الإثنين  05 أيار 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عندما يستقيم القانون.. تبدأ الثورة من المناهج/ بقلم: د. عصام عابدين

2025-05-05 11:52:36 AM
عندما يستقيم القانون.. تبدأ الثورة من المناهج/ بقلم: د. عصام عابدين

مصطلح "حرب الإبادة على غزة" لا يستقيم لا لغوياً ولا قانونياً. فالإبادة الجماعية (Genocide) ليست نوعاً من الحروب، بل جريمة دولية مستقلة "جريمة الجرائم" (The Crime of Crimes) بموجب المادة (6) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (Rome Statute). وترد هذه الجريمة في خمس صور، كل واحدة منها تُشكّل جريمة دولية قائمة بذاتها بأركانها وعناصرها، كما ورد تفصيلاً في وثيقة أركان الجرائم (ICC-ASP/1/3) المعتمدة لدى المحكمة.

أمّا جريمة الإبادة (Extermination) فهي واحدة من (11) صورة من صور الجرائم ضد الإنسانية، مُبينة في المادة (1/7/ب) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وتُفصّل وثيقة أركان الجرائم كل صورة، بما في ذلك القتل العمد، الإبادة، التعذيب، النقل القسري، الاختفاء القسري، وغيرها. والفرق الجوهري بين الجريمتين يكمن في "القصد الخاص" في جريمة الإبادة الجماعية، أي أن تُرتكب الأفعال بنية إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها تلك، إهلاكاً كلياً أو جزئياً. أمّا في جريمة الإبادة ضمن الجرائم ضد الإنسانية، فلا يُشترط هذا القصد، بل تقع الجريمة في سياق هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد السكان المدنيين، مع العلم المسبق بذلك.

ولا يصح قانوناً وصف ما يجري في غزة بـ"حرب الإبادة". حرب بين مَن ومَن؟ بين جيش احتلال غير شرعي ومدنيين معظمهم أطفال ونساء؟! مثل هذا التوصيف يُنتج مفاهيم خاطئة تُساوي بين الضحية والجلاد، كما هو الحال في تعبير "وقف إطلاق النار" بين مَن ومَن؟! وغيرها من التعبيرات المُضللة التي تُكرَّس أكاديمياً وإعلامياً على نحو صادم.

ما يجري في غزة ليس حرباً، بل عدوان (Aggression) شامل ومنهجي يستهدف المدنيين ومعظمهم أطفال ونساء والأعيان المدنية. وهو عدوان يقع ضمن إطار نزاع دولي مسلح ناجم عن احتلال استعماري غير شرعي لشعب فلسطيني أصلاني، كما أكدت فتوى محكمة العدل الدولية (ICJ) الصادرة عام 2024، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام ذاته 2024، الذي أكد على وجوب إنهاء الاحتلال، وتفعيل آليات المساءلة الدولية. ورغم أن هذه المستجدات تمثل "ثورة" في القانون الدولي، إلا أن الساحة الأكاديمية ما زالت تفتقر إلى "مختبرات بحثية" تحمل هذا اللواء وتُعيد إنتاجه وعياً وموقفاً صلباً.

أمّا المقاومة، فهي ليست طرفاً في "حرب إبادة" أو "إبادة جماعية" بل هي امتداد طبيعي ومشروع وامتداد لقوة تاريخية هائلة متجذرة في حق تقرير المصير (Jus Cogens)، الذي يقع في طليعة القواعد الآمرة في القانون الدولي، التي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، حتى لو جاء عبر استفتاء شعبي. فحق تقرير المصير ليس خياراً سياسياً، بل التزام قانوني وأخلاقي عالمي، وثمرة كفاح شعوب لا تُساوَم عليه.

المسألة أعمق من مجرد أخطاء في المفاهيم أو اضطراب في المصطلحات. نحن أمام أزمة بنيوية في الوعي الحقوقي، تتجلّى في بنية المنهج، وأولوياته، وانحراف زاوية النظر إلى المفاهيم القانونية داخل الجامعات. فعندما يُدرّس القانون الدولي بلغة باهتة، مجتزأة، أو محايدة مفصولة عن السياق الاستعماري، يُفرغ من مضمونه التحرّري، ويتحوّل إلى أداة تقنية صامتة، بلا جوهر أخلاقي ولا أثر إنساني، مما يفاقم الفجوة الهائلة بين تحوّلات العالم وجمود جدران الجامعة.

ولهذا، فإن الثورة الحقيقية لا تبدأ من المؤتمرات، بل من كسر المناهج البالية؛ تلك التي تُدرّس الإبادة الجماعية بلغة محايدة، وتُفرغها من دمها، وتفصل بينها وبين سياقها الاستعماري. تُلقّن الطلاب عناصر الجريمة، وتغفل عن الضحايا، عن الأرض، عن التاريخ. الثورة تبدأ حين نُعيد ربط المنهج والمفاهيم بجذورها القانونية والنضالية، ونُعلّم القانون كأداة مقاومة ومساءلة. فالكلمات ليست تفصيلًا… بل بنية عدالة، أو مدخل تواطؤ. وما لم تبدأ الجامعات بتحرير لغتها القانونية من الحياد المزيّف، وفي إنتاج الأجيال المقاومة… لن تبدأ العدالة.