الأربعاء  24 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الاستعمار الصهيوني في فلسطين

2018-11-27 12:05:24 PM
الاستعمار الصهيوني في فلسطين
صورة تعبيرية

 

الحدث فكر ونقد - ​د. محمد أبو حميد

نشأة الحركة الصهيونية (*)

لقد أفرزت الثورة الصناعية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حركة الاستعمار الحديث "الإمبريالية" التي أخذت تتوسع في البلدان الأفريقية والآسيوية، طمعا في المواد الخام والبحث عن أسواق جديدة لترويج المنتجات الأوروبية. وفي هذه الظروف نشأت الفكرة الصهيونية مستفيدة من المناخ الاستعماري الذي كان سائداً آنذاك (1)، ومن الكراهية والمذابح التي تعرض لها اليهود في غرب أوروبا وشرقها، ونشوء الغيتوات اليهودية، ومن استغلال المرابين اليهود لشعوب هذه البلدان.

وأصبحت أهداف الحركة الصهيونية واضحة في مؤتمر بازل 1897، رغم أن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين قد سبقت انعقاد هذا المؤتمر الصهيوني، فقــد وصلت جماعات مـن جمعية "أحباء صهيون" التي نشأت في روسيا وبالتحديد من جامعة خاركوف، واستطاعت هذه الجماعات أن تؤسس المستعمرة الأولى "بتاح تكفا" في فلسطين 1882 م، وإن سبقتها تجمعات يهودية في القدس منذ منتصف القرن التاسع عشر.

 وقد حاربت الدولة العثمانية صاحبة السيادة على فلسطين اليهودية إلى فلسطين، وكما وقف السلطان عبد الحميد موقفاً واضحاً رافضاً لهذه الهجرة، إلا أن اليهود استفادوا من الامتيازات الأجنبية التي منحتها الدولة العثمانية لرعايا الدول الأوروبية، فأصبحوا يتسللون إلى فلسطين برعاية هذه الدول وتحت حجج واهية مثل زيارة الأراضي المقدسة، أو الاستثمار وغير ذلك.

 كما كانت اللاسامية الدينية والاقتصادية عاملاً مهماً من عوامل قيام الحركة الصهيونية وتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين وإقامة "وطن قومي لهم" على أرضها، فقد كان بعض المسيحيين يعادون اليهود الذين هم في نظرهم قاتلوا المسيح، وتم استغلال ذلك من قبل الطبقات الحاكمة في أوروبا لا سيما عند الأزمات الاقتصادية، فسيطرة اليهود على التجارة في بعض بلدان أوروبا لعدة قرون، جعلت الطبقة التجارية المسيحية التي ظهرت في أوروبا في القرن "12" تزاحم وتضطهد اليهود، فقاموا بحملة ضدهم مستغلين العامل الديني، وطالبوا بطردهم من هذه البلدان، حيث تم طردهم من إنجلترا سنة 1290 م.

ومن فرنسا 1306 ومن أسبانيا بداية سنة 1492، حيث التجأ المطرودون إلى أوروبا الشرقية ولا سيما روسيا وبولندا، واستمروا في العمل بالتجارة والربا، وعندما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر الرأسمالية الصناعية في هذين البلدين، ظهر التناقض من جديد، فأخذت الطبقة الرأسمالية تستغل العامل الديني، فظهرت اللاسامية في روسيا القيصرية، وبلغت أوجها سنة 1882، حيث انتهج القيصر الإسكندر الثالث سياسة معادية لليهود دفعت بالكثير منهم إلى الهجرة إلى أوروبا الغربية. (2)

وازدادت عملية الاضطهاد هذه على أثر اغتيال القيصر الإسكندر الثاني في روسيا سنة 1881، حيث اتهمت شابة يهودية بمشاركتها في عملية الاغتيال، وجدير بالذكر أن هذه الأوضاع تطورت وأدت إلى بروز اللاسامية السياسية التي تعود أسبابها إلى بروز شخصيات يهودية في الحركات الاشتراكية والشيوعية الأوروبية أمثال كارل ماركس وفردنال لسال وروزا لكسمبورغ وليدن ترتسكي، فقد رأى بعض المفكرين والساسة من اليهود أن بناء نظم سياسية توفر لهم المساواة مع بقية المواطنين، وتحميهم من العنصرية، هو السبيل الوحيد لحل ما سمي "بالمسألة اليهودية".

إلا أن هذه التوجيهات الثورية والأفكار الاشتراكية جعلت الحكومات الأوروبية والطبقات البرجوازية تأخذ موقفاً معادياً وذلك حفاظاً على مصالحها الرأسمالية، لذا لجأت إلى تحريض الرأي العام ضد اليهود، مستغلة بعض القضايا السياسية، إضافة إلى العامل الديني لتأجيج غضب المواطنين الأوروبيين مثل قضية اغتيال الإسكندر الثاني 1881 في روسيا وقضية درايفيس، ذلك الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم بالتجسس لحساب ألمانيا وحكم عليه بالسجن مـدى الحياة في ديسمبر 1894 (3).

وقد استغل بعض المفكرين اليهود هذه الأوضاع، ونادوا بمحاربة فكرة الاندماج في المجتمعات الأوروبية، مطالبين في الوقت نفسه بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبرز من هؤلاء تيودور هرتزل  "1860 - 1904" وهو يهودي ولد في بودابست، وعمل في مجال الصحافة، ثم وضع كتيباً اسماه "الدولة اليهودية"، وأصبح فيما بعد رئيساً للحركة الصهيونية بعد انعقاد مؤتمرها الأول في بازل 1897 م، وموسس هس " Moses Hess) "1812 - 1875)  وهو يهودي ألماني بدأ اشتراكياً، ثم ارتد عن الفكر الاشتراكي، بعد أن نشر كتاباً اسماه (من روما إلى القدس) سنة 1862، نادى فيه بإقامة دولة يهودية في فلسطين وهو لا يرى تناقضاً بين الصهيونية والاشتراكية. وليون بينسكر " Leon Pinsker) "1821 - 1891) وهو روسي يهودي نشر سنة 1882 كتاباً بعنوان "التحرر الذاتي" نادى فيه بقيام وطن قومي لليهود بفلسطين أو بأمريكا أو أي مكان آخر. (4)

وأسهمت تلك الأفكار التي تأجج الروح القومية عند الطبقات الوسطى من اليهود في قيام الحركة الصهيونية، وبعد أن تأسست الحركة الصهيونية وأصبح هرتزل زعيماً لها أخذ يركز نشاطه على الدول الاستعمارية التي وجدت في هذه الفكرة انسجاماً وترابطاً مع مصالحها، فطاف بالعديد من الدول ولا سيما بريطانيا التي أيدت الفكرة وعملت على تحقيقها، وتجلى ذلك من خلال وعد بلفور 1917 م، وصك الانتداب البريطاني على فلسطين 1922.

 في ظل هذه الأجواء- اللاسامية - تراجعت دعوات اندماج اليهود في مجتمعاتهم، وبدت كما لو أن فكرة الاندماج قد انهزمت، حتى حركة الهاسكالا (**)  Haskalah  "التنور اليهودي" تحولت وفق المعطيات الجديدة إلى حركة خونيفي تسيون Hovive Tsion   "حركة أحباء صهيون" (***)

وأخذت بالدعوة إلى تجميع اليهود في غيتوات، والعمل على تحويلها إلى أقليات قومية في بلدانها في الظهور من جديد، وذلك كبداية للوصول إلى صيغة توفر تجميع هذه الأقليات، في وطن قومي، وقد لقي هذا التوجه دعماً من البرجوازية الأوروبية بل وعمق الارتباط بينهما (5).

وشهدت أوروبا خلال القرن التاسع عشر تطورات سياسية هامة تمثلت على صعيد إنجاز الكيانية القومية، وحصول عدد كبير من الشعوب الأوروبية على الاستقلال الوطني أو التوحيد مع بعضها البعض وصياغة دول خاصة بها، مع تعاظم امتداد النفوذ الاستعماري الأوروبي، الذي أدى بدوره إلى حروب بين الدول الأوروبية، وكانت نتيجة هذه الحروب، والتنافس الاستعماري وقوع البلدان العربية كغيرها من بلدان آسيا وأفريقيا تحت النفوذ الاستعماري الإمبريالي.

وقد استحسن الكثير من المثقفين اليهود هذه التطورات فأخذوا يعتبرون التجربة الأوروبية شكلاً ممكناً لحل "المسألة اليهودية" وإنهاء حالة الاضطهاد التي يعيشها اليهود في أوروبا (6).

المؤتمر الصهيوني الأول " 1897 " م:

على أثر الأفكار التي أطلقها المفكرون والمثقفون اليهود، عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في أغسطس من العام 1897، بحضور 204 مندوبين يمثلون جمعيات صهيونية مختلفة وتجمعات يهودية متعددة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ومن خلال المداولات التي جرت في هذا المؤتمر، تحدد الهدف بشكل واضح وهو "تسعى الصهيونية إلى إقامة وطن لليهود في أرض إسرائيل، معترف به وفقا للقانون العام"، وقد تم الاتفاق على العمل على جبهتين:

1. الجبهة الداخلية   2.  الجبهة الخارجية

أولاً: الجبهة الداخلية:

وقد تضمن العمل على هذه الجبهة الداخلية (اليهودية) تشكيل عدد من الهيئات التنظيمية والمالية لتنفيذ البرنامج الصهيوني إذ أنشئ:

1. صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار 1899 م: وغايته تأمين رأس المال اللازم للاستيطان، وتمويل الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وفي عام 1903 أنشئ فرع لهذا الصندوق (المصرف) في مدينة يافا تحت اسم "الشركة الإنجليزية الفلسطينية"، وذلك لغرض التمويل الزراعي والصناعي والتجاري والرهونات العقارية، كما أنشئت عدة فروع أخرى في هولندا وألمانيا.

2. الصندوق القومي اليهودي للاستعمار (1904): وقد انشئ في المؤتمر الخامس، وذلك لجباية الأموال لشراء الأراضي، وجاء في نظامه الأساسي أن الأراضي التي يشتريها الصندوق "وقفاً أبدياً باسم الشعب اليهودي "لا يجوز بيعها أو التصرف بها، كما أن الأرض تسلم للمزارعين اليهود عن طريق الإجارة المتوارثة، وضمـــان العمل اليهودي وتشغيل الأيدي العاملة اليهودية دون سواها".

3. مكتب فلسطين 1908 م: وقد تأسس هذا المكتب في مدينة يافا من قبل المكتب التنفيذي للمنظمة الصهيونية باعتباره وكالة مركزية للاستيطان اليهودي، ويقوم بإنشاء الشركات لشراء الأراضي.

وتم وضع برنامج لتحقيق هذه الغاية، يضمن الإجراءات التالية:

1. تطوير أرض إسرائيل بشكل منظم بواسطة توطينها باليهود المزارعين والحرفيين والمهنيين.

2. تنظيم اليهود وتجميعهم بواسطة مشاريع مفيدة بحسب قوانين كل بلد.

3. تقوية الشعور القومي اليهودي والهوية القومية اليهودية.

وعلى الصعيد التنظيمي، تم تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية، وانتخاب لجنة تنفيذية للإشراف على تنفيذ القرارات وإدارة شؤون المنظمة الصهيونية (7)، وانتخب تيدور هرتزل رئيساً لهذه المنظمة.

ثانياً : الجبهة (الخارجية الدولية) السياسية والدبلوماسية:

وهي تهدف إلى الحصول على موافقة الدول الأوروبية خاصة على هذا المشروع الصهيوني، ولذلك جندت الصهيونية رجالها في البلدان الرأسمالية للتحرك بهدف إقناع هذه الدول بتبني الفكرة للعمل بهدف تحقيق الغاية الصهيونية، فاتصل هرتزل بالعديد من الدول الأوربية، ولم يتردد بالاتصال بالدولة العثمانية صاحبة السيادة على فلسطين، فقد حاول إغراء السلطان عبد الحميد بالمال لشراء فلسطين (7)، إلا أن السلطان رفض رفضاً باتاً العروض الصهيونية مؤكداً على أن فلسطين لأهلها العرب، ولا يمكن أن يسمح بذلك.

وتوالت المؤتمرات الصهيونية بالانعقاد والتخطيط لتحقيق "الهدف" وقد عقد في عهد رئاسة هرتزل خمسة مؤتمرات، إضافة إلى المؤتمر الأول الذي انتخب فيه رئيساً، ورغم هذه المؤتمرات والنشاطات لم تقم المنظمة الصهيونية فعلياً بأي نشاط استيطاني عملي في فلسطين خلال عهد هرتزل، ولم يتغير موقفها إلا بعد وفاته 1904 عندما سيطر "العمليون" عليها. (8)

 فقد ركز هرتزل نشاطه في المجال السياسي والعلاقات الدولية للحصول على الدعم السياسي اللازم من الدول الاستعمارية، إلا أن الصهيونية لم تحرز في عهده أي إنجاز سياسي عملي.

 وفي عام 1905 عقد في بازل المؤتمر الصهيوني السابع لحسم مسألة الخلاف على مشروع "أوغندا" الذي سبق وأن طرحه هرتزل، إلا أن النشاط الصهيوني فيما بعد انتقل تدريجياً إلى لندن، وبرزت علاقات متينة بين كبار الصهاينة ورجالات السياسة الإنجليز.

ولعل العلاقات الخاصة التي أقامها "حايم وايزمن" وهو أحد غلاة الصهيونية مع لويد جورج الذي أصبح رئيساً للحكومة البريطانية في أوائل 1916 م، قد كان لها تأثير كبير في العلاقات الصهيونية البريطانية، وكان من العوامل التي ساعدت على صدور وعد بلفور، 1917 وعلى تبني بريطانيا المواقف الصهيونية في مؤتمر الصلح 1919 م، وأيضاً في مؤتمر سان ريمو 1920.

 وقد كانت الهجرة الأولى للصهاينة إلى فلسطين قد تمت ما بين (1882 - 1903) حيث وصل 25 ألفاً من روسيا وأوروبا الشرقية.

 أما الموجة الثانية (1904 - 1914) قد بلغت حوالي 40 ألفاً، وبذلك يكون العدد 65 ألفاً إضافة إلى 24 ألفاً وجدوا في فلسطين قبل العام 1882، وبذلك يكون إجمالي اليهود في فلسطين قد وصل إلى 85 ألفاً، إلا أن هذا العدد قد تناقص أثناء الحرب العالمية الأولى، إذ غادر ما يقرب من 25 ألفاً فلسطين باتجاه أوربا، وعند صدور وعد بلفور 1917، كانت نسبة اليهود في فلسطين تشكل 9 % من إجمالي السكان البالغ عددهم 700 ألف نسمة، أما الأراضي التي تمكن الصهاينة من امتلاكها والسيطرة عليها فقدرت قبل العام 1917 م ب 87.835 هكتارا موزعة على 35 مستعمرة .(9)

سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين (1922 - 1948):

 لقد استمر الحكم البريطاني لفلسطين منذ العام 1917 وحتى 1948 م عملت خلاله بريطانيا كل ما في وسعها من أجل تحقيق ما وعدت به الصهاينة فقد سهلت الهجرة الصهيونية إلى فلسطين بشتى الوسائل، كما أنها سربت العديد من الأراضي لهم لأجل إقامة المستوطنات عليها، ولم تكتف بذلك بل عملت على إضعاف الاقتصاد الفلسطيني بسبب الضرائب الباهظة التي فرضتها على الفلاحين والتجار في الوقت الذي كانت تمكن اليهود من إقامة مؤسسات اقتصادية كبيرة، كما استخدمت كافة أساليب القمع والإرهاب بحق المواطنين العرب، ففي العام 1920 عينت بريطانيا الوزير البريطاني الصهيوني السابق السير هربرت صموئيل كأول مندوب سام لها على فلسطين، أي قبل موافقة عصبة الأمم على الانتداب بعامين، وأطلقت يده في تحديد مستقبل البلاد والذي ساهم في انتقال الأراضي العربية للجمعيات الصهيونية.

فقد احتوت السياسة البريطانية على عنصرين (10)  التحكم بالأرض " شروط بند 11 في صك الانتداب، (2) العمل على إتاحة هجرة يهودية تحت حالات ملائمة"، وكذلك تشجيع استيطان مكثف على الأرض بالتعاون مع الوكالة اليهودية وهذا واضح في بند (6) من صك الانتداب أيضا، ويتضح من ذلك أن الإدارة البريطانية في فلسطين وضعت نفسها في مقام الشريك والقاضي في آن واحد.

ورغم هذه السياسة فإننا نجد أن مجموع الأراضي التي كانت بحوزة اليهود في فلسطين عشية قيام دولة "إسرائيل" في أيار 1948 حسب إحصائيات (1945 - 1946) التي أعدتها لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية (Anglo -American Committee Of Inquiry)  فقد قدرت استملاكات الأراضي اليهودية في فلسطين بـ ( 1.588.365 ) دونما، وهذا يشير إلى أن نسبة الأراضي التي أصبحت بحوزتهم قد ازدادت من 115 %عام 1914 م  إلى  615 % عام 1947 ، وقد حصل الصهاينة علــى( 171.449 ) دونما من هذه الأراضي كامتياز من حكومة فلسطين الانتدابية (10).

أما الهجرة الصهيونية إلى فلسطين فقد ازدادت ازدياداً ملحوظا في نفس الفترة، فبينما كان اليهود يشكلون 9 % في العام 1914، فقد أصبحوا يشكلون 35 % ( في العام 1947 ) من إجمالي السكان، فقد فتحت أبواب الهجرة الصهيونية في الفترة بين عام 1920 إلى 1929 م حتى بلغ عدد الذين وصلوا إلى فلسطين 100 الف مهاجر، أما الزيادة في امتلاك الأراضي فقد انعكست في شراء نصف مليون دونم عام 1925، وجدير بالذكر أن سياسة الأرض التي اتبعتها الإدارة البريطانية قد خلقت طبقة من المزارعين بدون أرض وذلك بسبب الابتياع اليهودي المكثف للأرض بطريق الخداع، وقد أكد ذلك التقريران الحكوميان الرسميان لكل من لجنة (شو)  و (سمبسون)، وقد جاء في تقرير لجنة شو 1930 م.

"لا شك في أن شراء اليهود للأرض - وخاصة عندما تبلغ نسباً عالية - يخرق طبيعة حقوق المزارعين المستأجرين، الفلاحين أو المقيمين على الأرض بشكل غير قانوني وقد يؤدي ذلك إلى طبقة من المجردين من الأرض. ومهما يكن من أمر فإن حقوق هذه المجموعات لم تصن بالشكل الكافي حتى الآن (11).

أما تقرير سمبسون " Sir John Hope -Simpson  "  فيؤكد أيضا "بأن شراء الصندوق القومي اليهودي للأرض لا يمكنه أو يعود بالمنفعة على السكان العرب، ليس في الحاضر ولا في أي وقت آخر في المستقبل، حيث لم يتمكن الفلاح العربي من زرع الأرض، وليس هناك أمل بأن يشتغل اجيرا فيها، كما لا يمكن لأي شخص مساعدته على استرجاع الأرض للاستعمال العام، وبما أنه لا يمكن نزع الأرض فإن العرب لا يعيرون بهذا السبب أهمية لشعارات الصداقة وحسن الجوار التي تحاول الصهيونية تبنيها (12).

وبقي الوضع على ما هو عليه، حتى إن الكتاب الأبيض لعام 1939 م الذي حدد هجرة 75 ألف يهودي إلى فلسطين خلال السنوات الخمس القادمة، كما حدد المناطق التي يمكن لليهود شراء الأراضي فيها، ونفذت سياسة التحديد الجغرافي لشراء الأرض في إصدار "أوامر نقل الأرض لعام 1940"، وقد استحدثت هذه الأوامر مبادئها من مفكرة التقسيم التي اقترحتها سابقا لجنة "بيل" لعام 1937 ( Peel  Commission  ) وبموجب هذه الأوامر الجديدة قسمت فلسطين إلى منطقتين رئيسيتين:

( Zone ' B ' Zone ' A ' ) ففي منطقة  "A" منعت عملية نقل الأرض من العرب إلى اليهود منعا باتا باستثناء بعض الحالات الشاذة، أما ضمن المنطقة "B" فإن بيع الأرض قيد، وسمح به بشرط التأكد من أن البيع يجلب منفعة تطويرية مشتركة للعرب واليهود، أما في مناطق أخرى مثل ( Zone  " C " ) والتي تضم مناطق سلطات محلية والمنطقة الصناعية في حيفا وسهل عكا، فإن مثل هذه القيود غير جارية (13).

ويتضح مما سبق دور سياسة الإدارة البريطانية بأنها عملت على توجيه اليهود لشراء مساحات أراضي جديدة في مناطق معينة بحجة أن هذه الابتياع لا يجحف بحق السكان العرب، لقد كان واجب الانتداب البريطاني تشجيع الاستيطان، وذلك تلبية لغالبية المطالب التي تقدمت بها الحركة الصهيونية.

        وبناء على هذا الهدف سنت حكومة الانتداب قانون انتقال العقارات غير المنقولة لعام 1920، حيث إن بنود هذا القانون تفرض على الشخص الذي يرغب في نقل أي أرض إلى ملكية شخص آخر أن يحصل على الموافقة الخطية من الإدارة وأن يستوفي الشروط الثلاثة الآتية:

1. على الشخص المشتري أن يكون مواطنا فلسطينيا وأن يستغل الأرض أو يطورها حال شرائها.

 2.  على الشخص البائع أن يحتفظ بأرض كافية في نفس القضاء أو خارجه وذلك لكي يعيل نفسه وعائلته.

 3.  وأن لا تزيد قطعة الأرض المباعة عن 300 دونم إذا كانت زراعية و 30 دونما إذا كانت ضمن حدود العمران ولا يمكن نقلها بعد بيعها من جديد (14).

        وفي حالة عدم توفر أحد هذه الشروط فإن صفقة البيع لا تتم وتبقى الصلاحية الوحيدة التي يمكنها البت في مثل هذه الحالات الشاذة بيد المندوب السامي الأعلى نفسه،  وإذا نظرنا إلى هذا القانون في بنوده الثلاثة يبدو لنا ظاهرا، أنه مناقض لرغبة اليهود في إقامة وطن قومي في فلسطين، إلا أن الصلاحيات التي أعطيت للمندوب السامي في "الحالات الشاذة " تهدف إلى انتقال الأراضي إلى الوكالة اليهودية بالطرق التي يراها مناسبة، ومن ثم تقوم الوكالة بتقسيمها وتوزيعها على أفراد وتضعها تحت تصرفهم، بما لا يتناقض مع البند الثالث من القانون (15).

فمثلاً بين السنوات 1918 - 1928 ابتاعت الوكالة اليهودية مساحات شاسعة من الأرض في مناطق سهل عكا ومرج بن عامر حيث تم ابتياع اكثر من 200 ألف دونم، ولم يمانع المندوب السامي شراء الوكالة لهذه الأراضي لأنه "مقتنع بأن الوكالة ستقوم بتوزيعها بما لا يتعارض مع القانون".

ومن المهم أن نذكر هنا بأن منطقة مرج بن عامر قد اعتبرت حتى الحرب العالمية 1914 تابعة لولاية بيروت، وذلك قبل إقرار الحدود الشمالية الحالية لفلسطين عام 1923 م ومع إقرار الحدود والفصل الذي تم بين منطقة الجليل التابعة لفلسطين، ومناطق أخرى تابعة لسوريا ولبنان، أصبح أصحاب الأرض في مرج بن عامر غائبين حسب القانون بحكم التطور السياسي، فقد وقعت لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، فاعتبر هذا الوضع مثاليا للحركة الصهيونية لابتياع الأرض في شمال فلسطين، حيث أصبح المالكون لهذه الأرض في دولة وأرضهم في دولة ثانية، وقد يكون هذا السبب الرئيسي الذي دفع ببعض أصحاب هذه الأرض إلى بيعها.

وقد وجد في فلسطين العديد من سندات البيع المزورة والتي لا زالت تمارس إلى يومنا هذا، حيث يوجد بعض السماسرة الذين يتولون هذه الأرض نيابة عن أصحابها ومن ثم يقومون ببيعها إلى أطراف لم يكن مالك الأرض يعرف هويتهم.

هذا عن الأرض المملوكة لعائلات أو أفراد، أما الأرض المتروكة - غير المستغلة والأرض التي كانت ملكا للدولة فإن تحويلها إلى أيدي الوكالة اليهودية كان أقل تعقيدا، وكانت هذه الأراضي تحت سيادة الدولة العثمانية، ثم تحولت إلى سيادة الإدارة الانتدابية، وكانت هذه تشكل النسبة الأكبر من مساحة فلسطين، فقد منحت الإدارة البريطانية الوكالة اليهودية مئات الألوف من الدونمات منها كامتياز  (Concession) في الحولة وساحل الكرمل، قد حاولت الصهيونية ترويج دعاية تسىء للشعب العربي الفلسطيني وتوحي بأن العرب قد باعوا ارضهم ويذكر في هذا المجال محمد عزة دروزة وهو من أقطاب الحركة الوطنية زمن الانتداب البريطاني في الجزء الأول من كتابه (القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها) مما يلي:

"إن اليهود لم يتملكوا في فلسطين إلى سنة 1947 أكثر من مليوني دونم من أصل السبعة ملايين دونم التي امتلكوها، منها نحو 4 ملايين ملكوها في عهد الدولة العثمانية في منطقتي يافا وحيفا، ونحو 3 ملايين دونم أعطتهم إياها الحكومة البريطانية من أملاك الدولة بالإجازة وثمانمائة ألف دونم اشتروها من ملاك غير فلسطين (سوريين ولبنانيين ومصريين وإيرانيين)، "هؤلاء كانوا قد اشتروا هذه الأرض من الدولة العثمانية بالمزاد بعد أن رفض أصحابها من الفلسطينيين تسجيلها خوفاً من الضرائب والجندية، ومعلوم أن وضع المزارعين في هذه الأرض قبل بيعها لليهود لم يتبدل لأنهم كانوا يزرعونها ويسكنون فيها" (16).

ولم تزد مساحة الأرض التي باعها عرب فلسطين عن نصف مليون دونم، وكان البائعون ملاكاً وليسوا فلاحين.

 لقد اتبعت الإدارة البريطانية والحركة الصهيونية أساليب متعددة قانونية وغير قانونية للسيطرة على الأرض، وقد رافق ذلك ازدياد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، فقد بلغ عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ما بين 1932 - 1938  نحو 217 ألف مهاجر، جاء معظمهم من ألمانيا وبولندا لا سيما بعد صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا.      

وتعتبر هذه الهجرة الأكثر خطورة بسبب ما تملكه من أموال حيث قدر رأس المال اليهودي الذي دخل فلسطين مع هؤلاء المهاجرين ب 42.400.000  جنيه فلسطيني.

يتضح مما سبق بأن الترابط العضوي بين الحركة الصهيونية وحركة الاستعمار الإمبريالي قد أدى إلى السيطرة على فلسطين بغاية تفتيت المنطقة العربية، وتجزئتها، وعرقلة مشاريع التنمية في المنطقة العربية، لكي تبقى المنطقة تئن تحت وطأة التخلف والجهل، وتحويلها إلى سوق للمنتوجات الأوروبية، وذلك لتنفيذ خطة رئيس الوزراء البريطاني والمعروفة بخطة "بنرمان" 1907 والتي نصت على ضرورة زرع كيان غربي في قلب الوطن العربي.

 

المصادر والمراجع:

( * ) سميت بهذا الاسم نسبة الى جبل صهيون في القدس، وكان داوود قد بنى عليه قصرا ومعبدا وحصنا.

( ** )    الهاسكالا، كلمة عبرية معناها استنارة، أوجدها ودعا لها موشي مندلسون (1779 - 1786 ).

(***)    حركة تأسست في روسيا كردة فعل على ما قام به الإسكندر الثالث ضد اليهود بعد اغتيال القيصر الإسكندر الثاني سنة 1881 من قبل مجموعة روسية كان من بينها إحدى اليهوديات، وأخذت تدعو إلى الهجرة إلى فلسطين.

( 1 )    المحجوبي، علي: جذور الاستعمار الصهيوني بفلسطين، الطبعة الاولى، تونس، دار سراس للنشر، 1990، ص 21.

( 2 ) المحجوبي، المرجع السابق، ص 22.

( 3 )    المحجوبي، مرجع سابق، ص 24.

( 4 )    المحجوبي، مرجع سابق، ص29 .

( 5 )    سليمان، محمد (1981) ( قانون التنظيمات العثماني وتملك اليهود من أرض فلسطين )، مجلة صامد الاقتصادي، بيروت، العدد 33 ، اكتوبر، ص 69 .

( 6 )    سليمان، محمد، المرجع السابق ص 70 .

( 7 ) حلاق، على حسان: (1978) موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897 - 1909، ط 1، بيروت. (2)جريس، صبري: تاريخ الصهيونية (1977)، الطبعة الأولى، بيروت، مركز الأبحاث ٍالفلسطيني، الجزء الأول، ص 158 – 159.  

( 8 )    جريس، مرجع سابق، ص 186.

( 9 )    المحجوبي، مرجع سابق، ص 38.

( 10 )    فلاح، غازي  (1985): تحليل خارطة الابتياع اليهودي للأرض في فلسطين 1914 - 1948، مجلة  المواكب، العدد، 5، ص 9، 10.

( 11 )    فلاح، غازي، المرجع السابق، ص 12.

( 12 )    فلاح، غازي،  مرجع سابق، ص 12.

( 13 )    فلاح، غازي،  مرجع سابق، ص 14.

( 14 )  هداوي، مرجع سابق، ص 52.

( 15 )    فلاح، مرجع سابق ، ص 14.

( 16 )    سليمان محمد، مرجع سابق، ص 72.