الجمعة  26 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وبي حزن قديم /بقلم خالد جمعة

2016-08-16 01:47:16 PM
وبي حزن قديم /بقلم خالد جمعة
خالد جمعة
وبي حزنٌ قديمٌ يشبهُ دمعَ النَّدى صباحَ الحصادِ، حينَ يحينُ فراقُ القمحِ، النّدى دمعُ فُراقٍ، وقتما لا نفهمُ الأرضَ كأنثىً حزينةٍ، نخسرُ حريرَ العاطِفةْ، وتهزِمُنا قلَّةُ الأسئلةْ.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، حينَ كَسَرَتْ بنتُ الجارةِ خطَّتي، وذَهَبَتْ إلى موتِها مبكِّرَةً ستّينَ عاماً عن موعِدِها، أَخَذَتْ جدائلَها، ورسائلي المبتدئة، ومِشوارَنا اليوميَّ إلى المدرسة، ونَفَضَتْ أغنياتي عن مريولِها الكحليِّ ورَكَضَتْ مسرِعةً إلى أركيولوجيا الذاكرة، تَجاوَزَتْني قبلَ أن أدخلَ السِّباقْ.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، وبيتُنا يمعِنُ في الذهابِ حجراً حجراً، يسْحَبُ يدَهُ الخضراءَ من يدي الطريَّةِ، ويركبُ حصاناً لم يَكُنْ جميلاً كأحصنةِ الحكاياتِ، لكنّهُ يطيرُ مثلَ ديناصورٍ مُجَلَّلٍ بالرُّعبِ، رأيتُ البيتَ يقصُّ شَعرَهُ نافذةً نافذةْ، يُهدي جُدرانَهُ للعدَم، يصَلِّي طويلاً، من يومِها وهو يُعيدُ الصلاةَ ذاتَها كلَّ فجرْ.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، اخترَعَتْهُ الحياةُ لي، كي أنسى أصدقائي الذين اصطادتْهم خفَّةُ الحياةِ، فاشتروا ألعاباً على شكلِ وطنْ، فأفلَتَتْ آلاتُها في وجوهِهِم، فكُتِبوا على الحيطانِ بطُرُقٍ لا تليقُ بنرجساتِهم القليلةِ والمربّاةِ ببطءٍ على حافّةِ الجنونِ، أطلّوا من دفاتري وملابسي، أطلّوا من لعبتي مع ذكرياتِهم، أطلّوا من الشوارعِ التي ما زالت تحفظُ روائحَهُم الصَّبيَّةَ، أطلّوا من جيوبي في أوقاتٍ لم تلائمني تماماً.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، خَشْخَشَ في شجرِ البرتقالِ كلّما ظنَّتِ الرِّيحُ أنَّ أبي مرَّ حافياً ومضرَّجاً بالزَّهرِ الذي لا يُضاهى، فتبكي كلُّ قلعةٍ بناها في وجهِ الغيبِ، وتنهارُ كنحلةٍ أنهتْ عمَلَها اليوميَّ، تنهارُ كعمودِ دخانٍ أقلَقَهُ الهواءُ المارقُ فجأةً، تنهارُ كخيطِ ماءٍ لا يكفي ليُبَرِّدَ حرارةَ الرّملِ وقتَ الظّهيرةِ، تنهارُ فينهارُ المعنى الذي وضَعتُهُ في الكتابةِ، فتختفي يداي.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، جسدي ينحني، يظنُّ ويُظَنُّ به، يشيخُ في المساءِ وحيداً وفارغاً كصورةِ الهواءِ في الماءِ، يخذلُني النَّهرُ حين يجري ماؤهُ تاركاً صورَتي مكانَها، ولم آلفْ بعدُ هذا الجسَدْ.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، فيما البحرُ واقعٌ بينَ عاطفتين من موجٍ ومِلح، وكلُّ موجةٍ شهيقٌ، وكلُّ زَبَدٍ فائضُ حمّامِهِ اليوميّ، يحاولُ من مليونِ قرنٍ أن يوصِلَ بلاغاً لا يصِلُ، كلُّ مخلوقٍ خارجَ البحرِ مغضوبٌ عليه، وكلُّ من ظنَّ أن البحرَ في مكانِهِ منذُ نشأ، فقد رجَمَ بالغيبْ، هو ينتقلُ، ولا نحسُّ لأنّهُ ينقِلُنا معَهُ مُرتَّبينَ كما كُنّا، يغني كغجريٍّ، كصاعقةٍ تنامُ في بطن الريح، وأنا زائرٌ وحيدٌ، أنا العمرُ وقد تقمّص بلبلاً وناي.

 

وبي حزنٌ قديمٌ، كلَّما مشيتُ له طريقاً، تَقَشَّرَ الطريقُ عن طريقٍ أكثرَ بُعداً وعُلُوَّاً، كذاهبٍ إلى السديمِ بمنطقِ التضاعيفِ التي تحِزُّ الوقتَ والأمكنة، لا وقتَ للألم، لا وقتَ للوقوف، لا وقت للشكوى، قالَ ووجهُهُ محايدٌ: كلُّ ما في الأمرِ أن عليكَ أن تواصلَ السيرَ دونَ أن تنظرَ وراءك لتعرفَ كم قطعتَ، ولا أن تنظرَ أمامَكَ كي تعرف كم تَبَقَّى، فلا أنت قطعتَ شيئاً، ولا تَبَقَّى لكَ شيء.
وبي حزنٌ قديمٌ
أُجَفِّفُهُ، فأجِفُّ