الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حـــــارس الذاكــــرة

سلمان ناطور: كلُ فلسطيني هو رواية درامية مؤثرة، والذاكرةُ هي سلاحنا، سلاح الفريسة

2013-11-15 00:00:00
حـــــارس الذاكــــرة
صورة ارشيفية

حاوره – أحمد زكارنة

رهيبٌ أن تحشرَ نفسك في حسابات الجنرالات، ثم تقول: قليلٌ من التواضع، فلا أنت فدائي راح يدك القلاع، ولا أنت قائد فيلق مجهز بعتاد، بهذه الحقيقة دفعنا الأديب سلمان ناطور ذات صيف للنظر في المرآة، وامتثل هو بصوتين متداخلين لدواعي سؤال الانتماء والوطن، أحدهما صوت الراوي، والآخر صوت البطل، ذاك الذي رتبنا معه موعداً للتأمل في سيرته وهو يجابه صك الاحتلال بما تيسر من حكايات فلسطينية عاشت وتعايشت مع كل النزف والألم اللذين اعتريا فلسطيني الداخل وهم يتمددون ويسيرون بهوية غير هويتهم، وأسماء كتبت بلغة غير لغتهم، فقط لأنهم تمسكوا بما تبقى من أغصان الزيتون وبعض رماد لبيوت هُجرت قسراً.

 الأديب الراوي سلمان ناطور، كاتب وروائي ومؤرخ وُلد في دالية الكرمل عام 1949، درس الفلسفة، ليعمل في الصحافة في الفترة 1990-1968، شارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الثقافية والصحافية العربية، اعتُقل وفُرضت عليه إقامات إجبارية لفترات متفاوتة بسبب مواقفه الوطنية التي عبّرَ عنها في كتاباته الصحفية والأدبية الذي توجها بأكثر من ثلاثين مجلدا في التاريخ والرواية والفلسفة.

سلمان ناطور الذي واجه بأدبه ولغته سؤال البقاء، تعمدنا أن نبدأ حوارنا معه بسؤال الذات، ووصفه لحياة فلسطيني الداخل بغير أناه؟

كتبت في أكثر من مرة أن الفلسطيني في وطنه منفي وفي خارج وطنه منفي، وإحساس الإنسان أنه يعيش في منفى دائم أحياناً، يجعل من المنفى هو الشيء الطبيعي في حياته، وليس وجوده في وطنه، بالرغم من أن هذا ليس قدر الفلسطيني، ولهذا السبب فإن الفلسطيني بطبيعته يولد مناضلاً هناك أناس يولدون في بيئة غنية، وهناك من يولد في بيئة فقيرة، فيما نحن نولد مناضلين، لأن كل ما يريد أن يحققه الفلسطيني يحتاج إلى نضال، وهذا معنى أن يعيش الإنسان بلا أناه، أن يعيش خارج ذاته، بينما ذاته تشده طيلة الوقت كي يقاتل طيلة الوقت من أجل تثبيت هذه الذات لأن هناك من يختطفها كل الوقت، وهذه بطولة بحد ذاتها لأننا محكومون بأن نمارس هذا النضال.

على سيرة هذا النضال، وهذا القدر أما زلت تلوم ذاكرتك لأنها تخونك أحيانا، وتلومها لأنها ترفض خيانتك أحيانا أخرى كما جاء على لسان أحد أبطال رواياتك؟

نعم، ولذا هي مشكلة مع الذاكرة، فالذاكرة شيء حاضر في حياة كل إنسان منا، وأنا في حياتي الخاصة هناك أمور لا أريد أن أتذكرها، بل أريد أن أنساها وترفض ذاكرتي أن تنساها، وفي النهاية أنا لست جهاز أستطيع الضغط على زر محو فتمحوها الذاكرة، ولذا ألومها لأنها لا تستطيع أو لا تريد أن تنساها، فيما هناك أمور أريد أن أتذكرها وأحاول أن أتذكرها ولا أستطيع، لأن الذاكرة لا تطيعني، لنتأكد أنها أداة ولكن هي من تتحكم بنا ولا نتحكم بها، ولهذا السبب أقول أحياننا إنها تخونني.

هل يمكن أن تعكس هذه الحالة الفردية صورة الحالة الجماعية؟

أظن أنها جماعية، فهي حالة معظم الناس، هناك لدى كل شعب وكل مجتمع، ما أُرتكب من أحداث هو لا يريد أن يذكرها، ولكنها تبقى حاضرة حيث أن التاريخ لا يمحوها.

أنت كتبت عن الذاكرة كثيرا ولديك كتاب كامل بعنوان “ذاكرة”، ما يُشعر القارئ أن هناك ثمة علاقة بين الذاكرة والمستقبل؟  

لا يمكن أن ترسم مستقبلا بلا ذاكرة، فإن أردت أن تعرف حاضرك، فاعلم أن هذا الحاضر هو امتداد لماض، والذاكرة هي المُعلم، فإنْ أردت أن تتعلم شيئاً فإنك تعود للذاكرة، وبالتالي هي القاعدة التي يرتكز عليها حاضرنا ويرتكز عليها مستقبلنا فلا نستطيع أن نقطع جذورنا بالماضي وإلا أصبحنا كريشة في مهب الريح، وحتى نكون راسخين على الأرض من المفترض أن نثبت علاقتنا بالذاكرة وأن نستحضر هذه الذاكرة طول الوقت، أيضا كي نتعلم منها كونها هي من تعطينا الطاقة.

لديك كتاب بعنوان “أنت القاتل يا شيخ”، وكتاب آخر بعنوان “هل قتلتم أحدا هناك” هل تعتقد أن بيئتك الفلسطينية في وسط يهودي جعلت بينك وبين مفهوم القتل علاقة ما؟

طبعاً فإن مسألة القتل هي مسألة جيل، وأنا ولدت بعد النكبة عام 1949، عملياً بعد عملية قتل جماعية شُرد وقُتل فيها شعبي، ولهذا السبب فإن قضية الموت والقتل في حياتنا هي مسلسل متواصل منذ أكثر من خمسين سنة، وأنا في هذين الكتابين أتحدث عن القتل في محاولة لمواجهة القتل لمنع هذا القتل، هي صرخة لأن يتم وقف هذا القتل، فلقد حان الوقت للقول كفى قتلاً.

الخوف أحياناً يدفع المرء لمواجهة أي شيء؟

أي منا يكذب إن قال إنه لا يخاف، فأنا أخاف على نفسي من القتل يومياً، أخاف على ابني، أخاف على ابنتي، والقتل هنا ليس بالضرورة أن يكون قتلاً فعلياً، وإنما من الممكن أن يكون قتلاً سياسياً أو معنوياً، ما يؤكد أن قضية الموت باتت جزء من حياتنا اليومية، ومن واقعنا.

هذا الواقع السياسي والاجتماعي، هل ترك أثراً ما على أدب سلمان ناطور؟

طبعا، يعني أنا أصدرت حوالي ثلاثين كتاباً حتى اليوم، معظمهم عن هذا الواقع حتى أنني قلت في مرحلة من المراحل أكثر من ذلك حين قلت: إننا نحن الكتاب الفلسطينين لسنا بحاجة إلى الفنتازيا، ولسنا بحاجة إلى الخيال لكي نكتب رواياتنا وقصصنا، لأننا نعيش واقعاً أغرب من الخيال عندما كنت أكتب مقالات ساخرة، وكنت أُسأل لماذا السخرية، كنت أُجيب أنا لا اخترع شيئاً جديداً، يكفي أن تسمع أحيانا ختيار شو بيخرف وكيف بيحكي لتعلم أنه ساخر أكثر منا. لتعلم ببساطة أن هذا الواقع الذي نعيش فيه هو واقع أحياناً عبثي إذهب إلى قلنديا أو أي حاجز آخر وقف لترى مدى العبثية التي تؤكد أننا لسنا بحاجة إلى خيال كي نصف ما نرى، فنحن نراه وعلينا فقط أن نكتبه كما هو ولذا أنا أعتقد أن كل فلسطيني أينما كان هو رواية، بل هي رواية مؤثرة مليئة بالدراما، وهذا هو واقعنا، وعليه يجب أن ندرك أننا نحن الكتاب لسنا مرفهين، نعيش في برج عاجي أو نتعاطى الرومانسية، التي هي بالمناسبة كانت أحيانا تعد لعنة.

هل هذه اللعنة التي كتبت عنها ذات يوم تقول: ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة، ستأكلنا الضباع؟ بعد مرور كل هذه السنوات على هذا القول، أما زلت تؤمن أن المحتل ضبعٌ ونحن الفريسة، أم أن الضبع أكل الفريسة وانتهى الأمر؟

لا لم ينته الأمر، غير أن هذا الضبع لم يشبع حتى الآن، ونحن نرى كم يأكل يوماً بعد يوم، ولهذا السبب يجب أن نعترف نعم هذا الضبع المحتل لأرضنا ومقدراتنا موجود ، إلا أنه يمكن أن يكون هناك ضبع آخر فينا، ولذا فإن قضية الذاكرة ليست فقط لحمايتنا من عدو خارجي، بل هي أيضا لحمايتنا من عدو داخلي، لحمايتنا من أنفسنا، والضبع يأخذ أشكالا مختلفة ويتجسد بقوى مختلفة، ولذا فإن الحفاظ على الذاكرة والبقاء على الذاكرة والعودة إلى الذاكرة هو ما يحمينا من هذا الضبع، لأننا تعرضنا للأكل من ضباع كثيرة  في حياتنا، وأصبحنا نعرف كيف يمكن أن نتحايل على الضباع وهنا قوة الفريسة، والذاكرة هي سلاحنا، سلاح الفريسة.

حينما نتحدث عن الذاكرة الفلسطينية والأنا الفلسطينية، حول جدلية الوطن والمكان، ماذا يعني الوطن لدى سلمان ناطور؟

الوطن بالنسبة لي هو التفاصيل الصغيرة، أنا لا اؤمن بالوطن الهلامي، سواء كان فكرة عامة أو شعارا، ليس هذا هو الوطن. إنما الوطن وكما كتبت ذات مرة، نبتة عارية في الصحراء، غزالة شاردة، هو شجرة، هو زهرة قرنفل في الحب، هذا هو الوطن أتعامل مع الوطن ببساطته، لا يوجد شيء معقد في علاقتي مع الوطن فالوطن هو مكان جميل أعيش فيه، هو المكان الذي يحتضنني، الذي يعطيني من خيراته، يعطني الأمان، يعطني الحب، يعطيني التفاؤل، يعطني الشمس، يعطني الشعب، هذا هو الوطن، ولهذا السبب الوطن بالنسبة لي هو التفاصيل الصغيرة.

حول التفاصيل الصغيرة، ونحن نعيش كافة التفاصيل الصغيرة والكبيرة للانقسام الفلسطيني، كيف يقرأ سلمان ناطور تداعيات هذا الانقسام على مجمل القضية؟

نحن دائما نقول إن هذا الانقسام شيء محزن، ومؤسف إلى آخره، ومن الطبيعي أن شعباً يخوض معركة تحرر وطني أن يكون فيه انقسامات، وأنا لا أخاف من الانقسامات، فقط أقول إنه لا يجب أن ننشغل بموضوع الانقسام أكثر مما يجب، بل علينا أن ننشغل بأنفسنا وما نقدم لهذه القضية، فالانقسام بالأساس بين فتح وحماس، وفتح كقيادة مسؤولة وحتما يزعجها الانقسام، فالانشغال ليس في حماس ماذا تفعل، بل الانشغال أن فتح ماذا ستفعل، فأنت كقيادة وسلطة حينما تعمل ما هو سليم وصحيح هناك أمور ستأتي من تلقاء نفسها، فإن افترضنا أن الطرف الثاني معني بالانقسام ويعمل كل ما في جهده كي يبقي على هذا الانقسام، أنت عليك أن تشتغل شغلك ولا تلتفت لما يريد هو والانقسام هو على خلفية معينة، أنت قم بإزالة هذه الخلفية واترك قوة الأمر تتحرك.

جاء على لسان أحد ابطال رواياتك، هل نحن جيل بلا ذاكرة؟ ويقسو السؤال ويؤنبني لأننا منشغلون حتى الموت بحاضرنا الأليم. هل تعتقد أننا مازلنا منشغلين بحاضرنا الأليم؟

نعم. ألم تسألني عن الانقسام؟ هذا هو حاضرنا اليوم، ونحن منشغلون بحاضرنا هذا أكثر مما يجب، وهذا يلهينا عن الماضي، وطوال الوقت كان حاضرنا أليماً، ولكن هذا الحاضر بعد قليل سيصبح ماض، ونبقى منشغلين بهذا الشيء الذي هو بعد قليل سيصبح ماض، بدل أن نتعلم من هذا الماضي، واعتقادي أننا كشعب فلسطيني وهو يمر بهكذا حالة أننا شعب لا يدرس تجربته، ولا يتعلم منها.

 يقولون: الأشياء لا تتغير، الجميل يبقى جميلاً، والقبيح يبقى كذلك ما قولك في هذه المقولة، وهل تنطبق علينا نحن الفلسطينين؟

على المستوى الشخصي، لو كنت أصدق هذه المقولة لما فعلت شيئا في حياتي، بالعكس أنا مؤمن أن كل شيء قابل للتغيير، ويجب أن نغير كل شيء، ولربما ما نسميه بالتخلف العربي، هو ناتج عن التسليم بهذه القدرية، بأن البحر هو البحر، وأن الموت هو الموت، أنا أقول لا، كل شيء ممكن أن يتغير، لا يوجد شيء لا يتغير، ويجب أن نعمل كي يتغير.

في ذكرى استشهاد القائد ياسر عرفات، ماذا يمكن أن تقول لياسر عرفات في هذه الذكرى؟

كنت أتمنى لو أن «أبا عمار» يعود لدقائق وينظر إلى ما وصلنا إليه ويقول كلمة، وأنا أعرف «أبا عمار» في اللحظات الصعبة، كانت تفلت معه كلمة من الكلمات، التي هي برأيي أهم من أي خطاب كامل، وأهم من أي قرار سياسي، أنا أشعر أننا بحاجة لفلتات أبو عمار، أقواله، ومضاته، التي بها يصف واقعنا.

أخيراً كيف يستقبل سلمان ناطور ذكرى الاستقلال في الخامس عشر من تشرين الثاني؟

لا أعرف إن كنت أريد أن أسميه استقلالاً، لأنه سيكون وهماً أن نتحدث عن الاستقلال، هو رغبة في الاستقلال، حب في الاستقلال، أنا أتمنى أن يتحول كل يوم وطني من أيام شعبنا الوطنية إلى وقفه لمراجعة التجربة، والنظر إلى المستقبل، فنحن لدينا تجربة غنية، تتعلم منها شعوب العالم، بكل ما فيها من فشل ونجاح، ولكن للأسف هي تجربة نحن لا نتعلم منها، ونحن يجب أن نتعلم منها بهذه الوقفات وفي مثل هذه الأيام.