الأحد  02 تشرين الثاني 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل إسرائيل في زمن التبعية الأمريكية؟/ بقلم: ياسر مناع

2025-11-01 09:02:14 AM
هل إسرائيل في زمن التبعية الأمريكية؟/ بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

 

غرد الصحفي الإسرائيلي المعروف باراك رابيد عبر منصة "إكس" قبل أيام قليلة، جملة قصيرة، لكنها تعبر عن جدل واسع في الأوساط السياسية داخل إسرائيل: "لا شيء يتحرك في غزة إلا بعلم الولايات المتحدة". لم تكن هذه الكلمات مجرد تسريب عابر من مسؤول أمريكي، بل أشبه باعتراف رسمي من قلب التحالف الأميركي - الإسرائيلي بأن زمام المبادرة لم يعد في يد تل أبيب، وأنّ واشنطن لم تعد فقط الشريك أو الراعي، بل أصبحت القائد الذي يحدد متى وكيف وأين تتحرك إسرائيل. في كيان اعتاد أن يرى نفسه القوة العسكرية والسياسية الأولى في الشرق الأوسط، سقطت هذه الجملة على كثيرين كصفعة، وأيقظت سؤالاً كان يتجنب الجميع طرحه: من يحكم فعلاً في زمن الحرب - إسرائيل أم الولايات المتحدة؟


منذ السابع من أكتوبر، حين اشتعلت نيران الحرب في غزة، بدا أن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب تدخل طورًا جديدًا، مختلفًا عمّا ألفه المراقبون طوال العقود الماضية. لم تعد الأمور تجري وفق معادلة الحليفين المتكافئين أو الشراكة الاستراتيجية، بل أقرب إلى علاقة التابع والموجّه. إسرائيل التي كانت تفاخر باستقلال قرارها العسكري والسياسي، تبدو اليوم وكأنها تعمل داخل نطاق سيادة أميركية غير معلنة، حيث كل قرار ميداني أو سياسي يُراجع ويُضبط عبر قنوات واشنطن قبل أن يُنفذ.
لعل أبرز تجلّيات هذا التحول ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب، حين فرضت الولايات المتحدة على إسرائيل القبول باتفاق وقف إطلاق النار في غزة، رغم اعتراضات حكومة نتنياهو المبطنة. لم يكن الأمر مجرّد وساطة بل كان توجيها مباشرا. تسربت أنباء عن اتصالات حادة بين البيت الأبيض ومكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأن مسؤولين أميركيين أبلغوا تل أبيب بصراحة: "أنتم لن تستمروا في الحرب على هذا النحو، لقد انتهى الوقت" وهكذا أُعلن الاتفاق وكأن القرار جاء من واشنطن لا من القدس المحتلة.


ثم جاءت اشتباكات رفح يوم 19 أكتوبر 2025 لتكشف أكثر عن عمق التبعية الجديدة. فبعد الهجوم لمجموعة مسلحة من الفصائل الفلسطينية أسفر عن مقتل جنديين، قررت إسرائيل وقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، لكن القرار لم يصمد سوى ساعات قبل أن يتصل البيت الأبيض، ويأمر فعلياً بفتحه مجددًا. لم تكن مجرد ضغوط دبلوماسية، بل توجيهات حادة ألزمت إسرائيل بإعادة تشغيل المعبر.
 
لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ سمحت إسرائيل يوم 25 أكتوبر 2025 على مضض بدخول طواقم مصرية إلى غزة للمساعدة في البحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين، في خطوة أثارت حفيظة المؤسسة الأمنية التي اعتادت التحكم المطلق في كل ما يدخل أو يخرج من القطاع. هذه الموافقة لم تكن قرارًا داخليًا، بل كانت قرارا أمريكيا.


لكن الأمر الأكثر إثارة هو إعلان يوم 21 أكتوبر 2025 عن إقامة مركز التنسيق الأميركي - الإسرائيلي في كريات غات، جنوب فلسطين المحتلة، الذي يعرف باسم مركز التنسيق المدني - العسكري لدعم استقرار غزة (CMCC)، فيما وصفه البعض بأنه قاعدة قيادة أميركية ميدانية تدير المشهد في غزة. من الناحية الشكلية، المركز يعمل لتطبيق وقف إطلاق النار في غزة، لكن في العمق هو عين أميركية على الميدان، ومركز توجيه في آن.
الإسرائيليون أنفسهم منقسمون في توصيف ذلك. فبينما يراها البعض حماية ضرورية تضمن عدم انزلاق إسرائيل إلى عزلة دولية أو مواجهة شاملة، يراها آخرون نوعاً من الانتقاص من السيادة، أو وصاية ناعمة تفرضها واشنطن باسم التنسيق والشراكة. يديعوت أحرنوت استخدمت تعبير التبعية الحثيثة لوصف الوضع الراهن، أي حالة مراقبة دقيقة من الولايات المتحدة لكل حركة للحكومة الإسرائيلية.


بدأ يتشكل رأي جديد مفاده أن إسرائيل لم تعد تملك هامش المناورة الذي كان لها في حروبها السابقة. حرب لبنان عام 2006 أو حتى حروب غزة السابقة كانت تُدار من داخل إسرائيل بمشورة أميركية، لكن الحرب الحالية تُدار من واشنطن بتعاون إسرائيلي. هذا الفارق البسيط في الظاهر نتنياهو، الذي بنى صورته طوال مسيرته السياسية على أنه الزعيم الذي يقف نداً لند أمام الرؤساء الأميركيين، يجد نفسه اليوم في موقف دفاعي، مضطراً لتكرار عبارة "إسرائيل ذات سيادة"  كلما تزايد الحديث عن مسألة التبعية. لكن هذا الإنكار لا يغيّر حقيقة أن القرار الاستراتيجي في تل أبيب أصبح مشروطاً أكثر من أي وقت مضى بالرضا الأميركي.


تمارس الولايات المتحدة سياسة الهيمنة الذكية في الشرق الأوسط. لا تحتاج إلى احتلال مباشر أو قواعد ضخمة، بل تكتفي بتوجيه الحلفاء وإدارتهم عن بعد. مركز كريات غات نموذج مثالي لهذا الأسلوب، إذ يضمن للولايات المتحدة سيطرة عملياتية على غزة دون أن تتحمل مسؤولية علنية، ويمنحها في الوقت ذاته نفوذاً على القرارات الإسرائيلية الداخلية. بهذا الشكل، تحولت الحرب من اختبار لقوة إسرائيل إلى اختبار لنفوذ أميركا في المنطقة، واختارت واشنطن أن تُثبت أنها ما زالت المايسترو الذي لا تُعزف نغمة من دون إشارته.