الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الفنانون الفلسطينيون ما بين النهضة والسقوط/ بقلم: محمد مها

عن تطبيع الفنانين يكتب محمد مها

2019-03-03 11:07:51 AM
الفنانون الفلسطينيون ما بين النهضة والسقوط/ بقلم: محمد مها
تعبيرية

 

ينخر التطبيع القضيةَ الفلسطينية وينهشُ لحمَها، وهو أمرٌ ليسَ بجديد، لكنَّه في هذه الفترة من الزمن أصبحَ وبكلّ وقاحة، علنيّاً، ويدافع أصحابه عنه باعتباره وجهة نظر، والتطبيع اصطلاحاً هو محاولة جعل الأمر غير الطبيعي يبدو وكأنّه طبيعي، بإقامة علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي كما لو أنَّ الأمور تسير كما يجب بتجاهلِ حالةِ الحرب المُستمرّة وصراع الوجود بين هذا الاحتلال والشعب الفلسطيني.

وفي هذا السياق من وجهة نظري، إنَّ التطبيع الثقافي هو أخطر أنواع التطبيع وذلك لأنَّ الثقافة والأدب هي المرآة التي تعكس هُويّة الشعوب وأفكارها وهي التي تؤثر بعمقٍ في أذهان الناس وعقولهم وتضرب بصميم قضاياهم، وفي الحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني فإنَّ خطورة التطبيع تُصبح أكبر، فما من خطرٍ أعلى من أنْ يتبنّى الفنّان رواية عدوّه ويقدّمها للعالم على أنَّها أعمال دراميّة تقدّم الحقيقة كما هي.

تدور العديد من الأحاديث في الفترة الحاليّة عن أعمال دراميّة إسرائيليّة بمشاركةٍ عربيّة في العديد من الأعمال، ومن أحد أبرز هذه الأعمال مسلسل "فوضى" وهو من إنتاج إسرائيلي يتحدّث عن بطولات وإنجازات وِحدة المُستعربين في الجيش الإسرائيلي، ومسلسل "منى" وهو أيضاً من إنتاج إسرائيلي ويتحدّث عن مُعاناة العرب الفلسطينيين في الداخل من أفعال المقاومة الفلسطينيّة ويشارك في هذه الأعمال مجموعة لا بأسَ بها من الممثلين الفلسطينيين.

ماذا يمكن أن نطلق على المشاركات العربية في هذه المسلسلات؟ حتماً هو التطبيع وبشكل علني، ولكي أكون واضحاً، التطبيع هنا لا يتمثل فقط بأن المسلسلات التي شاركوا بها تسيء للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني الذي من المفترض أنهم ينتمون إليه، بل التطبيع هو المشاركة أصلاً بعمل فنيّ إسرائيلي ومع فريق عمل إسرائيلي مهما كان مضمون هذا العمل، فالمشكلة نفسها موجودة إذا شاركوا في مسلسل أو فيلم إسرائيلي يتحدث عن الحب مثلاً.

هؤلاء الممثلين أنفسهم هم جزء أيضاً من أعمال مسرحية ودرامية فلسطينية يشاركون بها في مهرجانات محلية ودولية وقد يحصدون بها العديد من الجوائز، والغريب أن بعض هذه الأعمال قد تتحدث عن قضايا وهموم الشعب الفلسطيني ومن بينها الاحتلال.

فنصبح أمام ممثلين شاركوا في أعمال مسرحيّة فلسطينية وأُخرى إسرائيلية، وهذا أمر غير مقبول فعليهم أن يحددوا المعسكر الفني الذي ينتمون إليه ويدافعون عنه، ووجودهم في معسكر يلغي بالضرورة وجودهم في المعسكر الآخر. لأن المعسكرين يحملان ويدافعان عن فكرتين مُتناقضتين، فكيف يمكن للفنان أن يكون فيهما معاً؟ وكيف يكون الفنان فناناً إذا لم يحمل رسالة وفكرة يدافع عنها ويريد إيصالها للمجتمع؟ وكيف يكون فلسطينياً إذا كان يعمل في أعمال ينتجها الاحتلال؟ هذه الازدواجية تحوِّلُ صاحبَها من فنانٍ حقيقيّ إلى حِرَفي قد يكون ماهراً، والحرفة مهمة لكنها لا تكفي بل هي تحتاج لرؤية حتى تصبح فناً.

قد يبرر أحدهم المشاركة في هذه الأعمال بأن الفنانين في الداخل مُجبرين على الأمر ويقارن ذلك بشراء البضائع الإسرائيلية التي ليس لها بديل على الأقل في الداخل مع العلم أن مشاركتهم في أعمال عربية فلسطينية تنفي هذا الإجبار، لأن عديد الفرق الفلسطينية في الداخل تعمل بشكل نشيط ودائم، صحيح أن هذه الفرق تتعرض لشروط وضغوط يمارسها الاحتلال ولكنها لا زالت تحافظ على فلسطينيتها.

والسؤال هنا لماذا لم يكتف هؤلاء الممثلون بالعمل في الفرق الفلسطينية واتجهوا لأعمال أخرى إسرائيلية؟

ومن هذا السؤال سأتجه لسؤال آخر ما هو الدافع الذي يجعل أحد الفنانين يعمل في أعمال إسرائيلية؟ ولأفتراض حسن النوايا، يمكن القول بأن هذه المشاركات هي محاولة لإثبات وجودهم أمام الوسط الإسرائيلي كفنانين فلسطينيين على اعتبار أننا في صراع وجود، ولكن إذا كان هذا هو الدافع فقد فشلوا فشلا ذريعاً في تحقيقه لأنهم وبكل بساطة أصبحوا مجرد أدوات في يد احتلال يصدّر من خلالهم روايته للعالم. أما إذا كان الهدف هو التعلم من خبرة وتجربة مخرج وفريق عمل إسرائيلي معين ولنجمِّل الأمر قليلاً فنقول إن هذه الخبرة سيستخدمونها لاحقاً لصالح شعبهم وضد الاحتلال فالأمر يبدو سخيفاً لأنهم بهذه الحالة أيضاً لم يتعدوا كونهم أدوات، وعلى كل من يستخدم هذه الذريعة أن يفكر قبل أن يستخدمها بهذا السؤال، وهو لماذا يكتسب الإسرائيليون هذه المعرفة والخبرات بشكل سهل سريع؟ كيف استطاعوا الحصول عليها ليس فقط في مجال المسرح والدراما بل في مجالات الحياة المختلفة من طب وزراعة وغيرها في الوقت الذي تكون طريق الفلسطيني لتعلم هذه المهارات والعلوم أصعب وأشق؟ ببساطة لأن الاحتلال بممارساته القمعية يحاول بكل الطرق منع الفلسطينيين من الاستفادة من خبرات وتجارب عالمية وحتى عربية، كم مرة تم إلغاء مشاركات فرق فنية عالمية من مهرجان فلسطين الدولي الذي ينظمه مركز الفن الشعبي بسبب عدم قدرتهم على الوصول لرام الله، وإذا نظرنا لمهرجان فلسطين الوطني للمسرح سنرى أن الضيوف العرب الذين كان من المفترض أن يحضروا للمشاركة في فعاليات المهرجان لم يتمكن أحد منهم من الحضور بسبب عرقلة الاحتلال لمجيئهم، مع العلم أن وجود هؤلاء الضيوف كان سيضيف الكثير من المعرفة لكل المسرحيين الذين كانوا في المهرجان سواء كان ذلك من خلال الندوات الفكرية التي كانوا سيقدمونها أو حتى من احتكاكهم بالناس في أيام المهرجان.

ثم لماذا يسمحون لنا كفلسطينيين أن نتعلم من خبرتهم التي يدّعون في مجال المسرح ولا يسمحون لنا بأن نتعلمها منهم في مجال تصنيع السلاح مثلاً؟

الجواب بكل بساطة لأن قدرتنا على تصنيع السلاح ستؤثر عليهم سلباً، أما مشاركتنا في أعمالهم الثقافية والفنية فإنها ستشكل خدمة لروايتهم التي يسعون لترويجها في أنحاء العالم وتخدم أيضاً مقولتهم التي ينشرونها للعالم بأن لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. المقارنة قد تبدو سخيفة في البداية فمن غير المعقول أن يسلح العدو عدوه وأنا أرى أيضاً أنه من غير المنطقي أن يثقف العدو عدوه.  

أقول إننا كفلسطينيين نملك العديد من المخرجين والفنانين المبدعين والأهم وطنيين يمكن العمل معهم في أعمال فلسطينية بحتة وهؤلاء الفنانون الفلسطينيون صادقون أكثر في فنهم لسببين: الأول أنهم لم يتعلموا ما تعلموه بطريق مفروشة بالورود بل عانوا الأمرين ليكونوا ما هم عليه الآن، والثاني وهو الأهم أنهم أصحاب قضية.  

بالعودة للدوافع، فإن الشيء الوحيد الذي لربما نجحوا في تحقيقه هو المقابل الماديّ للمشاركة، فبالتأكيد المشاركة في هذه الأعمال تدر على المشارك بها مبلغاً لا بأس به.

أرى أن هذه المبررات التي يختلقها البعض ما هي إلا إثبات على أننا كفلسطينيين الآن عاجزون حقاً عن المقاومة بالطريقة المناسبة التي نعرفها عز المعرفة وأصبحنا نخوض في التطبيع مع الاحتلال ليس هذا فحسب بل أصبحنا نعامل التطبيع على أنه مقاومة لا يفهمها العامة بل يفهمها المثقفون فقط وأنها ستؤتي أُكُلَها على المدى البعيد.

في النهاية أزعم أنَّني أتحدث بلسان العديد من المسرحيين والمثقفين الفلسطيين الشباب، مطالباً وزارة الثقافة الفلسطينية وإدارات المهرجانات الفنية الفلسطينية التدقيق أكثر بالفنانين المشاركين في تلك المهرجانات ووضعهم تحت المجهر، على اعتبار أنه لا يجوز أن يشارك أشخاص غير وطنيين في مهرجانات وطنية. وكأننا نقول لهم أنْ اذهبوا وشاركوا كما شئتم في أعمال مع أعدائنا تسيء لكم ولنا ثم تعالوا لنكرمكم في مهرجاناتنا. مطالباً أيضاً الفرق المسرحية والفنية الفلسطينية هي الأخرى أن تدقق في هذا الأمر بعد أن تقوم باستبدال كل هؤلاء الممثلين المشاركين في أعمالها.