لم تعد الفاشية الإسرائيلية طيفاً سياسياً عابراً، بل غدت جوهراً مؤسساتيًاً يحكم الدولة ويقودها نحو الهاوية الأخلاقية. فمصادقة الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى على مشروع قانون يسمح بإعدام الأسرى الفلسطينيين ليست سوى تتويج لمسارٍ طويل من تشريع الجريمة، وإعلان رسمي بأن دولة الاحتلال قررت أن تُضفي صفة «القانون» على الإبادة، وأن تُحوِّل الموت الفلسطيني إلى مادة برلمانية يقرّرها التصويت.
منذ قيامها، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى غطاء قانوني لقتل الفلسطينيين، فقد مارست الإعدام الميداني بلا تردد، في الشوارع والمخيمات والسجون والمشافي، من الطفل إلى الشيخ، ومن المقاتل إلى المدني. لكنها اليوم تسعى لتقنين ما اعتادت ارتكابه، لتُبرّئ نفسها أمام العالم، وتُضفي على دم الفلسطيني صبغة الشرعية. إنها لا تشرّع قانوناً جديداً، بل تعلن سقوطاً كاملاً في مستنقع الفاشية، وانهياراً لكل ما ادّعته من قيم الديمقراطية والإنسانية.
يحاول البعض تصوير هذا المشروع كنتاجٍ لتطرف يميني طارئ، لكنه في الحقيقة امتداد طبيعي لجوهر الفكرة الصهيونية ذاتها: مشروع استعماري إحلالي يرى في الآخر خطراً وجودياً. فمنذ قانون مصادرة الأراضي عام 1950 إلى قانون «الدولة القومية للشعب اليهودي» عام 2018، وصولاً إلى هذا القانون الدموي، تواصل إسرائيل مسارها في تحويل العنصرية إلى تشريع، والاستعمار إلى حقٍّ قانوني.
بهذا المسار، تتكشف حقيقة الدولة التي لطالما ادّعت أنها «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط. فديمقراطيتها لا تُقاس بحقوق الإنسان بل بقدرتها على قتل الفلسطينيين بطرق قانونية، وعدالتها تقوم على الفصل العرقي لا على المساواة. إن الكنيست الذي يصوّت على إعدام الأسير الفلسطيني، هو ذاته الذي يبارك قتل الطفل في غزة وتدمير البيت في جنين واغتيال الطبيب في خانيونس.
إن إسرائيل، التي تمارس القتل كسياسة يومية، لا تبحث عن العدالة، بل عن شرعنة الجريمة. فهي تريد أن تُحوّل الاحتلال إلى قانون، والمقاومة إلى جريمة، والضحية إلى متهم. أي قانون هذا الذي يبيح الإعدام على أساس الانتماء القومي؟ وأي تشريعٍ هذا الذي يُحوّل حق الشعوب في مقاومة الاحتلال إلى «عمل إرهابي» يستحق الموت؟
في القانون الدولي، لا مكان لهذا المنطق. فالمادة الثالثة من اتفاقيات جنيف تحظر بشكلٍ قاطع إعدام الأسرى أو معاملتهم بقسوة، والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 يؤكد وجوب معاملتهم معاملة إنسانية. إن تشريع إسرائيل للإعدام هو خروجٌ صريح على النظام القانوني الدولي، وازدراء سافر لكل ما يمثل روح الإنسانية.
إن جوهر هذا القانون انتقاميٌّ بحت، لا يسعى لتحقيق العدالة بل لترهيب الفلسطيني وكسر إرادته. لكنه في جوهره اعترافٌ غير معلن بأن الاحتلال بات عاجزًا عن الردع بالسياسة، فلجأ إلى الردع بالموت. فحين تعجز دولة عن إقناع العالم بعدالة قضيتها، تلجأ إلى فوهة البندقية، وحين تفشل في بسط شرعيتها بالقانون، تفرضها بالإعدام.
القانون الجديد ليس سوى مرآة للفكر العنصري الذي شكّل أساس الكيان الصهيوني. فالفلسطيني في المخيال الإسرائيلي ليس إنساناً كاملاً، بل «تهديدًا أمنياً» يجب إزالته. من هنا، يصبح قتله عملاً دفاعياً، وإعدامه إجراءً قانونياً. وهكذا يتحول البرلمان إلى غرفة عمليات لتقنين القتل، ويغدو الدم الفلسطيني جزءاً من منظومة «الأمن القومي الإسرائيلي».
إن هذا التشريع لا يختلف جوهريًا عن قوانين الفصل العنصري التي عرفها التاريخ في جنوب أفريقيا أو ألمانيا النازية. إنه يكرّس نظاماً مزدوجاً: قانوناً لليهود يمنحهم الحق في الحياة، وآخر للفلسطينيين يشرّع موتهم. إننا أمام نظامٍ استعماري استكمل تحوّله إلى فاشية مكتملة الأركان، تُمارس التطهير العرقي بمسحة قانونية.
ما كان لإسرائيل أن تتجرأ على هذه الخطوة لولا الصمت الدولي المريب والتواطؤ الغربي المكشوف. فالعالم الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان يقف اليوم متفرجاً على إبادة جماعية تُبثّ على الهواء مباشرة. وحين تُعطّل الولايات المتحدة قرارات مجلس الأمن، فإنها عملياً تمنح الاحتلال تفويضاً بالقتل.
الصمت تواطؤ، والتغاضي مشاركة، والازدواجية في المعايير هي التي منحت إسرائيل الحصانة لمواصلة جرائمها. إن العالم الذي يثور لأجل معارضٍ واحدٍ يُعدم في دولة ما، هو نفسه الذي يصمت أمام قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة والضفة. هذا الانحطاط الأخلاقي لا يُهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد مفهوم العدالة ذاته في النظام الدولي.
في مواجهة هذا الانحراف الفاشي، لا بد من تحرك فلسطيني موحّد يتجاوز الانقسام، ويعيد صياغة الموقف الوطني على قاعدة وحدة المصير والمقاومة. يجب التوجّه فوراً إلى الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لاعتبار هذا القانون جريمة ضد الإنسانية ودليلاً إضافياً على وجود نظام فصل عنصري.
كما يتوجّب على الدول العربية والإسلامية أن تتعامل مع هذا التطور كتهديدٍ مباشرٍ للقيم الإنسانية ولأمن المنطقة. فإسرائيل لا تُعدم الأسرى فقط، بل تُعدم فكرة العدالة ذاتها، وتختبر صمت العالم. التحرك الدبلوماسي يجب أن يترافق مع حملة إعلامية وثقافية تُعرّي الفاشية الإسرائيلية وتُحاصرها أخلاقيًا أمام الرأي العام العالمي.
تظنّ إسرائيل أنها بهذا القانون تُثبّت قوتها، لكنها في الحقيقة تُعلن ضعفها. فالدولة التي تلجأ إلى القتل لتأكيد وجودها، إنما تعترف بأنها فقدت شرعيتها. إنها تُشرّع خوفها من الفلسطيني الذي لم تهزمه الدبابات ولا الجدران ولا السجون. قانون الإعدام ليس أداة ردع، بل إعلان فشلٍ في مواجهة روحٍ لا تُكسر.
لقد فقدت إسرائيل القدرة على تسويق نفسها كـ «ضحية الإرهاب»، وبات العالم يرى حقيقتها: كيانٌ استعماريٌّ يمارس القتل الجماعي، ويُقنّن الإبادة، ويُزيّن الموت بالقانون. وكلما ازداد رعبها من السقوط، ازدادت دمويتها في محاولات عبثية لتأجيل سقوطٍ محتوم.
إن مشروع قانون إعدام الأسرى ليس مجرد بندٍ تشريعي، بل لحظة كاشفة لسقوط إسرائيل في مستنقع الفاشية. إنه اختبار للضمير العالمي، وامتحان للإنسانية جمعاء. فإما أن يتحرك العالم دفاعاً عن قيمه المعلنة، أو يعترف بأنه تخلّى عنها.
