الأحد  19 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ورثة النزاع التاريخي محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2015-05-19 07:02:04 PM
ورثة النزاع التاريخي 
 محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
صورة ارشيفية

 ضوء في الدَّغْل

 

انتهيْنا في المقال السابق"الثقافة المهادنة" إلى الحديث عن التاريخانية باعتبارها رؤية للأحداث والأفكار ضمن شرطها التاريخيِّ الذي أُنتِجتْ فيه. ولقدْ قادنا ذاك الطرحُ، هذه المرة، إلى الحديث عن التاريخ الإسلامي المتعدد والمتعارض أحيانا وظلالِه على الواقع المعاصر. ولذا سنبدأ من الإقرار بغيابِ التاريخانية في التعاملِ مع أحداث التاريخ، وشيوعِ نظرة مثالية طفولية عن الماضي وشخصياته أدَّتْ إلى إدخال كلِّ وقائع الأزمنة الإسلامية الأولى والفاعلين فيها إلى دائرة التقديس، وتأبيدِ أفكار السابقين باعتبارِها صالحة لكل زمان ومكان ممَّا جعلَ الجديد نادرا والإبداع قليلا، وأنتجَ عقلا ماضويا يقيّم كلّ مبتكرٍ بعيون قديمة عمياء، وهو غالبًا ما يرفض كل جديد.

هذا الواقع يؤكّد أنَّ المسلمين اليوم هم ورثة النزاع التاريخي، لأنّهم يحملون كلّ خصوماتِ الماضي البعيد وصراعاتِه. ولذا يمكن القول إنّ الحياة الإسلامية حاليا ما هي إلا محاكاةٌ لحياة القدماء، وهي في جانب كبير منها محاكاة لصراعاتِهم. ولننْظرْ مثلا إلى الصراع السنيّ/الشيعيّ، وإلى الفتاوى التي يصدرها كل طرف، والتطاحن القائم بين الفريقيْن، والتكفير أو التضليل المتبادل...إلخ. فلو أغمض الواحد منا عينيه لأدرك أنه لا يعيش في العصر الحديث، بل في عمقِ معركة صفين، وفي عمق صراعاتٍ كثيرة:صراع أنصار علي وأنصار معاوية، أو الهاشميين والأمويين. وحتى داخل الطائفة الواحدة ستجد نفسك أمام اختلافات الماضي؛ فداخل الفكر السنيّ ستجد أنَّ اتجاهات اليوم جميعها امتداد لاتجاهات الأمس، بل وتقليد لها؛ ولذا سترى في السلفية مدرسة أهل الحديث القديمة، كما سترى في الشيعة كل اتجاهات التشيّع القديمة.

ومثلما انطلق الصراعُ قديما من ساحة الفكرِ والاختلاف ووصلَ إلى السيف والحرب والتصفية، كذلك يعيش المسلمون اليوم هذه المراحل نفسِها. بل ويعيشونها في آنٍ واحد، إذْ هناكَ تنظير وفتاوى ينتجها دعاةٌ تحرّضُ على تكفير طائفة إسلامية أو على تضليلها، وربما دعتْ إلى محاربتها، وفي الوقت نفسِه ترافقها أعمالٌ عنف من الأطراف التي تتبنَّى ذلك الفكر وتطبِّق تلك الفتاوى الرهيبة.

ولئنْ كانَ هذا الصراعُ قديمًا، رغم واجهته الدينية، سياسيا بامتياز، فإنَّ الصِّراع اليوم، وهو الأخطر، دينيٌّ خالص. ومعنى هذا أنَّ الصراع القديم كانتْ غايته السياسة، وكان يبرّر لأفعالِه بالدّين. أمَّا صراع اليوم، هو ديني، فالأفراد والجماعات المتورطون فيه يحملون قناعاتٍ تقصي الآخر أو تلغيه فكريا، وتصفيه جسديًّا. لكنّ هذا الصراع الديني مسيَّسٌ ومستغلٌّ من طرف أنظمةٍ عربية يهمُّها أنْ ينشغل الناس بهذه الصراعاتِ الدونكيشوتية بدل الاهتمام بمصالحهم وافتكاك حقوقهم الغائبة والمغيبة، وهذا، للأسف، ما لا ينتبه إليه المشاركون في تأجيج ذلك الصراع من المسلمين.

لقد تحوّل العالم العربي-الإسلاميّ إلى خارطة للدّماء، وإلى غابة وحشية تتقاتل فيها كل أنواع الهمجيّات. وتنسحق فيها للأسف الأقليات التي سـ"تنقرض" إذا استمر الحالُ كما هو اليوم. ولذا يكون الحلُّ الوحيد في السعي لبناء دولة المواطنة التي تنظر إلى الجميع باعتبارهم مواطنين لا متدينين. دولة تقوم على الحقوق والواجبات، وتنظر إلى جميع أفرادها بعين المساواة، وتمنح الحقّ لكل الاتجاهات السياسية أو الدينية في ممارسة نشاطاتها أو طقوسها. هذه الدولة غير موجودة في العالم العربي الإسلامي، فالدول القائمة ليستْ أكثر من تشويه لمفهوم الدّولة، ويكفي نسْفًا لها أنّ بعضها كان يرسل إرهابييه إلى دول مجاورة له دون أدنى شعور بالمسؤولية، وآخرُها، وهذا مخجل حقا، هو اجتماع دولٍ عربية عديدة على ضرب اليمن، تحت اسم"عاصفة الحزم"، وهي في الحقيقة عاصفة تفضح عورة العرب، وتؤكّد على غياب مفهوم الدّولة وحضور الطائفة أو القبيلة بدلا عنه.