الخميس  25 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المذهب الفردي في تفسير المصير الاقتصاديبقلم: ناجح شاهين

(عندما سألت عجوزاً كانت في حملة أوباما الأولى إن كان الرجل سيقضي على البطالة وينهي ظاهرة المشردين في الشوارع، قالت بدهشة: "ولكن ما علاقة أوباما بذلك؟ ذلك شأنهم الخاص.")

2019-01-05 01:31:13 PM
المذهب الفردي في تفسير المصير الاقتصاديبقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

ليست النوايا الطيبة سبباً كافياً لكي يكون العمل طيباً بالفعل. ومهما حسنت النوايا فإنها لا تجعل القول أو العمل لبنة في بناء التغيير الجدي الثوري. المهم موقع القول أو الفعل مما يجري على الأرض.

كنت أستمع إلى برنامج لمحطة إذاعية محلية خفيفة الظل ولدهشتي كان هناك امرأة شابة، على الأرجح، تتحدث عن أسباب عدم نجاح عدد كبير من الفلسطينيات والفلسطينيين في الحصول على عمل لائق، أو وظيفة محترمة، أو مصدر دخل دائم ...الخ وفي هذا السياق أبدت المتحدثة أسفها لأن معظم الفلسطينيين لا يمتلكون مؤهلات الشخصية التي تجعلهم قادرين على "النجاح".

فجأة ينعكس وضع الفلسطينيين الذين طالما تغنوا، إن واقعاً أو حلماً، بأنهم عمروا الخليج، وأنهم مسؤولون عن خمسين في المائة من الاختراعات العلمية التي تتحقق في شمال العالم، وأنهم يختلفون عن إخوتهم العرب في الموهبة والمهارة والقدرة على الإنجاز، ليظهر أن العكس هو الصحيح: الفلسطيني لا يجد عملاً في بلاده لأنه لا يتقن مهارات "الشخصية" اللازمة للنجاح. هكذا إذن يصبح جيش البطالة المتنامي ناتجاً عن افتقار الفلسطيني إلى الموهبة والمهارة.

لأغراض الجدل المبسط دعونا نفترض أن هناك ألف فرصة عمل في مناطق السلطة، بينما يوجد مئة ألف شخص يبحثون عن عمل، هل يمكن مهما فعلنا لتحسين مهارات هؤلاء العاطلين وتطوير "مواهبهم" الشخصية أن نشغلهم جميعاً، أم أن فرص العمل مستقلة عن عبقرية الأفراد ومزاياهم؟ الجواب الواضح بالطبع هو أن فرص العمل لا علاقة لها بالفرد، وإنما ببنية الاقتصاد ووضع سوق العمل. ولذلك فلو افترضنا أن هناك خمسة علماء ذريين في رام الله، فإن أحداً منهم لن يتمكن من الحصول على فرصة عمل بسبب عدم وجود مفاعلات نووية في البلاد. ولا بد أننا لو عملنا بنصيحة "الخبيرة" المستضافة في الإذاعة المحلية، وحاولنا تطوير شخصياتهم فإن النتيجة تظل هي هي: لا يوجد فرص عمل لعلماء الذرة في مناطق السلطة الفلسطينية.

إذن ما الذي يمكن أن نستفيده من فكرة الشخصية وقدرتها على التكيف مع الواقع ....الخ؟ الاستفادة أيديولوجية محضة: إن فشل الفرد في الحصول على العمل هو أمر يخصه، ولا يخص بنية الاقتصاد الكلي، وبالتالي علينا أن نبحث عن حل للبطالة في تدريب الأفراد وليس في الثورة على علاقات الإنتاج التبعي القائمة. علاقات الإنتاج وما يتصل بها من بناء اقتصادي لا يبني صناعة ولا زراعة ويكتفي بالريع المالي السياسي المحدود تماماً ببعض التمويل الذي يأتي للسلطة ومنظمات الأنجزة كلهم أبرياء من دم العاطلين عن العمل الذين يجب أن يتعلموا قلع أشواكهم بأيديهم. لكنهم، ونحن معهم، لا نجد الوصفة السحرية لذلك.

في الولايات المتحدة تسود فكرة مسؤولية الفرد عن مصيره وعن وضعه سيادة كاملة. وهي أيديولوجية تسهل على الطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة أن تغسل يديها من هموم الهائمين في الشوارع ومن هموم التأمين الصحي، وجوع الجائعين، وبطالة العاطلين عن العمل، وصولاً –مثلما فعل جورج بوش الابن- إلى طرد المرضى النفسيين من المصحات الحكومية لكي يتحملوا مسؤوليتهم الفردية. عندما سألت عجوزاً كانت في حملة أوباما الأولى إن كان الرجل سيقضي على البطالة وينهي ظاهرة المشردين في الشوارع، قالت بدهشة: "ولكن ما علاقة أوباما بذلك؟ ذلك شأنهم الخاص." ثم أردفت إن على منظمات المجتمع المدني وأهل الخير من أمثالي أن يساعدوهم. أرأيتم؟ إن مذهب الفردية يخلي مسؤولية الدولة والطبقة المسيطرة التي تنهب الناس من مسؤولية مطالبتها بتحمل بعض العبء الناجم عن إطلاق يدها لنهب المجتمع وتركيز ثروته في يد حفنة صغيرة. وهذا هو ما تحاول الأجهزة العاملة في الإنتاج الأيديولوجي المحلي أن تعممه في بلادنا الصغيرة الخاضعة للاحتلال، والنهب على السواء: ليس الاحتلال، ولا بنية الاقتصاد التبعي هي المسؤولة عن فقر الناس أو جوعهم، بل الفرد المفتقر إلى بعض المهارات الشخصية هو السبب في بلاء ذاته: قدر الإنسان هو مردود صاف لشخصيته على حد ما ذهب إليه سوفوكليس في "أوديب الملك". لكن علينا أن ننصف الرجل لأنه كان يتحدث عن الحياة والموت، والجوانب الأخلاقية، وليس عن الاقتصاد، والسوق، والاقتصاد السياسي، وما لف لفها.

ربما أن الصبية التي كانت تتحدث عن أهمية التدريب في مستوى الشخصية لا تريد تيسير الهيمنة الطبقية والسياسية للنخب المحلية الحاكمة، ولكن فحوى الأفكار التي كانت تروجها تصب في هذه الخانة. وهذا لسوء الحظ هو أسلوب عمل الأيديولوجيا، فهي تتسلل إلى وعي الناس أو ربما "لا وعيهم" في لحظات معينة من الاسترخاء، في الظهيرة، فلا يأتي المساء، إلا وقد استدخل المضطهدون أغاليط من يضطهدهم، وأصبحوا نشطاء أمينين على ترويج ثقافته، وفلسفته، وأفكاره، بحيث يغدو ابن الطبقة الفقيرة العاطل عن العمل، الجائع، الذي لا يدري من أين يتلقى المصائب، عدواً لنفسه ببثه الأيديولوجيا الليبرالية التي تحمله عبء نفسه، وتعفي الطبقة المسيطرة من نتاج ما تقترفه يداها. ولست ألوم إذاعتنا المحلية ولا غيرها من وسائل الإعلام، ذلك أن وحش اللبرلة كبير، وهو علاوة على ذلك يستفرد بعقول الناس في ظل غياب مفجع للفكر النقيض وحراسه من أحزاب أو مفكرين ثوريين. لكن ذلك بالطبع يجب أن لا يمنعنا من محاولة صقل أدواتنا ووعينا، ولا بد أن اليقظة وعدم الاسترخاء على صغر هذا المطلب –للوهلة الأولى- يمكن أن تسعفنا جميعاً في فرز الغث من السمين في بضاعة الفكر والثقافة مما يعقد مهمة الهيمنة الأيديولوجية للمستعمر والطبقة التابعة له، ويضع اللبنات واحدة فوق الأخرى من أجل رفع معمار الفكر النقيض.