الثلاثاء  23 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ما بين الإعتدال ... والإعتزال/ بقلم: د. حسن أبولبده

2018-11-30 10:19:32 AM
ما بين الإعتدال ... والإعتزال/ بقلم: د. حسن أبولبده
د. حسن أبولبده

مرت ذكرى التقسيم لهذا العام خجولة وغائرة في ذكرى الزمان، فلا خطابات أو مؤبنين أو حتى إعلان حول ما نحن فاعلون في ظل هجوم الدبلوماسية الإسرائيلية الساحق في مسار التطبيع مع عمقنا العربي والإسلامي، وتعزيز شرعيتها على أنقاضنا كدولة راسخة في الإقليم ولاعب أساسي على الحلبة الدولية.

مرت هذه الذكرى المؤلمة ونحن مستهلكون ما بين الإختلاف على الجغرافيا والسياسة والكراسي وتنازع الصلاحيات في ما تبقى من الوطن، والإستغراق العميق في صد ورد مبادرة الضمان الإجتماعي الحكومية في الخاصرة الشمالية، التي خلقت حالت اصطفاف غير مسبوقة في الإختلاف على ترجمة الحق في لقمة العيش بأمن وأمان، ورشة صناعة الموت جوعاً في الخاصرة الجنوبية.  وبينما تمر ذكرى التقسيم كطيف غائر في سراديب التاريخ، يستمر نظامنا السياسي بممارسة طقوس الرتابة والإنشغال باللاشيئ، بانتظار معجزة سياسية إلهية تبدل الحال وتقرب شعبنا من نيل حقوقه.

لا يختلف اثنان بأنه لم يعد للقضية الفلسطينية مكانا على سلم أولويات الدول العربية والإسلامية، والكثير من الدول التي كانت تقليديا من أشد المناصرين لقضيتنا، وانتهت تلك الأيام التي كانت فيها القضية الفلسطينية مفتاحاً للسلم الأهلي والنجاح السياسي في العديد من الدول، ومحفزا كافيا لخروج الملايين للتعبير عن وقوفهم الى جانب شعبنا في صموده.  وعلى الرغم هذه الصورة القاتمة، توغل جهود الدبوماسية الفلسطينية بالتيه والانحسار، ويستمر ترهل أداء معظم السفارات الفلسطينية في أنحاء العالم، لغياب الموارد والتوجيه والكفاءة المهنية، والأهم من كل ذلك وضع "الشخص المناسب في المكان المناسب"، وللأسف يستمر سرد وتوثيق الفتوحات الورقية، بينما تضج الحالة بالموت السريري.

إن تضحيات شعبنا منذ عام 1917 وحتى تاريخه تضع هذا الشعب العملاق في مقدمة الشعوب التي دفعت وتدفع ثمنا غاليا لصون كرامتها وتوقها لحريتها، ويحتم ذلك على النظام السياسي الفلسطيني بمكوناته التوقف عن مسار اللامبالاة وتجاهل ما يجري من تذويب ممنهج للحقوق الفلسطينية، ويحتم عليها التعالي عن قضاياها الصغيرة بالمقارنة مع ما يجري، مثل فرض الضمان الإجتماعي رغما عن الإرادة المجتمعية، والقبول باستمرار واقع الإنقسام، والمبادرة لبلورة برنامج إعادة الثقة للجمهور ومراجعة البرنامج السياسي وتصليبه بعيدا عن الشعارات الطنانة، ومواجهة شاملة محلية/إقليمية/دولية للهجوم الإسرائيلي الدبلوماسي لتكريس شرعية وجوده على أنقاضنا وشرعية استمرار احتلاله على حساب حقوقنا غير القابلة للتصرف.  

يتطلب نهوض طائر الفينيق الفلسطيني جدية في مواجهة الواقع واعادة نظر جريئة فورية في وظيفة الشبكة الدبلوماسية الفلسطينية المنهارة، وتحويل السفارات الى جبهات مواجهة متقدمة للاجتياح الإسرائيلي الدبلوماسي، وتجيش مجموعة مبعوثين أكفاء للدول المختلفة للشرح والتجييش واستعادة الثقة سواء بين الجاليات الفلسطينية أو بين مؤسسات المجتمع المدني والتجمعات الشعبية في تلك الدول، والتي لطالما كانت دائما المدافع الأول عن حقوق شعبنا (تذكرو المظاهرات المليونية في إيطاليا وغيرها من دول أوروبا نصرة لشعبنا)، والأهم من كل ذلك المصارحة المستمرة مع شعبنا حول ما يجري ويجب أن يجري، وتطهير البيت الفلسطيني من المتسلقين منتهزي الفرص والمتاجرين بالقضية.

من ناحية أخرى، يتوجب التوقف مطولا عند ظاهرة تبدل الأولويات الشعبية من أولويات وطنية عامة الى شخصية ضيقة.  إن شعبنا الذي صنع أسطورة التضحية والصمود جاهز لبذ المزيد من التضحيات وتجاوز المحن الشخصية في سبيل رفعة قضيته الوطنية، بشرط تغير المسار وتبدل العديد من أحصنة المرحلة، وأعتقد أن ذلك ممكن لو أن النظام السياسي الفلسطيني أقبل على نيل ثقة المواطن بسلوكه وممارساته وإصراره على التمسك بثوابته عمليا وليس من على المنابر، ونقى ثوبه من الدنس الداخلي، وأعاد النظر بطبيعة العلاقة مع دولة الإحتلال. 

إن القيادة الفلسطينية مطالبة اليوم باتخاذ خطوات جرئية (وبعضها مؤلم) لتكثيف جهود الاصطفاف الوطني حول مركزية القضية الفلسطينية، وطي صفحات الإنقسام الداخلي ما بين الضمان الاجتماعي وتمزق الجغرافيا وتفشي اليأس والقنوط، واتخاذ خطوات حقيقية لإجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية، والأهم من كل ذلك إعادة النظر بوظيفة السلطة، لتكون سلطة مناضلة ... تتمسك بما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب في رسالته الى عمرو بن العاص ".. بلغني أنّك تجلس فى مجلس الحكم متّكئاً، فاجلس متواضعاً يا ابن العاص وإلا عزلتك"، ويحسن صنعا رئيس السلطة بإطلاق حملة تطهير واسعة النطاق لتصويب سلوك فرسانها ودبلوماسييها، عملا واقتداءً بالخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي كتب ذات يوم إلى أمير العراق "أما بعد، فقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت، وإما اعتزلت  .. والسلام".