من الصعب اختزال مسيرة القادة العظام بموقف واحد أو مقولة ما تخلد منجزاتهم في الحياة، فصفة القيادة لا تكتسب بالصدفة، ولا هي نتاج قول موفق أو موقف متميز، وإنما هي نتاج حياة حافلة، تتراكم فيها مواقفهم الشجاعة والسباقة لاستشعار طرق الخلاص لشعوب عطشى على الدوام لغد أفضل. لكن لو كان لا بد من العودة إلى واحد من مواقف القادة العظام، فإنه موقف القائد العام للثورة السورية المجيدة ضد الاستعمار الفرنسي، سلطان باشا الأطرش، في انتقامه لدخيله اللبناني أدهم خنجر، عندما فجر أول ثورة سورية استمرت تسعة أشهر قبل قيام الثورة السورية الكبرى بقيادته بثلاث سنوات. ولو كان لا بد من استذكار واحدة من مقولاته التي رسمت طريقاً لسوريا التي ورثناها عنه، فهي حصراً قوله المشهود: "الدين لله والوطن للجميع".
وعلى الرغم من منحه العفو العام من قبل المحتل الفرنسي بعد ثورته الأولى، إلا أن سلطان باشا الأطرش لم يتنازل عن أي من مطالبه الأساسية في جلاء المحتل عن كامل الوطن، وإقامة دولة سورية واحدة وموحدة لكل السوريين دون استثناء. وهو الرجل الذي أبى القبول بأية ميزة أو منصب أو مقابل لما أنجزه بعد الاستقلال وحتى مماته.
للسوريين اليوم حاجة ملحة لاسترجاع حكاية ثورتهم الخالدة، أكثر من أي وقت مضى. فبعدما حققوا ما اعتبر ضرباً من المعجزات حتى الأمس القريب، وأسقطوا نظاماً غاشماً، جثم على صدورهم على مدى عقود طالت، وعمل على تدمير البشر والحجر لا لشئ سوى مزيد من القسوة والطغيان، فإنهم يجدون أنفسهم في مواجهة غول الاقتتال الداخلي، على أساس من الاعتبارات الهجينة والدخلية على مجتمع لطالما تغنى بتنوعه وبفسيفسائه الدينية، والمذهبية والعرقية ومارسها بأبهى حلهلها التي أغنته، وأعلته وأبهرت القاصي والداني.
إن ما حصل من مواجهات مؤلمة ومؤسفة في الآونة الأخيرة بين أبناء الوطن الواحد، خاصةً وأنها أخذت طابعاً طائفياً، سواء في الساحل السوري الجميل أو في محافظة السويداء مهد الثورات، أو في محيط دمشق عروس بلاد الشام، لا يمكن قراءته إلا ضمن المحاولات البائسة والمستميتة لأعدائنا في تمزيق وحدتنا، وتفتيت نسيجنا، إعمالاً لمشروعهم القديم المتجدد ومفضوح النوايا نحو بسط الهيمنة وإخضاعنا كي لا نكون سوى "صفر على الشمال" في المعادلة الإقليمية، فيحقق الأعداء عصرهم ومآربهم الخبيثة في استكمال سيطرتهم على الإنسان والأرض والخيرات.
لهذه القراءة أن تفتح الأعين على حقيقة ما هو حاصل، إذ لا يختلف السوريون، كل السوريين، في احتضانهم لإسقاط النظام البائد على أنه مطلب لطالما اختلجت لأجله القلوب إحقاقاً لكرامة سلبها القهر والقتل والظلم، لكن حرصهم على عدم إضاعة فرصة لم يسبق وأن أحسوا بأنها في منال اليد، فإنها لا شك تتطلب الكثير من الانتماء للتعاضد والتكافل التفافاً حول مشروع متشعب، مركب، معقد ومهوول الحجم، لبناء سوريا الحرية، والكرامة لكل أبنائها دون استثناء أو تمييز وعلى أساس من الشراكة الحقيقية في مقدرات الوطن ومتطلباته وغده المشرق. فهل يمكن لأبناء المجتمع السوري، بكل أطيافه، أن يثبتوا اليوم بأنهم على قدر كاف من المسؤولية، والتضحية، والدراية والحذر للعبور بهذا البلد المعطاء إلى بر الأمان وإعادته إلى مصاف البلدان المستقرة التي تنعم بسلام قار عصي على كل التحديات، فيعود إلى إشعاعه بين بلدان المنطقة والعالم؟
لا بد من الإشادة بالجهود الجبارة التي يبذلها الكثيرون في سوريا، بمن فيهم القيادة الجديدة وقيادات المجتمع من مختلف مكوناته، لاحتواء المواجهات وتهدئة الخواطر وإيجاد أرضية بحدها الأدنى تمكن الجميع من استعادة الثقة البينية والعمل معاً، إلا أن كافة المحاولات المتكررة، على أهميتها وتأثيرها الإيجابي، لا تعدو كونها من قبيل "تبويس الشوارب"، الأمر الذي مهما تجذر في ثقافة المجتمع وعاداته الجميلة فهو، وبكل وضوح، لا يكفي في وجه خطورة اللحظة، وعظم المهمة التي يتحمل كل مواطن ومواطنة سورية المسؤولية المباشرة عنها. وأكبر دليل على عدم كفايتها هو تكرار الأحداث المؤسفة والتجاوزات التي تثقل كاهل الشعب السوري برمته، المنهك أصلاً، بمزيد من الألم والمعاناة.
فبعدما تفعل النوايا الحسنة وتجلياتها التقليدية فعلها في تهدئة النفوس وإيقاف عدائية غريبة على أبناء الوطن الواحد، لا بد للسوريين من الانخراط في عملية مدروسة، تبدأ عند إيقاف خطابات الكراهية والتحريض والتجييش، ولا تنتهي إلا بوضع أسس متينة لمشروع حكم وبناء تشاركي، يشترط فيه عدم الإقصاء وتفعيل الآليات الكفيلة بتمثيل كامل لكل أطياف السوريين في مؤسسات صنع القرار ورسم صيغ المستقبل وترتيباته. كما ويشترط فيه كذلك امتناع كل سوري عن مجرد التفكير الساذج، وغير المسؤول، بأن أيا من القوى الخارجية، وعلى رأسها عدو سوريا الأول، إسرائيل، يضمر خيراً لأي من أبنائها. بذلك يمكن التمهيد لإطلاق عملية مدروسة ترتكز إلى أسس علمية تقوم على بناء المؤسسات، وتفعيل دورها الحافظ للبلد وحقوق أهله على قدم المساواة وبملكية تامة من قبلهم، فذلك وحده الكفيل بتحقيق انتقال سليم، سالم وسلمي، وإكمال ما تم تحقيقه حتى الآن نحو التحرر التام من نير التفرد والديكتاتورية، التي لا تولد سوى القهر، والتأسيس لنمو مستدام، يمر من خلال تصميم وتنفيذ الإصلاحات الجذرية، المؤلمة والصعبة في بعضها، التي عليها تبنى كرامة الوطن والإنسان.