الجمعة  19 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

نابلس: غاندي في الدير

2014-06-29 02:29:08 PM
 نابلس: غاندي في الدير
صورة ارشيفية

 

 

 الحدث - نابلس جميل عليان
 
في بداية عام ١٩٣٨ قتلت القوات البريطانية، المسيحي ابراهيم نيروز ولم يكن حينها يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.. كان أحد عمال ميناء يافا، وواحداً من مشعلي نار الثورة في المدينة الساحلية، بعد أن اوقعت تلك القوات فوق رأسه قطعة حديد كبيرة، اثر مشاركته في إغلاق الميناء ابان الاضراب الكبير.
 
بعد ٧٠ عاما، يظهر الحفيد الذي حمل اسمه، في كنسية يلقي عظة قصيرة، كراعي واحدة من أقدم الكنائس في مدينة نابلس بالضفة الغربية.
 
وفي العظة التي يتلوها على مسامع أطفال مسيحيين من المدينة، تظهر تعاليم المسيح كواحدة من أهم علامات البحث عن افضل سبل الحياة لأبناء عدة طوائف دينية مسيحية في واحدة من المدن الفلسطينية التي تتمتع بنسيج ديني فسيفسائي مثل نابلس، التي تضم اتباع الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحة والسامرية.
 
بالنسبة للقس ابراهيم نيروز الحفيد المثابر للجد المقاوم، فإن المقاومة تعني هذه الأيام، الثبات وعدم الهجرة، لذلك يدعو الأطفال المستمعين للعظة التي تتخلل مخيما صيفيا يعقد منذ عقود في الدير إلى البحث عن السعادة كي يستمر البقاء.
 
واقفا وسط غرفة الصلاة في الدير الذي بناه المستشرق الألماني كريستيان فلشر قبل أكثر من قرن على أطراف البلدة القديمة في نابلس يستطلع القس ردات فعل الأطفال المسحيين الذين ينتمون إلى أربع كنائس مختلفة في المدينة.
 
وقال نيروز وهو يلقي عظة حول القرابة "يخبركم يسوع  ألا تقاوموا الشر بالشر. فكرة المسيح ان نقاوم الشر لكن ليس بنفس الطريقة".
 
ويضيف "اذا تعرضنا لاجتياح لا يمكن إن نقاومه بنفس الطريقة". ولم يظهر القس الذي تنفرج شفتاه عن ابتسامات متكررة اذا ما كان يقصد بالاجتياح دخول القوات الإسرائيلية إلى المدينة.
ومعلوم أن مصطلح اجتياح، ارتبط ذهنيا ولغويا بعمليات عسكرية واسعة نفذتها تلك القوات في مدن الضفة الغربية بعد انتفاضة الأقصى الثانية، مستخدمة فيها قوات مدججة.
 
وينخرط عشرات الأطفال المسحيين، وبدا بعضم في سنين طفولته في مخيم صيفي سنوي تنظمه الكنيسة منذ نحو عقود، لكن تعليم الأطفال خلال فصل الصيف بدأ قبل خمسين سنه كما يقول القائمون على الدير الذي تحيط به احياء المدينة القديمة التي بني بعضها قبل بناء الدير.
 
وتناقص عدد المسحيين في نابلس، إلى نحو ٧٥٠ مسيحيا، اذ دفعت ظروف مختلفة خلال العقود الماضية الكثير من العائلات المسيحية الى هجرة نابلس، ومدن فلسطينية اخرى الى دول امريكا اللاتينية ودول أخرى.
 
وقال نيروز وهو رسام أيضا وكاتب يتخذ من الدير مكانا لعرض لوحاته التي تعتمد علي ترميم التنوع في الالوان والافكار" اذا تغير الاحساس يتغير التفكير. الإحساس بالأرض والمنزل يعني الفرح(..) والفرح هو الانتصار".
 
ونيروز الذي يجمع الأطفال كل سنه في الكنسية يبحث في أرجاء الانجيل عن تعاليم السيد المسيح الذي مر بالمدينة وشرب من مائها وهو ما يعرف بقصة السامرية وبئر يعقوب، يحاول أن يدفع الأجيال الجديدة من المسحيين إلى مقاربة تعاليم النبي عيسى التي تدعو إلى العيش بسلام في أرض السلام.
 
وقال نيروز وهو يصعد درجات حادة للدير" ليس هناك مكان غير هذا الدير لجمع الاطفال وتعليمهم. هنا يمكنهم الانسجام. الدير المكان الوحيد لتعليمهم".
 
ويتعلم الأطفال المسيحيون في مدارس نابلس الحكومية، وفي ايام الاحاد لا يستطيعون الذهاب إلى الكنائس بسبب انتظام اليوم الدراسي الحكومي.
 
ومن قبل جمع نيروز الذي يظهر كواحد من دعاة تقريب العيش المشترك بين أبناء الديانات الثلاث في المدينة اطفالا مسحيين ومسلمين وسامرين في الدير لثلاث سنوات متتالية، في محاولة لخلق بيئة واحدة يعيش فيها الاطفال دون التفكير بالفروق الدينية التي جاؤوا منها.
 
لكن كما يقول نيروز وبعض المتطوعين، فان هذا المخيم الكنسي الذي يضم فقط اطفالا مسحيين يبحث عن توفير قواعد الحياة السليمة للأطفال، للتعامل مع مجتمع مختلف التوجهات الدينية في بيئة غير مستقرة امنيا وسياسيا.
 
واقفين في صفوف متتالية ومتوازية، يؤدي الأطفال رقصات على وقع أنغام أغان باللغة الانجليزية. من بعيد يصفق القس والمعلمات المتطوعات للأطفال قبل خروجهم الى فسحة العظة الدينية اليومية.
 
ويظهر المتطوعون والمتطوعات جاهزين للتعامل مع متطلبات هذا التعليم الخاص، لذلك يمكن لرولا خليل وهي مسيحية من حيفا ان تنتقل بين غرف الدير لتلبي نداءات الاطفال.
 
واقفة على باب الدير تنصت بفرح لتراتيل الانجيل التي تتحدث عن آداب المعاملة بالمثل ويرددها الاطفال خلف الاب "تطوعت منذ ٢٠ عام انا وزوجي هنا في الدير. نريد أن يكون الأولاد مسحيين حقيقيين ويبقوا في بلدهم ولا يهاجروا منها".
 
واضافت" يجب ان نجعلهم جزء من المجتمع المنسجم، نعطيهم قيم المسيح والمجتمع المنسجم الواحد". وسمي المخيم الصيفي الكنسي لهذا العام "مخيم قريبي".
 
ويقول القس" قريبي ليس اخي او ابن عمي. قريبي هو كل انسان حولي مهما كانت ديانته". في نابلس المدينة التي بناها الكنعانيين وحفلت بحكم الكثير من الممالك التي تعاقبت عليها، يمكن ان يظهر الخليط الديني في المدينة دون ان يلاحظ احد. فالمسيحيون والمسلمون والسامريون يعيشون في ذات البقعة الجغرافية الواحدة.
 
من زاوية الدير تظهر الصلبان ومئذنة المسجد في خط أفقي واحد مع جبل جرزيم، المكان الأكثر قداسة حسب الأسفار التوراتية الخمسة الأولى للسامريين.
 
إنه يبدو الجوار الجغرافي والديني أيضا في مدينة واحدة.
 
'هذه جسور المحبة. علينا أن نبنيها هنا ونعمل من أجل فلسطين'، قال القس نيروز . يردد المعنى ذاته مساعدون للقس.
 
وقال عميد كوع، وهو شاب يدرس الصحافة في جامعة قريبة من الدير ويتقن فنون العزف والضرب على الطبلة" نريد ان نعلمهم ما جاء في تعاليم المسيح "المحبة والسلام والصفح".
 
"كان من المفترض ان يعلموا كل هذا في يوم الاحد. لكن خلال ايام الدراسة هذا غير ممكن (..) الآن الفرصة متاحة".
 
هابطا عن درجات غرفة الصلاة في الدير الأسقفي يعيد القس ابراهيم ذكر قصة جده ابراهيم الشهيد الذي قتل في أحداث الميناء وجده لأمه صبحي الجلدة الذي بادرت القوات الاسرائيلية لاعتقاله مجرد احتلالها لمدينة الرملة بتهمة تصنيع السلاح للثوار حتى خرج بعد تسعة اشهر في أول عملية تبادل للأسرى بين اليهود والعرب، مذكرا في الوقت نفسه بتعاليم المسيح، النبي الذي مر على بعد كيلومترات قليلة من ساحة الدير مبشرا بالسلام في أرض لم تتوقف فيها الحروب.