الحدث- سوار عبد ربه
في ورقة بحثية حديثة بعنوان "تهويد إسرائيل السري للقدس عبر المهرجانات"، تناول الباحث المتخصص في شؤون القدس، علي إبراهيم، المظاهر التهويدية التي تتخفى خلف فعاليات ثقافية وفنية وغذائية، تُنظم بكثافة خلال فصل الصيف، مستهدفة معالم المدينة التاريخية والأثرية.
وقد نُشرت الورقة بالتزامن مع انطلاق فعاليات مهرجان "القدس العالمي للسينما"، وهو حدث سنوي يُقام في تموز بمدينة القدس المحتلة، وتُعرض فيه أفلام إسرائيلية وأجنبية في مواقع أثرية. هذا العام، أُقيم المهرجان في بركة السلطان، الواقعة قرب الزاوية الجنوبية الغربية لسور المدينة، وشمل محاضرات وورش عمل موجهة للمستوطنين، واختُتم بعرض الفيلم الفائز بجائزة "فولجين".
كما شهدت المدينة بالتزامن مع المهرجان السينمائي، تنظيم مهرجان "أوتو أوخل" للطعام، جنوب شرق سور القدس فوق تلال مطلة على أراضي جبل المكبر وسلوان، واستقطب عشرات الآلاف من المستوطنين بدعم مباشر من بلدية الاحتلال.
ولا يمكن فصل هذه الفعاليات عن سياقات أوسع تتعلق بالمواقع التي تُقام فيها، إذ تمثل مواقع استراتيجية وأثرية في قلب القدس. كما تؤشر هذه الأنشطة إلى توظيف الفن والثقافة كأدوات ناعمة في خدمة المشروع الاستيطاني، بما يُعيد توجيه الحقلين الفني والثقافي ليُسهما في تكريس الرواية الصهيونية وتهويد المدينة.
وفي لقاء خاص مع "صحيفة الحدث"، أوضح الباحث علي إبراهيم أن الاحتلال لا ينظّم هذه المهرجانات والفعاليات بمعزل عن استراتيجيات التهويد المختلفة، بل إنها جزء لا يتجزأ من المشروع الإحلالي الاستعماري الصهيوني، وتشكل أداة فعالة ضمن المخططات الرامية إلى إعادة صياغة هوية المدينة وفرضها بشكل كامل.
وأضاف إبراهيم: "أمام المروحة الواسعة لهذه المهرجانات، وما يتصل بها من جهات داعمة، وحضور استيطاني وسياحي كثيف، فإن الهدف الأساسي الكامن خلفها يتمثل في فرض رواية الاحتلال وتطبيق رؤيته حول المدينة المحتلة، ضمن المخططات الكبرى الهادفة إلى ترسيخ القدس المحتلة كـ "عاصمة أبدية لإسرائيل". ويجري ذلك من خلال تعزيز حضورها كعاصمة للاحتلال على المستويات الثقافية والفنية والرمزية، إلى جانب المستويات الإدارية والسياسية والتنظيمية".
وأشار الباحث، إلى أن استهداف الهوية الفلسطينية والمؤسسات الثقافية الأصيلة في القدس يشكل جزءا أساسيا من نهج الاحتلال، موضحا أن هذه المهرجانات "تستبطن محاولات لطمس الهوية الفلسطينية وإبراز الرواية الإسرائيلية". وأضاف أن سلطات الاحتلال تعيد، من خلال هذه الفعاليات الثقافية والفنية، بناء المشهد الثقافي للقدس المحتلة، لا سيما تلك التي تستقطب السياح والمهتمين بالفنون، حيث تتحول إلى منصات للترويج الفجّ للاحتلال وروايته، من خلال تلميع صورة المدينة أمام السياح والمجتمع الدولي، على أنها مدينة "مفتوحة، حرة، ومتعددة الثقافات"، بينما الواقع الفعلي هو قمع مستمر للهوية الفلسطينية ومحاولة لإقصائها من الفضاء العام.
وتُعد سياسة إقصاء الهوية الفلسطينية من الفضاء العام من خلال استهداف المؤسسات والفعاليات الثقافية، وكذلك الفاعلين في هذا المجال، نهجا قديما متجددا تنتهجه سلطات الاحتلال. غير أن هذه السياسة بلغت ذروتها منذ السابع من تشرين الأول 2023، حيث تكثفت الإجراءات القمعية بشكل غير مسبوق.
ومن بين أبرز هذه الإجراءات، مداهمة عروض أفلام في مركز يبوس الثقافي وإغلاقها، واستهداف المكتبة العلمية في شارع صلاح الدين، واعتقال أصحابها: محمود وعماد وأحمد منى. كما طال الاستهداف مكتبة القدس في خان الزيت داخل البلدة القديمة، التي تُعد من أولى المكتبات التي تم استهدافها، إذ صدر قرار بإغلاقها لمدة شهر، واعتُقل مالكها هشام العكرماوي، بذريعة بيع كتب تُصنفها سلطات الاحتلال على أنها "تحريضية". وفي السياق ذاته، داهمت قوات الاحتلال برج اللقلق المجتمعي قبل ساعات من افتتاح "حديقة مطل البرج"، وجرى اقتياد مديره التنفيذي للتحقيق، ما أدى إلى إلغاء الافتتاح الرسمي.
تشويه متعمد لوظيفة المكان
وفي سياق مواصلة سياسات التهويد الثقافي، لا يقتصر الاحتلال على تنظيم الفعاليات والمهرجانات فحسب، بل يتعمد اختيار مواقع بعينها لتحويلها إلى أدوات دعائية تخدم روايته. ويشير الباحث علي إبراهيم إلى أن هذا التوظيف المكاني ليس عشوائيا، بل يحمل أبعادا رمزية عميقة في معركة السيطرة على هوية القدس.
ويؤكد الباحث أن هناك توظيفا متعمدا للمواقع الأثرية ضمن هذه المهرجانات، بوصفه أحد أشكال الاستيلاء الرمزي على المدينة ومعالمها التاريخية. "فعندما تُستخدم برك السلطان كمسرح لمهرجان سينمائي، أو تُضاء أسوار المسجد الأقصى بعروض ليزر تروي الرواية اليهودية، فإن ما يحدث ليس مجرد استغلال لموقع أثري، بل هو تشويه متعمد لوظيفته، ومحاولة لتزييف تاريخه"، كما يقول إبراهيم.
ويضيف أن حرمان الفلسطيني من الوصول إلى هذه المعالم، أو الاستمرار في استهدافها عبر برامج التهويد، يرسخ شعورا متزايدا بعدم الانتماء إليها، وكأنها لم تعد جزءا من هويته أو ذاكرته الجمعية. وهذا الواقع يخلق نوعا من الانفصال القسري بين الفلسطيني ومدينته ومعالمها التاريخية والدينية، وهو انفصال تعززه مشاريع أسرلة الأماكن الأثرية تحت ذرائع التطوير أو تغيير البنية.
ويرى إبراهيم أن هذا التحوّل يفضي إلى انتقال "الملكية الثقافية" بشكل فعلي من الفلسطينيين إلى سلطات الاحتلال، وهو انتقال يدعمه الواقع الاستيطاني ومشاريع السيطرة الديموغرافية، سواء داخل المواقع الأثرية أو في محيطها.
ويتابع قائلا إن ما يجري لا يقتصر على المهرجانات فقط، بل يتصل بسياق أوسع من محاولات طمس الهوية التاريخية والحضارية للشطر الشرقي من المدينة. "تُغيّر الوظيفة الاجتماعية والثقافية للموقع الأثري، ويُحوّل من فضاء يحمل إرثا دينيا وتراثيا عريقا إلى مساحة مشوّهة مخصصة للترفيه الصاخب، كما يحدث في مهرجان "أوتوفود" في وادي الربابة، أو في مهرجان الخمور الذي يقام داخل مقبرة مأمن الله، في انتهاك صارخ لحرمة الموت".
وعند سؤاله عن استخدام الاحتلال الغطاء الثقافي والفني كوسيلة خفيّة لتهويد المدينة ومعالمها والتأثير في وعي سكانها، أوضح الباحث علي إبراهيم أن سلطات الاحتلال تحوّل الثقافة والفن إلى أدوات ناعمة تُستخدم لتنفيذ مخططاتها، لما لهذه الأدوات من قدرة على التسلّل التدريجي إلى الفضاء العام، دون الحاجة إلى المواجهة المباشرة أو استخدام العنف. وأشار إلى أن هذا النوع من التوظيف يُحقق نتائج فعالة على المدى البعيد، خصوصا حين يُقدَّم تحت عناوين مثل "التنمية" و"التطوير"، في الوقت الذي يُقصى فيه الفلسطينيون إما ميدانيا من المواقع المستهدفة، أو عبر استبعاد اعتراضاتهم من المشهد العام.
وأضاف إبراهيم أن الاحتلال يدرك تماما أن الصراع على القدس لا يقتصر على الأرض، بل يمتد إلى الذاكرة والتاريخ والرواية. ومن هذا المنطلق، يأتي الإصرار الإسرائيلي على تنظيم فعاليات ثقافية واسعة النطاق في شطري المدينة، كجزء من مسعى للسيطرة على السردية الثقافية وترويج صورة مزيّفة عن المدينة. "تسوق أذرع الاحتلال هذه المهرجانات دوليا على أنها تجسيد للحرية والتنوع الثقافي"، يقول إبراهيم، "بينما هي في جوهرها أدوات للسيطرة وإعادة تصدير السردية الاستعمارية، وبناء مشروعها على أنقاض الرواية الفلسطينية الأصلية".
مخاطر تحوّل المهرجانات إلى أدوات للتطبيع الثقافي
يشكل الدفع نحو التطبيع جزءا أصيلا من المشروع الاستيطاني في القدس، رغم ما يرافقه من سياسات طاردة تمارسها سلطات الاحتلال بحق الفلسطينيين في مختلف جوانب حياتهم. تدرك المنظومة الاستعمارية أن التحول الديمغرافي حتى وإن تم عبر التهجير، وهدم المنازل، وإحلال المستوطنين مكان السكان الأصليين، لن ينجح وحده في تفريغ المدينة من أهلها. لذلك، تعتمد على سياسات موازية تسعى إلى فرض وقائع تطبيعية، عبر اختراق الوعي الفلسطيني، وإعادة تشكيل علاقته بمدينته، بما يخدم مشروع الهيمنة الشاملة على الأرض والإنسان والسردية التاريخية للقدس.
وحول هذا، أوضح الباحث علي إبراهيم في لقائه مع "صحيفة الحدث" أن "أذرع الاحتلال تسعى لجعل هذه المهرجانات محطات للتطبيع الثقافي، سواء بشكل معلن أو غير معلن. ففي جانبها المعلن، تحاول إقامة مهرجانات "مشتركة" مثل مهرجان "شيش بيش" التطبيعي، الذي تنظمه بلدية الاحتلال في القدس، وتدعو فيه الفلسطينيين والمستوطنين للعب معا تحت شعارات "التقارب" و"التعايش". غير أن الواقع يظل احتلالا وتمييزا، ما يجعل أي استجابة فلسطينية لهذه الفعاليات جزءا من دائرة التطبيع مع الاحتلال".
وأضاف إبراهيم أن تكرار هذه الفعاليات سنويا يعكس محاولة سلطات الاحتلال دفع الفلسطينيين لتقبلها تدريجيا، حتى تتحول إلى جزء من "حياة المدينة". ويتطور الأمر لاحقا إلى دفع الفلسطينيين للمشاركة الفعلية فيها، بدءا من المستويات الاقتصادية والتنظيمية، مثل مشاركة العمال الفلسطينيين كباعة أو منظمين. ويستغل الاحتلال هنا حاجة الفلسطينيين للعمل كوسيلة لترسيخ التطبيع الكامل.
وعند سؤاله عن مدى مشاركة الفلسطينيين في هذه الفعاليات، سواء من حيث الحضور الجماهيري أو إشراكهم من قبل الجهات الداعمة والمنظمة أكد الباحث علي إبراهيم أن الفلسطينيين يرفضون المشاركة في هذه الفعاليات، وأنه "حتى اللحظة لم تستطع أذرع الاحتلال اختراق المجتمع الفلسطيني من خلال هذه الأدوات، فالحضور الفلسطيني الجماهيري في هذه المهرجانات محدود جدا، إن لم يكن منعدما، ففي القلب منه يتمسك الفلسطينيون في المقاومة الشعبية في وجه آلة الاحتلال، إلى جانب التفاوت الكبير في المعالجة الثقافية، والتفاعل مع المشهد، فالخطاب الإسرائيلي الاستعماري، لا يستطيع مخاطبة الفلسطيني، في مقابل قدرته على مخاطبة الغرب من خلال أدوات ومفاهيم مشتركة، إضافة إلى الاستعلاء والهيمنة الإسرائيلية، التي راكمتها سنوات طويلة من سياسات التمييز والمنع والإقصاء".
التهويد الثقافي وانعكاساته على وعي الفلسطينيين
يُعدّ التهويد الثقافي، أو التهويد عبر أدوات الثقافة والفنون، من الجوانب التي لا تحظى باهتمام كاف عند تناول سياسات الاحتلال في القدس، رغم أنه لا يقل أهمية عن أي من أشكال التهويد الأخرى، كالتهويد الجغرافي أو الديموغرافي. وفي هذا السياق، يصف الباحث علي إبراهيم التهويد الثقافي بأنه "أحد أنماط التهويد الخفية"، لما يتسم به من أدوات ناعمة وفاعلية بعيدة المدى.
ويشير إبراهيم إلى أن من أبرز آثار هذا النوع من التهويد؛ "محاولة إضعاف الارتباط النفسي والتاريخي للشعب الفلسطيني بمدينته المباركة، وتعزيز الحضور الاستيطاني في الأحياء العربية من خلال جذب آلاف المستوطنين إلى فعاليات تُقام في قلب البلدة القديمة وسلوان ووادي الربابة، إلى جانب طمس الهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية للمدينة، واستبدالها بسردية تهويدية تُعيد تموضع اليهود كـ "أصحاب الأرض الحقيقيين" وتختزل تاريخ القدس في بعد ديني يهودي أحادي".
ويردف: "يسعى الاحتلال عبر هذا المسار أيضا إلى إنتاج جيل فلسطيني ناشئ، يرى القدس كمدينة إسرائيلية من حيث الفنون والموسيقى والمهرجانات والأعياد، وهو ما يشكل خطرا عميقا على الوعي الجمعي والهوية الثقافية الفلسطينية".