، أرى فيه أغنية جميلة وجديدة وبليغة.

تفاعل مهدي مع كلماتها التي عبرت بقوة وعمق عن الحدث الذي أسر قلوبنا.

عملية دلال المغربي التي سميت باسم الشهيد كمال عدوان، وضع النص في جيبه وقال سأنجزه بالتأكيد، غداً سأسمعك اللحن، ونذهب إلى التسجيل.

في الاجتماع اليومي أسمعنا مهدي ما أبدع على العود، كان بمثابة مهرجان لحني، استخدم فيه لمحات فلكلورية وتوزيعاً موسيقياً متقناً، وحين انتقل إلى الأثير بعد أن اعتمد قوبل بحماس شديد من قبل الجمهور.

 

مأتم القديم واحتفال الجديد

 

قررت القيادة الفلسطينية توحيد مؤسسات الثورة جميعاً. بما في ذلك الإعلام الذي صار يسمى "الإعلام الموحد"، تطلّب ذلك وقف إذاعة شعار العاصفة واستبدال ذلك بصوت فلسطين، ومن أجل إثبات صدق النوايا وجدية القرار، طلب منا في صوت العاصفة وضع جميع الأناشيد التي تذكر فيها كلمة العاصفة وفتح، في الأرشيف مكتوب عليها "تمنع إذاعتها".

كان يوماً حزيناً، أن نودع في الأرشيف أجمل الأناشيد التي ميزت الإذاعة، وشدت الجمهور لها "أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها ولجيشها المقدام صانع عودتي".

 

وضع فؤاد ياسين شعار الإذاعة باسمها الجديد، وأجرى مسابقة بين المذيعين لاختيار أفضل وأقوى من يسجل الشعار الذي نستهل به الإذاعة وآخر نختتم به.

المذيع الذي وقع الاختيار عليه، كان الدكتور عبد الشكور التوتنجي، وهو واحد من الأصوات الأولى التي عانقت الأثير يوم الانطلاقة الأولى لصوت العاصفة، كان عبد الشكور في سنته الأخيرة بكلية الطب جامعة القاهرة، وهذا ما منعه من الهجرة معنا إلى بيروت، حيث تم ارتجال إذاعة متواضعة هناك من أجل أن لا يسكت صوت الثورة ولو بصورة مؤقتة.

بدأنا العمل في إذاعة يمكن وصفها بالبدائية، انطلقت من منطقة تجمع مؤسسات ومكاتب الثورة اسمها الطريق الجديدة، وهي حي يقع بين محلة الفاكهاني التي حملت اسم "دولة عرفات " وسائر أحياء بيروت الغربية، وحين وصلت تقارير الاستماع، لم تكن مشجعة ولا يمكن الاعتماد على المرتجلة والبدائية كإذاعة رئيسية، كانت لنا برامج تبث من الجزائر وبغداد غير أنها لم تكن لتفي بالغرض الذي كانت إذاعتنا من القاهرة تفي به، نقاء الصوت، واتساع مساحة الانتشار، واتساع قاعدة الجمهور المستهدف في فلسطين وسوريا والأردن ولبنان.

كان أبو جهاد يعتمد كثيراً على الإذاعة في إيصال رسائله للخلايا العاملة في الوطن، لم تكن الإذاعة المرتجلة في بيروت لتصل إلى أبعد من حدود لبنان وبعض الجليل.

ولمعالجة هذا الأمر قرر أبو جهاد وبعد تشاور مع أبو عمار، أن يؤسس إذاعة في جنوب لبنان لعلها تحقق مبتغاه في الاتصال المنتظم مع خلايا الداخل، وتم اختيار قرية جنوبية مهجورة اسمها "عين بعال" كمقر للإرسال.

وخلال شهرين جرى اختراع وتركيب الإذاعة الجديدة، في كهف مظلم، وحين انطلقت أول إشارة اعتمدت كإذاعة رسمية.

كنا نعد المواد في بيروت ونبثها من على بعد مائة كيلو متر في الجنوب، وحين كنا نسمع دوي طائرة ما نقدر أنها تحلق من أجل أن تقصفنا، فننتشر حول المغارة ثم نعود بعد أن يختفي صوت الطائرة، كان الكهف وما حوله يعج بالعقارب الصفراء السامة غير أن عناية الله التي منعت عنا القصف الجوي التدميري منعت كذلك لدغات العقارب المميتة.

منحتنا الجزائر إذاعة متنقلة تحملها شاحنتان ضخمتان، وتمكنا من شراء إذاعة قوية من يوغسلافيا، كانت تغطي كل لبنان وفلسطين وسوريا والأردن. 

غير أن الإسرائيليين حين قرروا اقتلاع الثورة الفلسطينية من جنوب لبنان وبيروت، وضعوا الإذاعة الرئيسية والقوية على رأس الأهداف المقرر تدميرها.

كانت إذاعتنا تقع فوق مرتفع يطل على البحر الملامس لمدينة صيدا ومخيم عين الحلوة اسمه "سيروب"، لقد تم قصفها بقنابل ارتجاجية ولقد شاهد المواطنون عملية إسكات الصوت الذي كانوا يحبونه ويتابعون أخباره وأناشيده وتعليقاته، حاول مهندسونا إصلاح الأجهزة إلا أن الأمر بدا مستحيلاً، فلقد فعلت القنابل الارتجاجية فعلها، إذ لم تتبق قطعة متصلة بقطعة أخرى.

حرب بيروت بثت على الإذاعة الجزائرية إلى أن غادر الثوار والمحاربون المدينة إلى المنافي الواقعة بعيداً وراء البحر.

ظلت إذاعات الثورة الفلسطينية تبث من بغداد والجزائر وعدن وصنعاء، إلى أن سكتت نهائياً بعد أن انطلق صوت فلسطين من على أرض الوطن، حين كانت بداية المشروع تسمى غزة - أريحا أولا. دون أن نقدر احتمال أن تكون أخيراً.

توقفت تجربتي في العمل الإذاعي حين اختارتني القيادة الفلسطينية كي أعمل ممثلا لمنظمة التحرير في موسكو، وخلال عملي في تلك الدولة العظمى لمدة خمس سنوات اكتشفت كم تأثر عملي الدبلوماسي إيجابا بما اكتسبته من الإذاعة، غير أنني أختم هذا النص بحكاية لها دلالة عميقة، حكاية شخصية وعاطفية وحدثت كالتالي.

فوجئ العاملون في صوت فلسطين التي بدأت تبث برامجها من مدينة أريحا بعد أن بدأ تطبيق اتفاقات أوسلو، بدخولي المباغت إلى المبنى المتواضع الذي استخدم كمقر مؤقت لإذاعة الثورة التي صارت إذاعة السلطة، ظن العاملون هناك أنني حضرت لممارسة عملي القديم كمدير للإذاعة إلا أنهم فوجئوا حين استأذنت المسؤول هناك "رضوان أبو عياش" بقراءة نشرة إخبارية على الهواء وبررت ذلك بأنه نذر قطعته على نفسي بأن أقرأ مادة من الإذاعة حين تبث من أرض الوطن، وحدث ذلك بالفعل، وكانت نهاية جميلة لعملي الإذاعي قبل انتقالي النهائي إلى مجال آخر هو العمل السياسي والديبلوماسي.

 

يتبع....

الكاميرا