ما زال الفلسطينيون حتى اليوم يحاولون إثبات جدارتهم: جدارتهم في حكم أنفسهم، وجدارتهم في أن يكون لهم دولة، وجدارتهم بالاعتراف بهم كشعب. وهي قضية نقاش لم تتوقف منذ أن كان أفراد الصهيونية الأوائل يتسللون إلى فلسطين، ويُثبتون جدارتهم باتجاه التحكم في الأرض والسيطرة عليها، ووضع استراتيجيات عمل استعمارية تثبت كفاءتهم، في حين يمارسون عملية إفراغ وتعطيل دائمة لكل ما من شأنه أن يُثبت أن الفلسطيني كفؤ وجدير بأن يدير شؤنه. وهي مسألة مرتبطة أساسا بالإرث الاستعماري ككل، حيث دائما ما كان على الشعوب الأصلانية أن تحاول جاهدة، وباستمامة إثبات كفاءتها ومقدرتها على استيعاب أطر وأدوات، بل ومعايير، وقيم المستعمِر. وقد تأتى ذلك وأساسا من خلال فرض قيمة "التفوق" ومقياس "التفاضل" بين الشعوب، بحيث يُتاح للمستعمر نتيجة هذا التفوق والأفضلية التفويض الملزم بالحكم.
النموذج الاستعماري، الذي ما زال مستمرا في نهجه إلى اليوم، يحاول تجديد نفسه واختبارها في آن. فبينما يجري فرض نموذج حكم جديد في غزة، فإنه من الصعوبة بمكان فهم شكله رغم كل التصريحات والرسومات والشروحات التوضيحية المصاحبة، وإن ادعينا فهمها
عموما، كان ذلك هو النموذج الاستعماري، والذي ما زال مستمرا في نهجه إلى اليوم، لكنه يحاول تجديد نفسه واختبارها في آن. فبينما يجري فرض نموذج حكم جديد في غزة، فإنه من الصعوبة بمكان فهم شكله رغم كل التصريحات والرسومات والشروحات التوضيحية المصاحبة، وإن ادعينا فهمها. فما بين الإدارة العسكرية في مستوطنة "كريات غات"، والإدارة المدنية في العريش، وحكومة التكنوقراط الفلسطينية في قطاع غزة، ومحاولة السلطة الفلسطينية في الضفة حشر نفسها داخل هذا النموذج، واستمرار التقارير الاستخباراتية في خلق علاقة صلاحيات ومسؤوليات ومتابعة ما بين هذه الأذرع، فإنه ما من بنية سياسية واضحة. فهي متراكبة، ومتداخلة، بحيث لا يعرف فيها شكل الحكم عموما، فهو نموذج جديد كليا، لا يشبه الانتداب، أو الوصاية، أو الحماية، أو الاستعمار المباشر، إنه خلطة مما ذكر. ولعله أقرب إلى أن تكون فيه غزة مختبرا لتجريب هذا النموذج الهجين من الأشكال المختلفة للاستعمار في اشتغالها مع بعضها البعض.
وإذا ما كان يعكس هذا النموذج المرتبك والضبابي حقيقة ما، فهي حقيقة الفلسطيني عموما، والغزي خصوصا، الذي دفع بهذه العقلية الاستعمارية أن تضرب رأسها في الحائط وترجه كثيرا حتى تتفتق عن هذا المقترح. فهذا المختبر الجيوسياسي في غزة، بصيغه غير المعهودة أو المسبوقة في السيطرة، ليس برهانا على براعة العقل الاستعماري بقدر ما هو دليل إثبات، وشهادة قوية على فشل السيطرة على الفلسطيني، بل هو استشراف قبلي وبعدي في فشل التعامل مع الجدارة الفلسطينية في الصمود، والتي دفعت، وعلى الدوام، بالعقل الاستعماري إلى نقطة الأزمة.
وإذا ما كان يعكس هذا النموذج المرتبك والضبابي حقيقة ما، فهي حقيقة الفلسطيني عموما، والغزي خصوصا، الذي دفع بهذه العقلية الاستعمارية أن تضرب رأسها في الحائط وترجه كثيرا حتى تتفتق عن هذا المقترح
فهو نموذج يعكس حالة من العجز أمام شعب يرفض أن يهزم أو يدار بشكل سهل، حيث لم تنفع معه كل أشكال الضبط والسيطرة، فهو دائما ما يحاول الفكاك منها. وهو إن ارتضاها إلى حين، إلا أنه ما يلبث أن ينفضها ويقوضها على رأسه ورؤوس الآخرين. واليوم، ما زال الفلسطينيون يحاولون استيعاب ما حدث على مدار عامين كاملين مورست فيها الإبادة الممنهجة، في مسعى لتخطيها. وما السماح بتطبيق هذا النموذج الغريب من الإدارات والمسؤوليات في غزة، إلا فرصة لالتقاط الأنفاس، فلو سئل الغزي عن الشيطان ليحكمه، بعد الجحيم الذي ذاقه، لوافق، لكنها موافقة تكتيكية بالأساس، حتى يعيد لملمة شتات روحه.
ذلك هو مكمن الجدارة الفلسطينية الأول والأخير المستمد من الإصرار على إبطال أي مفعول أو نموذج سيطرة يُفرض عليه، في إطار يعكس أسمى درجات الوعي بمعنى النضال وأفقه الزمنية طويلة الأمد. و لا يفهم قبوله لأي نموذج إدارة، أو هدنة، أو ترتيب إداري، أو كفاءة بيروقراطية، إلا ضمن مسيرة طويلة قائمة على إرادة تحرر مطلقة، ستجعل من هذا "المختبر" مجرد محطة عابرة في تاريخ شعب يرى جدارته في صموده وفي استحقاقه حريته.
