الخميس  18 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وحدة عدم التفاهم

2018-05-15 06:40:34 AM
وحدة عدم التفاهم
رولا سرحان

 

كان ذلك الرجل الغزي الضخم، غاضباً. ساعداه ضخمان أيضا موشومان باللون الرمادي من آثار احتراق الكاوشوك واستقرار رماده ودخانه على عضلاته الضخمة أيضا.

كان ملثماً بالكوفية، التي لم تعد تدل لا على فتح ولا على أي فصيل، بل تدل على فلسطين وحدها، تماماً مثل المسيرة الكبرى التي يُشارك فيها، والتي ليست لحماس أو الضفة، بل لغزة وحدها والقدس وحدها.

يقفُ أمام مواسير حديدية مفتوحة من الجهتين، كبيرة وثقيلة، لكنها ليست أكبر من جسده أو أثقل منه، حتى أني سألت نفسي: كيف سيمرُّ منها إلى داخل الحدود إلى أرضه التي يفصله عنها سياجٌ هشٌ بحجم هشاشة الشاشة التي ننظرُ إليه من خلالها.

سرعان ما أخرجتُ الفكرة من رأسي، لأن المنطق في كثير من الأحيان، لا يُعطي إجاباتٍ صحيحة، تماماً مثلما يحدث في غزة. فلا شيء خاضعٌ للمنطق. لأن المنطق دائما يُحاصر  مقدرة الإبداع، ويُقلم التجديد، ويُحاصر الروح ويمنعها من التحليق فوق طائرة ورقية تتحولُ إلى سلاح ناجح حارق، تكسر الحصار، وتفرض المقاومة بأسلوب غير خاضع لأي منطق يفكر فيه الاحتلال.

العبارة المعبرة، المستهزئة من الحال، التي قالها هذا الرجل الضخم جاءت مختصرة: "إحنا وحدة عدم التفاهم". عبارة مختلطة بالأدب وبالسياسة وبالعسكرية.

والمقتضيات اللغوية هنا لا شأن لها بالثقافة التي ندعيها كنخبويين فتنفصل فيها الحقيقةُ والواقعُ عن العالم المتخيل، فهنا يُصبح المتخيل والواقع حقيقة وشيئا واحدا، وبطريقة بسيطة هي تحويل المتخيل إلى فعل فيصبح حقيقة رغم علم القائم به أن إمكانيات تحققه محدودة أو مستحيلة.

ويكون الأمر هنا مختلفا لأن الإيمان بالمستحيل ينطلق من أساس إيجابي، أي أن الاستحالة نفسها غير خاضعة لحسابات قد نفهمها، لذلك لا تفقد غزة قدرتها على إدهاشنا أبدا، فنبدو أمامها كالأطفال الذين يشاهدون أفلام الرسوم المتحركة، فنرى بأعين مفتوحة على اتساع اندهاشها البطل مبتور الساقين يطير على كرسي متحرك.

هي مثل أهم الدول، التي استمرت في الحفاظ على نفسها بنفسها بعد أفظع الضربات، كألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كستالينغراد روسيا، كجيرنيكا إسبانيا، مثل اليابان تستطيع أن يكون لها براءة اختراعاتها. مواردها البسيطة الشحيحة المحاصرة بالبحر من خلفها والعدو من أمامها، جعلت أهلها يحولون أمواج البحر المالحة إلى كهرباء، والكاوشوك درعاً ونارا، ومن مسيرات الغضب أماكن لبيع البطيخ والبوظة.

إنها المقدرة على المزاوجة بين الأضداد، المهارة التي نفتقدها كلما تقدمنا في السن، فنفقد المقدرة على الحياة بتفاصيلها، فنشيخ فنهرم فنموت، بينما تظل غزة شابة جميلة تتجدد لتُقاوم.

هي ثقافةُ القاع، سياسته، واختراعُ البقاء. المواجهة الواقعية بين المعاش وما يُفترضُ أن يكون. لكن الفعل هنا ينتقل من حالة السكون الذي نمثله، إلى حالة الفعل الذي يمثله هذا الرجلُ الضخم، وغزة الأضخم منه ومنا، والتي لا يستطيع أحدٌ التفاهم معها، فهي دائما تنفي وجود طرفٍ ثانٍ معنيةُ هي به لتتفاهم معه.

تعمل كأنها وحيدة ووحدها، لذلك تُحقق اللامعقول.