ادعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه أنهى 7 حروب، واصفاً نفسه بأنه صانع سلام عالمي حقيقي يستحق جائزة نوبل، متلهفاً للحصول عليها، يسعى لها دون أن تسعى إليه، وقد فرّت من قبضته هذا العام إلى شخصية أخرى مشكوك أيضاً بأحقّيتها للجائزة فهي ليست صاحبة أهلية وجدارة أو أفضلية في الحصول عليها، وقد سخرت وسائل إعلام -بعد خرق إسرائيل الفظيع لوقف إطلاق النار في 28 /10 – من الوصف الأميركي الاسرائيلي أنه رد على مقتل جندي إسرائيلي، وأنه حفاظ على وقف إطلاق النار بإطلاق النار، على نمط عبارة ترامب التي تقول فرض السلام بالقوة المسلحة، منطق أعوج يشير إلى حالة دموية في المنطقة بعيدة جداً عن مسار سلام حقيقي، حالة تستدعي موقف الفيتنامي «لي دوك ثو» الفائز بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر، في رفض استلام الجائزة لعدم التوصل لسلام في فيتنام. لقد تم التوقيع على اتفاق شرم الشيخ الذي بموجبه بدأت المرحلة الأولى من «وقف إطلاق النار» ولم يتوقف!! إذ أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار لكنها تطلق النار، ومنذ ذلك الوقت قتلت إسرائيل نحو 210 فلسطينياً 70% منهم نساء وأطفال، ولا تصمت انفجارات القنابل وتدعي أنها قصفت مواقع لحركة حماس.
من متطلبات الترشيح والفوز، ومعايير احتساب رجل السلام، أنه لا يمكن أن يكون رجل سلام في منطقة، ويدعو للقتل في منطقة أخرى، يدعم مجرم الحرب فيها. جائزة السلام ينالها من قدّم أقصى جهد لتعزيز الإخاء بين الأمم جميعها دون تمييز، غير متحيز لطرف نزاع على آخر، لا يساهم في دعم جيش يقتل ويدمر لأجل القتل ولا يزوده بأحدث آلات القتل والدمار، يقيم مؤتمرات السلام ولا يقاطعها ويعاديها ويشكك بها، ولا يتوعد المؤسسات والمحاكم الدولية بالعقوبات لاتخاذها قرارات قضائية صائبة تبغي العدالة وإنصاف الشعوب المظلومة. وما ينقص ترامب لنيل الجائزة ليس منصة تواصل ووسائل إعلام تنقل له تصريحاته من منبره على طائرة الرئاسة، تروّج له كصاحب تفكير ابداعي من خارج الصندوق، وتلمعه على أنه رجل سلام، بدل «تروث سوشال Truth Social» يحتاج إلى معهد أبحاث، يبحث في قضايا الحروب والسلام ويطرح أسئلة جريئة، لا تقف عند حدود المعرفة وفهم معنى السلام، بل أيضاً يوظفهما في نشر السلام والإخاء وإعلاء قيم الإنسانية. وإلا لتختلق جائزة فخرية خاصة تقدم لترامب لأجل عيون أميركا حتى لا يقال إن عدم حصوله عليها هو إهانة للولايات المتحدة، وليس لشخصه الذي يخالف المعايير، لا يمكن للشخص أن يرشح نفسه، بل يجب أن يتم ترشيحه من قبل شخص مؤهل ممن حددتهم مؤسسة نوبل، وقد أشار إلى أحقيته خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي، وأنه أنهى 7 حروب لا تنتهي.
كثرة مناطق النزاعات التي وضع ترامب أصابعه السحرية العشرة فيها ليصنع سلامها معتقداً أن مجرد توقيع من أنامله يطيع السلام بنانه ويعم الأكوان، كثرتها مع سطحيتها ليست شرطاً في نيل الجائزة، بل هو عمق الانجاز لطالما كانت لجان نوبل حذرة، حيث تكافئ هذه الجوائز الأعمال التي صمدت أمام تدقيق الزمن، من خلال تأخير جائزة نوبل بين الاكتشاف والاعتراف به، لضمان ألا يكون العمل الفائز مجرد اتجاه عابر، بل أن يكون إنجازاً حقيقياً نضجت آثاره العملية، تم التثبت من أثره، وظهرت النتائج واضحة جلية من خلال إسهامات وأعمال المرشح.
المفاجأة يوم الأحد 26 تشرين أول/ أكتوبر، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، بعد أن هنأ قادة تايلاند وكمبوديا على إيقاف الحرب وتعزيز مسار السلام والازدهار، مؤكداً نجاحه في إنهاء الصراع بين البلدين، والذي أسفر عن مقتل العشرات ونزوح مئات آلاف السكان، قائلاً: «أنهينا الحرب الثامنة في عهد إدارتي». وكان ترامب قد استخدم التهديد بفرض رسوم جمركية مرتفعة على كلا البلدين، كوسيلة ضغط لدفعهما إلى الموافقة على إنهاء القتال، في إطار سعيه للفوز بجائزة نوبل للسلام التي خسرها هذا العام، ويطمح لنيلها في العام القادم.
لا يمكن نكران أن ترامب لعب دوراً في تهدئة بعض النزاعات، لكن وُصفت معظم الاتفاقات بأنها هشة وغير مكتملة، كما أن بعض النزاعات لم تكن حروباً أصلاً، وبعض الحالات التي ادعى النجاح فيها ما كانت حالة حرب فعلية، وليست حروباً لا تنتهي كما وصفها ترامب، وهنا ينبغي التمييز بين تلك الحروب الثمانية من ناحية إشكالياتها العويصة، وأسبابها العميقة، وتداعياتها الإقليمية، وأبعادها الدولية. كما ينبغي التمييز بين وقف الحرب بشكل مؤقت وتحقيق السلام الدائم، بوصفه سلاماً عادلاً منصفاً، وليس مصطنعاً تحت الضغط بما يسميه ترامب سلام القوة يُفرض بالتهديد بفتح أبواب الجحيم، ودون إعطاء الضوء الأخضر لانتقام إسرائيلي دون وجود هدف سياسي يخدم السلام غير القتل والتخريب.
نزاعات سبعة أو ثمانية حتى الآن قابلة للزيادة تلك التي وضع ترامب أصابعه فيها وكانت النتائج «مذهلة»، النجاحات السبع الأخرى التي تنسب إلى ترامب في وقف الحروب فهي: بين إسرائيل وإيران، الهند وباكستان، أرمينيا وأذربيجان، الكونغو ورواندا، مصر وإثيوبيا، وصربيا وكوسوفو. وأكثر ما أذهلنا مساع السلام في فلسطين منذ القمة التي استضافتها مصر وشارك فيها قادة أكثر من عشرين دولة، حيث تشير يوميات العدوان إلى أحداث دامية وقصف على مدار الساعة وصل إلى 150 غارة على مواقع مدنية آهلة بالسكان في يوم واحد.
ماذا لو أن ألفرد نوبل قد قال اختراع الديناميت يسهم في صنع السلام من خلال قوة تفجيره التي تقتل 35 طفلاً خلال 24 ساعة، وأن مقتل هؤلاء ضرورة للسلام المنشود، وقد نصت وصية نوبل على أن تُمنح الجوائز لمن يحققون أكبر منفعة للبشرية، وخاصة في مجال السلام حيث رجل السلام يحمل قيماً ومبادئ إنسانية، غير متحيز لجهة دون وجه حق، فالتحيز ينافي السلام، وكل مجريات المباحثات والمفاوضات والأحداث التي رعاها ترامب تحط من قيمة الإنسان الفلسطيني والأسير الفلسطيني حتى جثمان الفلسطيني، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل إسرائيلي وأسير إسرائيلي وجثمان إسرائيلي. هناك مواصفات لمرشح الجائزة أهم بكثير من كونه رئيس أقوى دولة في العالم. وهناك فارق بين أنهاء الحرب (وضع نهاية لها، أي أقصى ما يمكن أن يبلغه الصراع) ووقف الحرب (منع استمرارها إلى أمد قد يطول أو يقصر لكن بلا وضع نهاية لها)، إبقاء الاحتلال لا يستوي مع تحقيق السلام وإن عُقدت هدنة. السلام الحاضر -بمعنى وقف إطلاق النار- ينبغي أن يهيئ لسلام مستقبلي، يجب أن يفتح الآفاق لمبادرات تدفع حدود السلام الى مبتغاه ويؤدي بالحرب إلى منتهاها ولا رجعة إليها.
تقييم عملية سلام، يطال الوسائل والأدوات والأهداف، الوسائل السلمية الخالصة تخدم السلام، والأهداف والنوايا الحسنة تصب مباشرة في إحلال السلام، سلام القوة بما يؤدي إلى قتل البشر لا يصنع السلام المشرف، وآلية تحقيق السلام يجب أن تكون سلمية، لا يمكن فرض السلام بإعطاء الضوء الأخضر للقصف والقتل هنا وهناك، في يومي 28 و29/ تشرين الأول 2025، ضوء أخضر أميركي -من حق إسرائيل الرد، دون البحث في الحادثة التي جرت في منطقة يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي- يُسمح لنتنياهو بقتل أكثر من 100 مدنياً في غزة منهم 35 طفلاً، و10 نساء وعبر وسائل الإعلام أعلن ترامب عن حق إسرائيل في الرد، وجاء الرد بقصف بيوت وخيام الآمنين.
نريد أن يكون ترامب بطل سلام حقيقي، ينجز طموحه في منطقتنا ذات النزاع المزمن، وشهدت أطول صراع وأعقده، ونتمنى أن ينجح في مساعيه في منطقتنا، وفي كل أنحاء المعمورة، في ذلك مصلحة لنا، لكن يشكك كثيرون بصورة ترامب كبطل سلام، أو أنه قد حقق إنجازات مهمة في حل الصراعات العنيفة، والتي عجزت عنها الأمم المتحدة، وأثارت انتقاداته المتكررة للأمم المتحدة التي وصفها بأنها «تكتب رسائل قوية فقط ولا تفعل شيئا»، ونحن ننتظر أن يفعل ترامب شيئاً مهماً، وإلا سيكون منحه جائزة نوبل إهانة للجائزة.
