تُقابل إرادة المحو والإبادة دائما برد فعل ماثل في استعصاء النسيان، ليس فقط من قبل من وقع عليهم فعل الإبادة والمحو، بل من قبل أولئك الذين كانوا شهودا فاعلين في محاولة رد فعل الإبادة، والذين يصاحبهم في هذه الشاهدية الصحافيون، والمؤرخون، والأكادميون والعاملون تحديدا في حقلي الدراسات الثقافية ودراسات الذاكرة، والذين يدركون حجم عظم اللحظة الحالية وأهميتها في كتابة التاريخ، وفي تشكيل الهويات الجماعية وترسيخها عبر الزمن، وأيضا في تشكيل سياسات التذكر والنسيان.
وإذ يتزامن إحياء ذكرى النكبة الـ 77 اليوم مع مسار الإبادة الذي ما من أفق بعد لإنتهائه، بل تتعاظم الدلائل على توسعه في الضفة الغربية كي تستكمل عملية النكبة سيرورتها في الحاضر الفلسطيني، فإن عملية التذكر تبقى حية بصيغتها السوية، والتي يأتي في جوهرها عدم الصفح أو الغفران. فالجريمة المرتكبة بحق الفلسطيني، والمستمرة على مدار ثمانية عقود، لتتكثف اليوم بقصديتها العلانية، هي مما يقع في خانة "ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم. وليست الجريمة واقعة هنا على الفلسطيني وحده، بل هي جريمة تصيب مفهوم كل ما هو إنساني بالعطب. وهي، بذلك، تستلزم أن تبقى الذاكرة حادة حية بصيغة "لن ننسى ولن نغفر"، فهذا شعار الضحية وصرختها الذي يلحم الذاكرة بالألم المزمن المستعصي على الشفاء حتى تتحقق العدالة لها.
وليس حقل التذكر والنسيان إلا ميدانا خصبا لامتداد حرب الإبادة التي باتت جزءا من نكبة الفلسطيني التي التصقت به كذاكرة معاشة متضخمة نتيجة التفاصيل الكثيرة والأحداث المأساوية التي تردف بعضها البعض في متوالية لا تتوقف. وهذه المتوالية الحدثية تحتاج إلى جهود محلية وطنية ضخمة لتجميعها من واقعها المباشر، وحفظها، وكي يكون بالإمكان إعادة كتابة تاريخ الفلسطيني بضمير "المتكلم المباد"، وعلى قاعدة أن حدث الإبادة الواقع على الفلسطيني هو حدث تاريخي عالمي شارك "العالم المتمدن" فيه عن سبق إصرار وترصد. فما يحدث من إبادة جماعية ليست مجهولة الفاعل ولا سرية، ومعلومية الفاعل وارتكابه لفعل الإبادة إنما تحدث أمام أعين العالم بأكمله وبدعم مادي، وخطابي، ودبلوماسي، منقطع النظير في الوقاحة.
إن الفلسطيني اليوم مطالب، بمؤسساته المدنية والشعبية والسياسية، بإطلاق حملة توثيق ضخمة تستند إلى الشهادات الفردية لفهم طبيعة القتل الجماعي والتواطؤ الفردي والوطني والعالمي معه. فشاهدية الأفراد الذين يعايشون الإبادة ليست فقط ضرورية في إعادة بناء الحدث لكتابة التاريخ، ولكنها أساسية في تقويض منطق الإبادة الجماعية وحججه السافرة، ومنع تحقق غاياته الماثلة في محو الفلسطيني وثقافته وذاكرته وحضوره من التاريخ. فكل شاهد عيان هو كاتب للتاريخ بضمير المتكلم، (التاريخ بحرف “h” صغير)، كما عاشه من "أسفل"، وذلك كي يكون بالإمكان كتابته وسرده فيصبح تاريخا (بحرف “H” كبير)، أي سردا للأحداث تُرى وتُروى من "فوق".
ولعل الفلسطيني قد تعلم درس كتابة التاريخ جيدا بعد أن عانى من كتابته على يد عدوه، الذي حذفه منه محولا أرضه إلى ملكية "شعب بلا أرض" لأن الأخير امتلك أدوات التدليس والسيطرة على الكتابة التاريخية. فالفلسطيني اليوم بإمكانه أن يدحض مقولة أن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون بأن يسجل ويدون حكايته وحكاية نكبته المستمرة بضمير المتكلم المباد من هنا ومن غزة... فهذي الأرض الطيبة لشعب طيب لا يراوغ ولا يستسلم، لأنه لا ينسى ولا يغفر.