الثلاثاء  14 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"أين تكمن إجابة أَسئلة الرَّاهن الصَّعبة؟!" بقلم: رائد دحبور

2018-01-08 07:24:20 PM
رائد دحبور

"الماضي أبو الحاضر وجدُّ المستقبل"، كما يقول المثل الإنجليزي، وبما أنَّ هذا مثلٌ إنجليزي؛ فإنَّنا مدعوون نحن الفلسطينيين تحديدًا لمناقشة دلالاته، وإلى ضرورة ربط الرَّاهن ومؤدَّياته بجذوره المنهجيَّة الماضَوِيِّة بعيدًا عن الإمعان في استمرار ممارسة ثقافة الإنكار.. إنكار المسؤوليَّة عن الأخطاء، وإنكار جهلنا باستمرار تأثير أخطاء الماضي الجذريَّة لجهة تشكيل الوعي الجمعي وسياقات الرَّاهن ومساقات المستقبل، واستمرار إنكار واقع انقسامنا على أنفسِنا وتناقضات ذاتنا الوطنيَّة وافتراقنا على مفترقات الخيارات والمسارات المتشعبة حدَّ التَّناحُر أحيانًا؛ برغم وضوح عناوين الصِّراع، ووضوح معالم الطَّريق، وقبل كل ذلك تجاهل أهميَّة الإمكانيَّة التي كانت متاحة على الدوام لتلمُّس جذور القضيَّة والإمساك بها، وتتبع سياقاتها الأساسيَّة وتفرُّعاتها.

 

نعم، نحن مدعوون إلى التَّذاكُر في ماضينا وأخطائه وتحديد خطأ خياراته، وليس الاستمرار في محاولات التَّذاكي تجاه ماضينا المتكرر، وإنْ بصيَغٍ راهنة مختلفة من حيث الشكل ومتناظرة من حيث المضمون. ونحن مدعوون كذلك إلى التَّذاكر والتَّمَعُّن في عاداتِنا السياسيَّة المكرورة حد التطابق، وذات الصِّلة بماضي حيرتنا في تعريف السياسات الإنجليزيَّة التي وَسَمَتْ جلودنا بعلاماتها الغائرة وطبيعة التعاطي معها هذا أوَّلاً، وبماضٍ وراهن عدم اليقين في تعريفنا للسياسات الأمريكيَّة وطبيعة تعاطينا معها منذ عقودٍ مضت ثانيًا.

 

ليس صحيحًا، على سبيل المثال، الاعتقاد أنَّ النَّكبة بدأتْ عام 1948 فهذا التاريخ كان أحد مناسبات ومحطَّات النكبة الأكثر إيلامًا وفجيعة فحسب، لكن التاريخ الفعلي للنكبة بدأ عام 1920، وهو تاريخ إمضاء صك الانتداب الإنجليزي على فلسطين، وتعيين هربرت صموئيل مندوبًا ساميًا على فلسطين واستفادته من تفعيل قانون تمليك الأراضي العثماني لتسهيل انتقال ملكيَّة الأراضي إلى الوكالة اليهوديَّة بزعامة دافيد بن غوريون، وعجز الحركة القومية الفلسطينيَّة بكل مكوِّناتها عن مواجهة سياساته عوضًا عن القصور عن فهمها مبكِّرًا لصالح الانشغال بالتنافس على زعامة المجتمع الفلسطيني والإغراق في الخلافات البينيَّة.

 

وليس صحيحًا أنَّ  الشخصية الوطنية الفلسطينية قد انبثقت بصورة استثنائية وجنينيَّة، ولا علاقة لها بكل كوارث أخطاء الماضي، عام 1968، وهو تاريخ انضمام فصائل المقاومة الفلسطينية لكيان منظمة التحرير التي أنشأتها الجامعة العربيَّة عام 64، وكأنَّها شخصيَّة جاءَت مُنْبَتَّة تمامًا عن صلتها بالشخصيَّة الأصليَّة الأم؛ فهذه كانت مناسبة ومحطة من محطَّات نمو تلك الشخصيَّة وعلامة فارقة من علاماتها الزَّمنيَّة فحسب؛ لأنَّ ذلك النمو والتطور كان ذا صلة بماضي تلك الشخصية وعاداتها العميقة المُتَأَصِّلة، فتلك الشَّخصيَّة كانت قد بدأتْ تتشكَّل جنينيًّا منذ نهايات القرن التاسع عشر، واستمرَّت في النمو بكلّ ما حملته من اتِّجاهات سيكولوجيَّة  -على ضوء علم تحليل نفس الهوية الجماعيَّة– وما اكتسبته من عادات اجتماعية وسياسية إنْ صحَّ التعبير، وقد كان ذلك الانبثاق المبكر قد بدأ تحديدًا منذ عام 1834، وهو تاريخ التَّمرُّد على الحكم المصري بقيادة أعيان العائلات الإقطاعيَّة المرتبطة بإسطنبول آنذاك، وقد أسهم ذلك التَّمرُّد في عودة الحكم العثماني بمساعدة الكولونياليَّة الأوروبيَّة عمومًا، والإنجليزيَّة منها تحديدًا، وما رافق ذلك من قدوم قناصل الدول الأوروبيَّة، ومعهم البعثات التبشيريَّة ذات المضامين السياسيَّة والثقافيَّة، وصولاً إلى مرحلة الاجتياح الكلونيالي الإنجليزي الشَّامل للمنطقة ابتداءً من خليج عُمان وحتَّى مصر، والَّذي تُوِّجَ بإسقاط دولة محمد علي، واحتلال مصر من قبل إنجلترا عام 1882، وهو بالمناسبة تاريخ بداية ما يُسمَّى بالهجرة اليهوديَّة الأولى إلى فلسطين وبداية مشاريع الاستيطان الصهيوني الزِّراعي فيها تحت عين السلطان العثماني، مُتزامِنًا ذلك مع اكتمال الاجتياح الكُلونيالي الإنجليزي الشَّامل للمنطقة.

فمع نهاية الحرب العالميَّة الأولى وإمضاءِ صك الانتداب الإنجليزي على فلسطين، كانت هناك أرضية لنشوءِ شبكة العلاقات الرَّسمية بين أعيان العائلات في القدس، تلك العائلات التي كانت منقسمة على نفسها والمتنافسة فيما بينها، وبين المندوب السامي الإنجليزي من جهة في مواجهة أعيان العائلات والأحزاب السياسيَّة في نابلس والنخب الثقافيَّة والأحزاب في يافا ومدن الساحل من جهة أخرى في بيئةٍ من عدم الانسجام بين المجتمعات الرِّيفيَّة والمدنيَّة في البلاد وتوزُّع ولاءِ الفلَّاحين بين مدن الدَّاخل ومدن السَّاحل، وكان ذلك مناسَبَةً لإنشاءِ المجلس الإسلامي الأعلى مطلع العشرينيَّات تحت رعاية المندوب السامي الإنجليزي هربرت صموئيل –تقلَّد رئاسته فيما بعد الحاج أمين الحسيني– الذي سيصبح فيما بعد من أبرز من قادَ الحركة الفلسطينيَّة في مواجهة السياسات البريطانيَّة والحركة الصهيونيَّة، لكن على أساسٍ مرتبك يخلط بين مقتضيات العلاقة بالحكم البريطاني من حيث الضرورة، وبين مواجهة سياساته المؤازرة والرعاية البريطانية لتوجهات ومخططات الحركة الصهيونيَّة من جهةٍ أخرى، وربما كان ذلك النوع من الخلط الذي استمر حتَّى عام 1936 في تلك المرحلة على الأقل هو ما سيُميَّزُ فيما بعد السلوك الفلسطيني في محطَّات الصراع المختلفة، ويطبع سيكولوجيَّته الانفعاليَّة ومنهجيَّته المرتبكة تجاه العناصر والقوى الأساسيَّة الدولية والإقليميَّة التي كانت وما زالت تُؤثِّرُ وتتحكم بإيقاعات ووقائع قضية الشعب العربي الفلسطيني. وكان كل ذلك مناسبةً إنجليزيَّة أيضًا للَّعِبِ على الطَّائفيَّة الإسلاميَّة المسيحيَّة في البلاد مع بداية تشكُّل الجمعيات التي حملت أسماءً وعناوين تعبر عن هويَّتها الطَّائفيَّة.

 

في ذلك المناخ انطلقت الحركة القوميَّة الفلسطينيَّة، وقد كانت في مطلع العشرينيَّات من القرن الماضي جزءًا من أحلام الدولة العربيَّة المستقلَّة في سوريا الكبرى ومرتبطة بها، قبل أنْ تنكمش لتصبح أكثر قطريَّة مع فشل تجربة حكم الأمير فيصل في سوريا بالاتفاق بين بريطانيا وفرنسا، فقد ضحَّتْ بريطانيا بنفوذها في سوريا ولبنان لصالح فرنسا لقاءَ ألا تقوم فيهما إضافة إلى فلسطين دولة عربية موحدة مستقلِّة، حتَّى وإنْ تحالفت معها وعوّضَتْ فيصل في العراق قبل أنْ تقوم بتحجيم كل تطلُّعاته نحو دولة عربية موحدة –  وطيلة المرحلة الممتدة من مطلع العشرينيات وحتَّى أواسط الثلاثينيَّات أحجمت قيادات الحركة الوطنية الفلسطينيَّة عن حسم خيارها في مواجهة بريطانيا بشكلٍ مباشر، وهي التي وفّرَتْ الأرضيَّة للحركة الصهيونيَّة للوصول إلى أهدافها؛ وذلك لصالح تركيزها على مواجهة الصهيونيَّة فحسب، ولصالح احتفاظها بعلاقاتٍ متوازنة مع حكومة الانتداب، ولعلَّ فشل تجربة حزب الاستقلال الذي تأسس مع مطلع عقد الثلاثينيَّات، ثمَّ تلاشيه في نهاية ذلك العقد وإخفاق حركات الشبيبة في نابلس والمدن الساحليَّة في تلك المرحلة في توجيه وعي وسلوك الحركة الوطنية نحو مواجهة السياسات البريطانيَّة الرَّاعية للمشروع الاستيطاني، كان ذلك بسبب الخلافات التي كانت قائمة بينه وبين اللجنة التنفيذية العربية كأحد مكونات الحركة الوطنية في ذلك الوقت، وقد شاخَ أَعضاؤُها وهم متمسِّكون بمواقعهم فيها، وبين أعيان العائلات هذا من جهة، وبسبب الخلافات التي كانت قائمة بين تلك اللجنة وقيادة الحاج أمين الحسيني من جهة أخرى، وحاجة كل من قيادة اللجنة والحاج أمين الحسيني ما قبل عام 1936 للاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع حكومة الانتداب الإنجليزي كإدارة عامَّة للبلاد – لعل ذلك يعكسُ واقع الإخفاق لجهة تحديد الأولويَّات وحسم الخيارات في بيئة الانقسام الوطني والمجتمعي والتِّيه في سراديب الدبلوماسيَّة المتعرِّجة، وهو ما سيتكرر في التجربة الفلسطينيَّة في مفاصل ومحطَّاتٍ عديدة، ليس آخرها ونظيرها ما نراه من مُضي وقت طويل قبل أنْ يتم الالتفات لحقيقةِ الاعتراف بكون الولايات المتحدة الأمريكيَّة الرَّاعية الأساسيَّة لاستكمال مشاريع الاستيطان والضَّم، وقبل أنْ تجري محاولات إعادة تعريف دورها على هذا النحو !!.