الأربعاء  17 نيسان 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عن مملكة تأسست على التعددية لكنها تخفق في الوفاء بمُثُلها: مدينة سلمان رشدي العجائبية

2023-04-27 10:26:50 AM
عن مملكة تأسست على التعددية لكنها تخفق في الوفاء بمُثُلها: مدينة سلمان رشدي العجائبية

تدوين- ترجمة-مجدي خاطر

كتب المقالة التالية، مايكل جورا في النيويورك تايمز، تعقيباً على قراءته لرواية سلمان رشدي الأخيرة "مملكة النصر"، وهذا نص المقالة المترجم:

تبدأ حكاية "بامبا كامبانا"  حين تسير أمها إلى النيران، "وتقول القصة" إنه مع وفاة كل أزواجهن، أشعلت نساء إحدى الممالك الصغيرة المحطمة نارا على ضفاف أحد الأنهار، و"ودعت كل منهن الأخرى" ثم خطون إلى الموتى في صمت، وكانت لحومهن المحترقة تفوح أيضا برائحة الصندل والقرنفل، لذلك لم تقرب بامبا اللحم طيلة ما بقي لها من حياتها التي استمرت مائتين وثمانية وثلاثين عاما أخرى، توجت خلالها ملكة ثلاث مرات وشاخت ببطء بالغ لحد أنها كانت تتبدى أصغر بكثير من حفيداتها. على أنها كانت في التاسعة فقط عندما ماتت أمها، وقد زارتها الآلهة التي حملت اسمها أثناء سيرها شاردة بعيدة عن النيران، وهكذا اكتسبت قواها، وبعد بضع سنوات أتى شقيقاها هوكا وبوكا سانجاما، راعيا البقر اللذين تحولا إلى جنديين فارين من الهزيمة.

تعطيهما بامبا كيسا من البذور يتلألأ الهواء حتى يبذرانها، وتنبت "مدينة عجائبية"، في البدء قصور ومعابد ثم بشر أيضا، بشر استهلت بامبا ذكرياتهم. وبرزت من الأرض جيوش بأكملها مزودة بأفيال مقاتلة على استعداد لصد هجمات السلاطين المتاخمين، وأصبح الأخوان ملكين نبيلين في جنوب ما أصبح الهند الآن، أولا هوكا ثم بوكا اللذين تزوجتهما بامبا بدورها، رغم أنها عشقت تاجر خيول برتغالي علّم آل سانجاما صنع الألعاب النارية والبنادق أيضا.

"مدينة النصر" تستدعي (الملحمة الشعرية الهندية القديمة) "رامايانا"

كل هذا حقيقي لحد ما، لكن ليست بامبا كمبانا وبذورها، بل ذلك الانتحار الجماعي الذي وقع في أوائل القرن الرابع عشر. هوكا وبوكا شخصان حقيقيان، وكذلك المدينة التي أسساها والتي اتخذ سلمان رشدي من اسمها عنوانا لروايته السادسة عشرة "مدينة النصر" Victory City، وهو المرادف الإنجليزي لكلمة "فيجاياناجار" Vijayanagar، عاصمة الإمبراطورية التي سيطرت على المنطقة، طيلة سنوات حياة بامبا، إلى أن لحقت بها هزيمة عسكرية ساحقة في العام 1565. تسمى أطلال "فيجاياناجار" الآن "هامبي" واعتبرت اليونسكو معابدها موقع تراث عالمي، وتغطي آثارها المعمارية سائر جنوب شبه القارة الهندية، كما أن جيوش الإمبراطورية الضخمة، واعتمادها على أفيال محاربة، ونزاعها الطويل مع السلاطين المسلمين في الشمال، كل ذلك حقيقي أيضا، وثمة رحالة برتغاليون عديدون تركوا سجلات دونوا فيها ما شهدوه خلال أسفارهم.

 

أمبراطويرية فيجاياناجار في جنوب الهند

تأتينا مدينة النصر على هيئة مخطوط عثر عليه داخل إناء فخاري دفن منذ زمن طويل، يضم "قصيدة روائية عملاقة" باللغة السنسكريتية كتبتها بامبا كامبانا شخصيا، تروي التاريخ السري للإمبراطورية، ويلخصها ناسخ معاصر مجهول: "ليس باحثا ولا شاعرا، بل رجل يغزل الصوف" العالم الذي تؤسسه بامبا عالم ينعم بالسلام، فيه الرجال والنساء متساوون، وكافة المعتقدات موضع ترحيب، لكن الحكاية التي يرويها رشدي عن دولة تخفق دائما في الوفاء بمُثُلها، إذ يزعم هوكا وبوكا أنهما يرغبان في السلام لكنهما يشنان حروبا ضد جيرانهم لإبقاء نار الحرب مستعرة، ولا يمكنهما مطلقا الانتصار على تعصب بلادهما، وهو إصرار متشدد على وجود عقيدة صالحة وحيدة، يعمل على تقويض التعددية التي انبنت عليها مبادئ المدينة.

هذه واحدة من أقدم ثيمات رشدي منذ روايته "أطفال منتصف الليل" قبل ما يزيد على الأربعين عاما، والتي حظيت بمعالجة أوضح في روايته "الآيات الشيطانية" التي أسفر اعتداؤها على النقاء الروحي عن صدور فتوى ضد رشدي نفسه، ولاحقا في روايته "تنهيدة المغربي الأخيرة" التي استعانت بمبدأ التعايش Con-vivencia بأسبانيا القرون الوسطى، حيث عاش أبناء الديانات المختلفة في ود الإسلام، في نقد القومية الهندوسية المتشددة في بمومباي المعاصرة، ومع ذلك فتلك الهموم السياسية في جوهرها لطالما انغرست – وتجسدت – في أسلوب رشدي الأدبي، وفي النشوة الوقحة بنثر يعمل من خلال تكديس حدث تلو الآخر، وفي الوفرة النحوية الاستطرادية حيث يتوافر متسع للجميع. تولد مدينة النصر من بذرة، لكن سرعان ما: "تجوب الكلاب الضالة والأبقار والأوراق فوق غصون الأشجار، وتحتشد السماء بالببغاوات والغربان كذلك"، تلك الكلمات الأخيرة تجرح الكبرياء بعض الشيء، تحول مباغت في السجل، لكن هذا هو رشدي، فليست الببغاوات وحدها محل الترحيب بل الغربان أيضا.

ومع هذا فكل شيء هنا يتبدى كأنما أصابه الخرس، إذ يكمن اهتمام رشدي الرئيسي في تعقب تاريخ حياة بامبا، واستعراض ما ألم بسلطانها ومكانتها من تغيير مع مرور السنين، واللذان ظلا يتأرجحان دائما بين ذروة المجد وقاعه، إذ تكابد بامبا فترة نفي طويلة، وتشهد صعود عشيرة أخرى من الغزاة الأشاوس تحل محل سلالة زوجها المؤسسة، ثم صعود عشيرة أخرى، ومع ذلك يتبدى أولئك الحكام المختلفون ومعاركهم، وكذلك أسماؤهم المتبدلة، من دون أهمية تقريبا، وربما يكون هذا هو مربط الفرس، وربما هكذا تتبدى الأسر الحاكمة من بعيد، لكن بامبا هي الشخصية الوحيدة النابضة بالحياة في الكتاب، وحياة مدينتها الكبرى لا تتخذ أبدا شكلا واضحا في ذهن القارىء، وعلى سبيل المقارنة راجع الجزيرة التركية الموصوفة بدقة بالغة والمتخيلة بشكل كامل في رواية أورهان باموق الأخيرة "ليالي الوباء".

تظهر أريحية رشدي بوضوح تجاه أسلافه، ووعيه بأنه يعمل داخل تقليد مهيب، إذ أعادت إحدى رواياته الأخيرة كتابة "ألف ليلة وليلة" وبذلت أخرى التقدير اللائق بثربانتس، وروايته الأشهر "دون كيخوته"، أما "مدينة النصر" فتستدعي (الملحمة الشعرية الهندية القديمة) "رامايانا"، على أن رشدي لديه في عقله أسلافا بديهيين، وحكاية مدينته المندسة تأتي محملة بإيحاءات تشير إلى رواية إيتالو كالفينو المبهرة على الدوام "مدن لا مرئية"، حيث كل الأماكن ليست سوى ظلال لنسخة فريدة ومثالية من مدينة البندقية. إلى ذلك يُظهر إطار الكتاب التاريخي وجود خيط مدفون يجمع بين أعمال رشدي بأكملها، إذ تستدعي "تنهيدة المغربي الأخيرة" الزمن السابق على كولومبوس مباشرة، وتراوح "عرّافة فلورنسا" بين إيطاليا في عصر النهضة وبين بلاط المغول في دلهي، إذ يحرص على تأمل ماض لم تكن أقدام الكولونيالية الأوروبية قد ترسخت فيه بعد، عندما كانت أجزاء العالم المختلفة منغمسة في نزاعات دموية لكن متكافئة لحد ما، أمّا اكتشاف السبب فمتروك للباحثين.

برغم ذلك تقدم أفضل صفحات "مدينة النصر" شيئا مختلفا، إذ يشب خلاف في نهاية الرواية -ونهاية حياتها- ونهاية تاريخ الإمبراطورية، بين بامبا وبين الحاكم الحالي الذي يأمر خدمه أن يفقأوا عينيها، فيستعينون بسفود ساخن، "ولا يعتريها سوى الألم في البداية، ألم جعلها تشتهي الموت وتراه راحة مباركة" ثم تتوالى الأحلام والكوابيس التي تتركها "تنزف بصرها المفقود كأنه العرق من كل مسام جلدها" لكن على الأقل ثمة صور و"لم تعد العتمة مطلقة" ذلك العمى تكهنت به أولى جمل الرواية، وما كان رشدي ليعلم حين كتبها أنه في أغطس 2022 سيتعرض لعدة طعنات ويفقد إحدى عينيه على يد متعصب ديني، ومع ذلك فليست هذه المرة الأولى التي يتنبأ فيه بمصيره، وتكشف لنا "مدينة النصر" مرة أخرى بقدرتها المذهلة وغير المألوفة على التنبؤ بسبب أهمية كتاباته دائما.