الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

روسيا والصراع العربي/الفلسطيني ضد الصهيونية بقلم: ناجح شاهين

2019-04-06 12:32:09 PM
روسيا والصراع العربي/الفلسطيني ضد الصهيونية
بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

"لماذا لا يتدخل الاتحاد السوفييتي لردع القوات الإسرائيلية التي تحاصر بيروت؟"

كان ذلك هو السؤال الذي يكرره الكثير من الفلسطينيين سنة 1982 عندما حاصرت قوات شارون منظمة التحرير في بيروت مدة سبعين يوما. كنا نتوهم أن الاتحاد السوفييتي مؤهل للقيام بتلك المهمة، وكنا مثلما يستبطن السؤال، نظن أن الاتحاد السوفييتي في موقع من الصراع يفترض فيه أن يتدخل مباشرة لمحاربة إسرائيل، بل إننا كنا نؤمن أن من "واجبه" أن يفعل ذلك.

لقد كنا إذن على قناعة مفادها أن الاتحاد السوفييتي جزء فعلي من الصراع ضد الصهيونية، وأنه "حتما" معني بهزيمة إسرائيل، وأنه يرغب في أخذ موقعه بين القوى المهتمة بمحاربة إسرائيل، ناهيك عن المسلمة التي لا تحتاج إلى مساءلة، والتي تنص على قدرة الاتحاد السوفييتي المحسومة على مواجهة إسرائيل –وربما معسكر حلفائها- وإلحاق الهزيمة بهم.

كنا معشر الفلسطينيين قد "غسلنا أيدينا" من الدول العربية كلها، بما في ذلك سوريا وليبيا والجزائر والعراق...الخ ناهيك عن مصر التي كانت قد "أنجزت" اتفاقية السلام "كامب ديفد" مع إسرائيل، وبالطبع لا حاجة إلى ذكر السعودية والمغرب والدول الأميرية والملكية التي كنا نعدها دولا "عميلة" للاستعمار ضالعة حتى النهاية في التآمر على شعبنا وثورتنا...الخ. كنا بالطبع نتوهم أننا القوة المؤهلة لتثوير البلاد العربية وإسقاط الأنظمة "الرجعية"...الخ، لكننا في لحظات الشدة كنا نكتشف أننا لسنا في وضع يؤهلنا للدفاع عن أنفسنا في وجه القوة الصهيونية مما يدفعنا إلى الجهة الأخرى لنطالب "حليفنا وصديقنا وشريكنا ومحرر الشعوب...الخ" الاتحاد السوفييتي بأن يتقدم ويحارب معنا، أو بالنيابة عنا، لكي يهزم عدونا، وربما يتقدم أكثر باتجاه تحرير فلسطين كلها، أو جزء منها لنقيم عليه دولتنا الفلسطينية المحلومة.

لسبب ما رغبنا في تجاهل الوقائع الصلبة التي تخص الاتحاد السوفييتي. وأول تلك القواعد أن الاتحاد السوفييتي لم يكن متماهيا مع "الآخلاق إلى نيكوماكوس،" كما أننا نحن العرب والفسطينيين لم نكن نجسد مثال الخير والحق في أبهى تجلياته الأفلاطونية، لا من وجهة نظر الاتحاد السوفييتي ولا غيره، بل إننا لم نكن قادرين على إقناع أنفسنا بأننا نمثل قضية الخير والعدل في المستويات المختلفة.

إذا شرعنا في تصفح حياة الاتحاد السوفييتي، فإننا سنلاحظ بسهولة أنه قد رحب بولادة الدولة الصهيونية على الرغم من التطهير العرقي الذي حل بشعب فلسطين على نطاق مأساوي واسع، كما أنه شجع الأحزاب الشيوعية العربية على الاعتراف بالدولة الصهيوينة، وعلى التعاون مع الشيوعيين الإسرائيليين. هكذا سارع الاتحاد السوفييتي إلى الترحيب بالواقع الجديد بسرعة البرق محاولا "الاستثمار" في الاشتراكية الإسرائيلية التي نظر إليها بمقدار أو بآخر على أنها قد تكون نوعا من النقيض الذي يمكن التعاون معه ضد الدول العربية القروسطية الحليفة لبريطانيا أو التابعة لها، وهو ما كان يشمل فعليا معظم الدول العربية. لم يفكر الاتحاد السوفييتي، مثلما يمكن أن نتوهم، لحظة واحدة في شرعية أو عدم شرعية تأسيس دولة للمهاجرين البيض –بغض النظر عما إذا كانوا يهودا أو مسيحيين أو علمانيين- على أنقاض شعب آخر،أووعلى أرض لا يتمتع فيها هذا الشعب بأية حقوق تاريخية أو سياسية أو إقليمية جغرافية. كان الاتحاد السوفييتي من هذه الناحية ابنا شرعيا أو غير شرعي –على حد تعبير نابليون الأول- للحضارة الأوروبية التي أجازت لنفسها اغتصاب الأراضي في قارات العالم المختلفة وتطهير مواطنيها وتصدير الفائض البشري الأوروبي إليها في حرب استعمارية مهووسة لم يشهد التاريخ أشد دموية وإجراما منها لتتفوق بوضوح تام على أعمال جنكيزخان وهولاكو وسنحاريب ونبوخذ نصر. لقد قام قادة الأشورييين والبابليين الجدد بنقل المجموعات السكانية من مكان إلى آخر بغرض تحقيق الهدوء والطاعة واستكانة الشعوب المقهورة، أما المشروع الأوروبي الأبيض فقد هدف صراحة إلى ابتلاع الأرض وإبادة سكانها على نحو شامل وكامل. وما المشروع الاقتلاعي في فلسطين إلا جزء من هذا السيناريو الذي بدأ مع "الاكتشافات" الجغرافية وتواصل حتى آخر حلقاته الأبرز وهي الحلقة الصهيونية بالذات.

لم يكن الاتحاد السوفييتي "المسلح" بنظرية ماركس وشروح لينين حول الامبريالية وحروبها وميلها للتوسع، عاجزا عن قراءة ما يجري على أرض فلسطين؛ كيف لا وهو الذي فضح أولا ومع اندلاع ثورة "أكتوبر 1917" اتفاقيات التقسيم الاستعمارية المريعة المسماة سايكس/بيكو؟ كان الاتحاد السوفييتي مدركا بداهة أنه في مواجهة مشروع لا يختلف جوهريا عن مشروع استيطان أمريكا وقتل سكانها، ولكنه مع ذلك فكر في أمر آخر هو إمكانية أن يستفيد من التحالف السياسي مع هذا الكيان المغتصب الوليد الذي قد يصبح كيانا اشتراكيا معاديا لبريطانيا وحلفائها من العرب البدو المعادين ب "الفطرة" وغير الفطرة للشيوعية فكرا وممارسة على السواء.

لم يتردد الاتحاد السوفييتي غداة حرب حزيران في تأكيد مواقفه من إسرائيل التي تأسست على هدي اعترافه بها سنة ،1948 وساهم بنشاط في إعداد القرار الذي يطلب منها الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران أو ما يقرب من ذلك.

تفكك الاتحاد السوفييتي مخليا المكان تماما لولادة الدولة الروسية القومية بدون أية رتوش ايديولوجية مخلصة أو غير مخلصة، وبدأت هجرة واسعة بعد فتح الباب على مصراعيه من روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق باتجاه الدولة الصهيونية، ومن المؤكد أن قسما لابأس به من أولئك المهاجرين كانوا روسا أرثوذكس لاشية فيهم.

المهم ان روسيا الخارجة من عباءة الاتحاد السوفييتي قد دخلت في متاهة طوال عهد يلتسين والمافيات، ولم تخرج من ذلك العهد إلا مع وصول بوتين إلى السلطة الذي بدأ بالعمل الجاد على محاولة استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، ولكن مع نزعة روسية قومية قوية بدرجة تلامس حدود الشوفينية.

بدأ إذن مشوار استعادة موقع روسيا الدولي وتوازنها الاقتصادي والسياسي والعسكري، وشهد العقدان الأخيران محاولات محمومة لبناء التحالفات المختلفة، ووصلت محاولات القيادة الروسية استعادة صورتها ووزرنها السابقين ذروتها في سياق تفاعلها الاستراتيجي الحاسم الذي ترافق مع مرحلة "الربيع العربي".

تخلف الموقف الروسي كثيرا عن مواكبة الأحداث في تونس ومصر وليبيا، وهو ما انتهى بكوارث لا لبس فيها للسياسة الروسية في هذه الدول، وكانت الخسارة في ليبيا كارثة سياسية واقتصادية لا تحتاج إلى توضيح أو برهان. لذلك بدا أن موسكو قد أفاقت باستجابة كاملة عندما بدأ المشروع الدولي/الاقليمي للثورة في سوريا. ولا بد أن الدور الروسي الديبلوماسي والسياسي والعسكري قد كان حاسما في حماية سوريا من اية تفويضات "أممية" يقدمها مجلس الأمن بغرض العدوان عيها وتدميرها، مثلما كان أكثر حسما وأهمية في حماية العاصمة دمشق من هجمات "الثوار،" ومن ثم المساهمة الحيوية في تنسيق الهجوم السوري المضاد لاستعادة الأراضي السورية التي كان معظمها قد وقع بالفعل تحت سيطرة منظمات المتمردين التي لا تعد ولا تحصى.

في هذه الأجواء بدأ وهم محلي يتسلل إلى داخل جزء لا بأس به من العرب بمن فيهم أنصار المقاومة ومعكسرها فحواه أن روسيا تشكل جزءاً من محور المقاومة. وقد بلغ هذا التوجه حدا مفرطا وساذجا في بعض الأحيان تمثل رمزيا في حديث محطات مثل "الميادين" عن سقوط شهداء روس في المعركة الفلانية أو العلانية. كان ذلك بالفعل مما يطم الوادي على القرى، على حد تعبير جدنا أبوالوليد ابن رشد.

كان على معكسر المقاومة أن يبتلع الغارات الإسرائيلية على دمشق وغيرها من المدن السورية المرة تلو المرة، على الرغم من علمه أن ذلك إنما يتم بالتنسيق بين الروس الذين يسيطرون على الأجواء السورية وأجهزة الدفاع التي تنتشر على أرض سوريا، وبين الإسرائليين في أعلى المستويات. وكانت روسيا تتظاهر في كل مرة يقع فيها العدوان الإسرائيلي بأنها منزعجة، ثم تطلب تفسيرات إسرائيلية ...الخ ثم تنتهي الأمور على خير.

لكن إعادة رفات الجندي الإسرائيلي المفقود تمثل ضربة علنية موجعة لفكرة وجود روسيا بشكل آو بآخر في حلف المقاومة أو حتى في مستوى من التنسيق الأدنى مع معكسر المقاومة. استفادت إسرائيل من معلومات جاءتها من مخيم اليرموك عن طريق "الثوار" من أصدقائها، لتحدد موقع دفن رفات جنديها المفقود منذ حرب 1982، وقد فشل الأصدقاء "الثوار" في استخراج الرفات فكان أن أبلغت إسرائيل روسيا بإحداثيات الجثة لتقوم القوات الروسية باستخراجها وتسليمها في مراسم رسمية مهيبة وبحضور نتانياهو شخصيا.

هكذا أوضحت روسيا على نحو نهائي لا التباس فيه حدود علاقتها مع معسكر المقاومة ومع إسرائيل وكيف تستطيع أن تتحالف مع سوريا ضد "الإرهاب" الإسلامي مثلما تستطيع في الوقت ذاته أن تحافظ على تحالفها مع إسرائيل ضد "الإرهاب" الإسلامي ذاته، وبدا واضحا أن روسيا تعارض بقوة تامة تدخل أمريكا في سوريا، ولكنها تعترف بالحقوق "المشروعة" لإسرائيل في سوريا بما في ذلك خوفها على أمنها من تهديدات حزب الله وإيران ومن لف لفهما.

ومثلما يتضح من تعاملها الحيادي "البارد" مع الملف الفلسطيني إذ تحاول القيام بدور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبين الفلسطينيين أنفسهم فإنها على الأرجح ليست في وارد خوض أية "مواجهات" ساخنة سياسية أو ديبلوماسية، ناهيك علن العسكرية من أجل أي أمر يتصل بالصراع "العربي/الإسرائيلي" أو "الفلسطيني/الإسرائيلي،" وهو ما يعني أن أحدا لا يجوز أن يسمح لنفسه ببناء أية أوهام تجاه الدور الروسي فيما يتصل بصراعنا القومي ضد الصهيونية. وإذا كان الاتحاد السوفييتي على خلاف ايديولوجي وسياسي، في مرحلة ما على الأقل، مع الصهيوينة بوصفها رأس حربة للرأسمالية الغربية ، فإن روسيا الرأسمالية القومية التي لا تتعاطى الأيديولوجيا لا تجد أي سبب سياسي أو استراتيجي للعداء مع إسرائيل. إسرائيل في النهاية ليست قوة تهدد الدور الروسي في أي مكان في العالم، وليس لدى إسرائيل "مبدئيا" أية أسباب تجعلها تفكر في روسيا بصفتها عدوا استراتيجيا. بالعكس من نواح عديدة تبدو شريحة واسعة جدا من القيادة وقطاع الثقافة والأعمال الإسرائيلية اليوم ذات انتماء روسي واضح، ولا بد أن اللغة الروسية على سبيل المثال هي اللغة الثانية بعد العبرية مباشرة. على معسكر المقاومة وأنصارها أن يدركوا العلاقات العميقة التي تربط روسيا بإسرائيل، والتي تجعل روسيا مؤهلة للقيام بدور الوسيط الذي تخلت عنه أمريكا، أكثر من دور الحليف الذي نرغب فيه بشدة عبر توهمنا أن روسيا هي استمرار لم ينقطع للاتحاد السوفييتي. يجب أن نعد العدة لمواصلة الكفاح ضد المشروع الصهيوني بدون أية أوهام حول وجود أية بيضات روسية في سلتنا، وربما علينا أن نفكر في وجود الكثير من البيض الروسي في السلة الإسرائيلية بالذات.