الأربعاء  27 آب 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الدلالات والانعكاسات لإعلان نتنياهو الاعتراف بـ "إبادة الأرمن"

2025-08-27 10:47:31 AM
الدلالات والانعكاسات لإعلان نتنياهو الاعتراف بـ
رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو

الحدث الإسرائيلي

إعلان بنيامين نتنياهو اعترافه بـ"الإبادة الجماعية" الشعب الأرمني ليس مجرد تصريح عابر في سياق دبلوماسي، بل هو حدث ذو دلالات عميقة ومتعددة الأبعاد، تمس التاريخ والسياسة والعلاقات الدولية لإسرائيل. فمنذ عقود طويلة ظلّت الحكومات الإسرائيلية، يمينية ويسارية على حد سواء، تتجنّب الخوض في هذه القضية الحساسة، إما بالصمت أو باستخدام لغة مواربة لا تصل حدّ الاعتراف، وذلك خشية من إغضاب أنقرة أو إفساد العلاقات الإستراتيجية مع أذربيجان، الحليف المهم في مجال الطاقة والسلاح. وبالتالي، فإن خطوة نتنياهو، إذا أُخذت على محمل الجدّ كإعلان رسمي، تمثل تحوّلاً جذرياً في الموقف الإسرائيلي التقليدي.

قد يكون الهدف وراء إعلان نتنياهو هو محاولة لتثبيت إسرائيل كعضو فاعل في المنظومة الدولية التي ترفض إنكار الجرائم الجماعية وتعتبرها خطاً أحمر في التاريخ البشري، في ضوء الاتهامات التي تلاحقها بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وأيضا وراء هذا الاستعراض الأخلاقي تكمن حسابات سياسية ودبلوماسية معقّدة. العلاقة بين إسرائيل وتركيا مرت بتحولات كبرى خلال العقود الأخيرة: من تحالف وثيق في التسعينيات، إلى أزمة حادة بعد أحداث "مرمرة" عام 2010، وصولاً إلى عودة تدريجية للتطبيع في السنوات الأخيرة. أنقرة ترى في أي اعتراف دولي بالإبادة الأرمنية تحدياً مباشراً لشرعيتها التاريخية. ومن هنا فإن اعتراف نتنياهو سيُنظر إليه كصفعة سياسية جديدة من شأنها أن تعيد العلاقات إلى المربع الأول من التوتر وربما القطيعة.

أما أذربيجان، التي ترتبط مع إسرائيل بشراكة إستراتيجية في مجالي الطاقة والسلاح، فهي تعتبر أي تقارب مع الرواية الأرمنية خيانة لمصالحها. فالصراع الأرمني الأذري حول ناغورنو كاراباخ لم يُطوَ تماماً، وما زال يترك ظلالاً على المواقف الإقليمية. الاعتراف الإسرائيلي، إذاً، قد يعرّض واحداً من أهم مصادر النفط والغاز لإسرائيل للاهتزاز، ويضع علامة استفهام حول علاقات استخباراتية وعسكرية حساسة للغاية بين الطرفين.

في المقابل، ثمة مكاسب محتملة لنتنياهو على الساحة الغربية. فالاعتراف بـ"إبادة" الأرمن مطلب قديم للجاليات الأرمنية القوية في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى. كما أنه يحظى بتأييد الكنائس المسيحية الغربية، وخاصة اللوبي الإنجيلي في أميركا الذي يرى في الدفاع عن الأرمن جزءاً من رواية دينية وتاريخية. وبالنسبة لنتنياهو، فإن هذه الخطوة قد تفتح له أبواب دعم سياسي إضافي في الكونغرس وفي أوساط الرأي العام الغربي، خصوصاً في ظل الانتقادات المتزايدة لسياسته في غزة والضفة. بمعنى آخر، هو يراهن على ربح رأسمال رمزي في الغرب، حتى وإن كان الثمن تراجعاً في الشرق.

الاعتراف أيضاً يخدم صورة إسرائيل في المعركة على الشرعية الدولية. فهي كثيراً ما تتهم من قبل خصومها بازدواجية المعايير: ترفع لواء المحرقة حين يتعلق الأمر باليهود، لكنها تغضّ الطرف عن مآسي الآخرين. اليوم، يمكن لنتنياهو أن يقول للعالم إن إسرائيل لا تميز في الموقف من جرائم الإبادة. صحيح أن هذا الطرح يبدو متناقضاً مع ما يحدث على الأرض في غزة حيث ترتكب إسرائيل جرائم حرب، لكن في السياسة الدولية يكفي أحياناً أن تسجّل نقاطاً في لعبة الرموز والاعترافات كي تحسّن موقعك التفاوضي وتجمّل صورتك أمام الرأي العام.

على الصعيد الداخلي، الخطوة تحمل أبعاداً سياسية واضحة. فهي تمنح نتنياهو فرصة لتقديم نفسه كزعيم تاريخي يتخذ قرارات مصيرية، في وقت يعيش فيه أزمة شرعية داخلية بسبب الحرب المستمرة والأزمات السياسية المتلاحقة. الاعتراف بشَـوَاة الأرمن قد يُقدَّم للإسرائيليين كبرهان على أن زعيمهم قادر على صنع لحظة تاريخية تتجاوز الحسابات الصغيرة. لكن هذه القراءة ليست موحدة؛ فهناك أصوات إسرائيلية ستعارض الخطوة معتبرة أنها تضحي بمصالح أمنية حيوية من أجل مكسب دعائي عابر.
الجدل المتوقع في إسرائيل سيكون بين تيار يرى أن المصلحة القومية تقتضي التمسك بالتحالفات مع أنقرة وباكو، وتيار آخر يعتبر أن إسرائيل لا يمكنها أن تستمر في سياسة الإنكار لأن ذلك يتعارض مع جوهر هويتها كدولة قامت بذريعة ارتكاب إبادة جماعية بحق اليهود في ألمانيا.

في المحصلة، اعتراف نتنياهو يعكس حسابات سياسية دقيقة تحاول الموازنة بين خسارة محتملة في الشرق الأوسط ومكسب في الغرب. قد لا يغيّر هذا الاعتراف الواقع الجيوسياسي فوراً، لكنه يضع إسرائيل في موقع جديد على خريطة الذاكرة التاريخية العالمية، ويجعلها طرفاً في معركة رمزية طال أمدها بين إنكار تركي وإصرار أرمني على الاعتراف. وبينما سيحتفل الأرمن وحلفاؤهم بهذه الخطوة باعتبارها نصراً تاريخياً، ستتعامل تركيا معها كاستفزاز وعداء صريح، فيما سيبقى السؤال الأهم: هل وظّف نتنياهو المأساة الأرمنية في سياق معركته السياسية الداخلية والخارجية؟.