الحدث- محاسن أًصرف
لم يعد غريبًا أن ترى أصحاب المتاجر الكبيرة في قطاع غزة يُدونون في دفاترخاصة أسماء ومقابلها مبالغ مالية لمنتجات تم سحبها من قبل زبائنهم بالدين، فالأوضاع الاقتصادية التي يُعانيها القطاع وانعدام الأفق بإصلاحها في الوقت الراهن دفعتهم لأن يُصَرفوا بضائعهم بالدين أملًا في تحقيق انفراجة قريبة تُنعش أوضاعهم وتُعَوض خسائرهم، لكن عدم السداد من قبل غالبية المواطنين دفعهم للعدول عن البيع بالدين –وفق قولهم.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسب البطالة بين الأفراد في قطاع غزة تصاعدت إلى معدلات غير مسبوقة على مستوى العالم، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 218 ألفًا خلال الربع الثالث من العام الجاري بنسبة بطالة 43.2%، في حين بلغ عدد القوى العاملة في القطاع 505 آلاف شخص.
ويُشير أخصائيون إلى أن تلك الأرقام نتيجة طبيعية لما يعانيه القطاع على مدار عشر سنوات من حصار إسرائيلي، وإغلاق للمعابر التجارية، ووقوع ثلاث حروب قضت على الأخضر واليابس هناك، مما جعل 80% من سكان القطاع يعتاشون على المساعدات الغذائية التي تُقدمها المؤسسات الدولية العاملة في القطاع كـ الأونروا و CHF وغيرهما.
الراتب لا يكفي
في إحدى المحال التموينية بسوق خان يونس المركزي كان أبو محمد عاشور يُحاول إقناع التاجر منحه كيساً من الدقيق بالإضافة إلى 10 كيلوغرام من السكر ومثلهم من الأرز، لكن محاولاته باءت بالفشل، فوجد نفسه مضطرًا لإخراج 10 شواقل من جيبه وشراء 4 كيلوغرام من الدقيق حتى لا يعود خاوي الوفاض لزوجته.
و قال لنا بعد ما اقتربنا لنسأله حول إذا كان صاحب المحل قد ضاق ذراعاً بأعذاره في عدم سداد الدين المستحق عليه.
وأضاف أنه لا يتهرب منه بل ضعف راتبه وعدم حصوله عليه منتظمًا سببًا رئيسيًا في لجوئه إلى شراء احتياجات أسرته بالدين.
ويتقاضى الرجل 1500 شيقل لقاء عمله في إحدى الوزارات الحكومية، لا تفي بتوفير كافة احتياجات أسرته ما يضطره إلى الاستدانة من أصحاب المحال التجارية.
يقول: " إن ما أشتريه بالدين المواد التموينية الأساسية بعيدًا عن السلع المترفة"، ويُشير أنها تفوق الـ 600 شيقل شهريًا، مُبينًا أنه يعمد إلى سدادها جزئيًا في كل شهر ولكن خلال الأربعة أشهر الأخيرة لم يتمكن من ذلك ما راكم عليه ديون بقيمة ألفين شيقل تقريبًا.
وأضاف:" إن غلاء الأسعار مقارنة بما أحصل عليه من راتب سبب عدم سدادي للديون فالراتب لا يكاد يكفي".
وذات المعاناة تجدها منى بريص التي تُعيل 5 أيتام، و جميعهم يتلقون كفالات من أهل الخير.
تقول بريص: " إن تأخر وصول الكفالات لأطفالي الأيتام يدفعني للاستدانة من البقالة". وقد بلغت قيمة فاتورتها في دفتر الدين لدى صاحب البقالة 700 شيقل، تؤكد أن صاحب البقالة حرمها خلال الشهر الماضي من شراء احتياجاتها لحين تسديد المبلغ أو جزء منه.
السيدة التي بدت مستاءة مما وصل إليه حالها أكدت لنا أنها لا تملك موردًا ماليًا سوى ما تجود به عليها المؤسسات الخيرية.
وأضافت أثناء حديثها: " تلك المؤسسات باتت تُعاني من أزمة سواء على مستوى تحويل الأموال لها من الخارج عبر البنوك الفلسطينية، أو على مستوى ارتفاع معدلات المستفيدين من خدماتها نتيجة للأوضاع المأساوية التي يعانيها القطاع، والحروب الثلاثة، التي أوقعت آلاف الأطفال في دائرة اليُتم والاعتماد على الكفالات، وتُضيف أن تلك الأزمة انعكست سلبًا على حياتهم".
أعلنها للملأ
أبو شادي (50) عامًا، من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم يملك سبيلًا لمنع تهرب المواطنين من سداد ديونهم إلا أن قام بإعلان أسمائهم على لوحة علقها على باب متجره.
ويملك أبو شادي متجرًا لتصليح وبيع الأدوات الكهربائية والمستلزمات المنزلية.
يقول: " بسبب الديون المتراكمة لم أتمكن من جلب بضائع جديدة وكذلك لم أستطع توفير مستلزمات أسرتي".
ويُتابع الرجل، أنه كلما طالب المواطنون بتسديد ما عليهم من ديون مستحقة تذرعوا بعدم وجود أموال لديهم بسبب قلة فرص العمل وتأخر حصولهم على المساعدات المالية التي يتلقوها من مؤسسات خيرية أو من الشئون الاجتماعية، ويُضيف أن البعض منهم بمجرد حصوله على الأموال يأتي للسداد ليتمكن من تسجيل ديون جديدة بينما البعض الآخر يعمد إلى التهرب مرارًا وتكرارًا.
أضاف أبو شادي: " اضطروني لنشر أسمائهم على لوحة أمام المحل". ويبتسم الرجل مؤكدًا أن مفعول اللوحة كان جيدًا فالكثير من المديونين جاءوا للسداد طالبين شطب أسمائهم.
الدين ممنوع
ولا يختلف عنه أحمد وشاح، صاحب سوبرماركت من الشجاعية بمدينة غزة، و يؤكد أنه بسبب كثرة الطلب على الشراء بالدين وعدم سداده لفترات طويلة لجأ إلى تعليق لوحة في مختلف أنحاء السوبرماركت تُشير إلى عدم البيع بالدين.
وقال وشاح لـ " الحدث" : " إن الأوضاع الاقتصادية في غزة تُجبر المواطنون على شراء حاجيات أسرهم بالدين، لكني لم أعد قادرًا على تكبد المزيد من الخسائر نتيجة عدم وفاء غالبيهم بما عليهم".
ويُضيف وشاح: " أن الشراء بالدين يُجمد رأس المال لديه ويحرمه من توسيع تجارته، وتابع أنه بدوره يعمد إلى شراء البضائع من التُجار على سبيل الدين وعدم التزام المواطنون بالدفع بنعكس عليه أيضًا فلا يتمكن من دفع ثمن البضائع.
وقال:"إن عدم الدفع يعني إغلاق المحل وفقد مصدر الرزق".لافتًا أنه يُجاهد حتى لا يصل لتلك المرحلة لأنه لا يملك مصدر دخل سوى السوبرماركت.
ويُعاني أصحاب المتاجر في قطاع غزة على اختلاف تخصصاتها أغذية ملابس أدوات كهربائية أو بناء، من كثرة ديون المواطنين لديهم، وعدم تسديد السواد الأعظم منهم لها في الوقت المحدد متذرعين بالأوضاع الاقتصادية وافتقار موظفو حكومة غزة للرواتب المنتظمة بالإضافة إلى حالة العدم التي يُعانيها منها الاقتصاد الفلسطيني بالمجمل في ظل تصاعد معدلات الفقر والبطالة، مما يُشير إلى صعوبة تحصيلها.
وفي حديث الأرقام، فقد أشار تقرير رسمي صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني اطلعنا عليه، إلى أن قرابة نصف الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويقدر نسبتهم بـ (45.5%)، يعمدون إلى شراء احتياجات أسرهم على سبيل "الدين" دون أن يملكوا دفعها في الوقت المحدد.
وبحسب التقرير فإن أعلى نسبة للشراء بالدين من قبل المواطنين الغزيين كانت من نصيب مدينة دير البلح، إذ بلغت 74.5% فيما كانت أدنى نسبة لعمليات الشراء بالدين لمدينة غزة بمعدل 59.8%.