مقالات الحدث
عطا الله حنا بالنسبة للبابا ليس "مسيحياً"ً بدرجة كافية، تماماً مثلما أن الماركسي الماوي لم يكن بالسنبة لموسكو ماركسياً "سوياً". هناك خلل أكيد يعتور مسيحية عطا الله حنا، وأظن أنه يتصل بانبثاق الروح القدس من "الآب" وحده، بينما ينبثق بالنسبة للبابا من الآب والآبن على السواء. لكن هل يؤثر هذا الاختلاف العقائدي الصغير بالنسبة لي، والكبير بالنسبة للكنيسة في فهم السياسة؟ّ! تعرفون، أنا "يساري" من أسرة مسلمة، وأسترشد بقائمة من المفكرين تبدأ بأرسطو وابن رشد وابن خلدون وتمر بهيغل وماركس ولا تنتهي بغرامشي ووليم رايش وسارتر وسمير أمين ومهدي عامل وإيمانويل والرشتين...الخ.
لكنني مع ذلك أجد الكثير من نقاط الالتقاء مع رؤى وتوجهات الأب عطا الله حنا، فكم بالأحرى أن يتمكن البابا ليو (الرابع عشر؟) من "الاستفادة" من تجربة هذا المؤمن الذي يعيش تحت سماء الرب في البقعة المقدسة بالذات، ويعرف أكثر من غيره من المؤمنين ما تفعله الصهيونية بفلسطين ولبنان وسوريا وبقية المنطقة المنكوبة بهذا السرطان المرعب. يتعالى البابا "الجديد" على جراحنا، جراح البشر المزودين بأجهزة الإحساس العصبية لكي يتألموا، فينتصب محمود درويش لاعب الكلمات المتعالي بدوره، وإن في اتجاه آخر، ويصرخ بوجه الرجل: "من أعلاك فوق جراحنا ليراك؟! من أعطاك هذا اللغز؟!" لكن البابا لا يأبه لذلك، ويواصل رسالته الباردة المحايدة عن صنع السلام والتعايش بين الإخوة الأعداء المتكافئين في كل شيء: غزة نفسها لا تختلف جوهرياً عن تل أبيب أو نيويورك، ولا بد لها أن تصنع السلام معهما.
للأسف لا يلبس البابا نظارته ليشاهد أن غزة لم تعد موجودة إلا على صعيد المجاز، ناهيك عن أن تل أبيب هي صنو نيويورك بالذات: مدينة أقيمت على أشلاء الشعوب المطهرة أو المهجرة.
لكن البابا لا يتدخل في تاريخ ذبح أمريكا لأنه اختصاص بروتستنتي محض، وقد يغضب منه رب البروتستنتيين الصهاينة إن أطلق كلمة واحدة بحق الذبح والدمار. إذن فلتخرج غزة من صدفة الدمار التي لحقت بها على نحو ما، وتمد يدها لتل أبيب، إن أردادت أن تحظى بمجد الرب وسلامه القادم من روما عبر دولة الخلافة العثمانية إلى بيروت التعايش المميت بين الطوائف التي تدعو نتانياهو ليل نهار، ليتقدم بشجاعة ويقتل الإخوة المارقين، مثلما دعا من قبل الشيخ الراحل يوسف القرضاوي أمريكا "المنافقة" أن تتقدم وتقتل الدكتاتور بشار الأسد وتفتك بجيشه المجرم الذي يرمي المسلمين بالبراميل الملتهبة. في واقع طائفي مرير متوج بزمن ما بعد "البيجرز" يجد حزب الله نفسه مضطراً بسبب هويته الطائفية الملتصقة بالمقاومة أن يكيل المديح للبابا، ولو فعل غير ذلك لوقع في محظور الاتهام بكراهية المسيحيين والسلام على السواء.
وإذا كان الحزب قوة سياسية لها حساباتها، فإن الإعلام "المقاوم" بدا مثيراً للشفقة والتقرزز إذ غرقت الميادين ومثلها المنار في مسلسل ممل من المجاملة الفجة للبابا وحركاته التفصيلية: ها هو يرفع سبابته ويشير بها، ها هو يثني الخنصر ويؤشر به ناحية بعبدا...الخ.
"سيرك" كافي للتسبب في الغثيان التام، ولا بد أن الألم الذي أحسه مصحوباً برغبة في التقيؤ منذ ثلاثة أيام له صلة "روحية" ما بما يجري على شاشات قنوات "المقاومة". ومثلما يمتلئ خطاب إعلام المقاومة بالنفاق، فإن خطاب البابا نفسه يفيض نفاقاً من النوع نفسه.
لم يجرؤ البابا على زيارة الجنوب: هناك ملعب اسرائيلي واضح، ولا يمكن لك أن تتظاهر بأنك لا ترى ما يحدث، وتواصل الدعوات "الوسطية" عن عدم التصعيد وصناعة السلام. ستضطر هناك إلى مواجهة الواقع اللزج الثقيل؛ واقع الدمار الصهيوني الذي ينتصب مكان المباني المدمرة ويعلوها بأشواط، وهو ما سيستدعي الدمار المنتصب عالياً في غزة كلها مكان الأبراج والمشافي والمدارس، وحتى الكنائس والأديرة "الكاثوليكية".
لكن ماذا يفعل البابا في هذه الدنيا إن كان لا يستطيع حماية كنائسه بالذات؟ لذلك تحديداً ليس من مصلحة البابا أن يستفز أمريكا وإسرائيل، وإلا وصلت الأمور إلى مستوى أن يقول له سكان واشنطون وتل أبيب: "اضرب رأسك في حيطان الفاتيكان، أو كنيسة المهد إن شئت تقديس رأسك".
يضطر البابا إذن إلى خيار ألطف، فيسند رأسه قليلًا إلى حائط المبكى الذي لا يخذل من بكى بقربه. ليس البابا غبياً، ولقد اختار لبنان موقعاً قريباً بما يكفي من المهد والقيامة وغزة المصلوبة التي تبشر بقيامة فلسطين معمدة بدمائها. كما اختار الممكن الأخلاقي الخطابي الذي يبقي له فرصة ومكانة رمزية تفرض على ترامب ونتانياهو أن يتظاهرا باحترام رسالته، وكنائسه في مدن الضفة.
وذلك ما يحفظ لموقع كرسيه الرسولي الذي هيمن على أوروبا في زمن من الأزمنة شيئاً من ماء الوجه في زمن البروتستنتية التي تتعانق مع الصهيونية علناً في مشروع يأمل بتحقيق "الحلم الأمريكي" مرة أخرى: تطهير أرض الميعاد "الشرق أوسطية" بعد النجاح العظيم في تطهير أرض الميعاد التخيلية التي كان قد اكتشفها كولومبوس الإسباني وأسمى سكانها هنوداً حمراً، ليأتي بعده الأنجلوساكسون ويصرون على تسمية سكانها كنعانيين وثنيين يجب قتلهم واستعادة أرض الميعاد من بين قطرات دمائهم المسفوحة من بوسطن شرقاً إلى لوس أنجلوس غرباً.
وهكذا سيكون: سيقتل ترامب سكان المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات، ويعطي الأرض لشعبه المختار، ولذلك يأتي البابا ليتوسل لرفاقه الماويين عفواً البروتستنت أن يترفقوا بكنيسته وخرافها قليلاً. أما السياسة والأوطان وتقرير المصير...الخ، فليست في نظر البابا مواضيع تستحق اهتمامه المتعالي، ويستحسن دائماً أن تترك لصانع الصفقات العظيم دونالد ترامب. هكذا تستقيم الأمور في الفاتيكان دون أن يلحق الأذى بأي كان.
