ترجمة الحدث
حذّر كل من كارنيت فلوج، النائبة السابقة لمحافظ بنك إسرائيل ورئيسة جمعية الاقتصاد الإسرائيلية، ويعقوب فرنكل، الحاصل على جائزة إسرائيل في الاقتصاد وحاكم البنك المركزي الأسبق، في مقالة مشتركة من أن إسرائيل تقف أمام تحديات وجودية غير مسبوقة. ويشيران إلى أن الاحتلال المباشر لقطاع غزة، بما يضم 2.2 مليون نسمة، ليس مجرد خطوة إضافية في حرب طويلة ودامية، بل قد يشكّل منعطفًا تاريخيًا ذا تبعات خطيرة على المجتمع الإسرائيلي، وعلى علاقة إسرائيل باليهود في العالم. وبرأيهما، لا يمكن تجاهل الكلفة البشرية والعسكرية من دماء الجنود والمخاطر على حياة الأسرى، لكن الأخطر أن صناع القرار يتجاهلون بالكامل الكلفة الاقتصادية الهائلة التي قد تترتب على هذا القرار.
ويؤكد الكاتبان أن القانون الدولي، ولا سيما اتفاقيات جنيف لعام 1949، تضع على عاتق القوة المحتلة مسؤولية إدارة شؤون السكان تحت سيطرتها وضمان احتياجاتهم الإنسانية. وبذلك، فإن أي سيطرة إسرائيلية مباشرة على غزة ستلزمها، ولو جزئيًا، بتحمل تكاليف إعادة إعمار القطاع، إلى جانب تأمين الخدمات الأساسية لسكانه. وتستند المقالة إلى تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي التي حددت تكلفة إعادة الإعمار بأكثر من 53 مليار دولار، أي ما يقارب 180 مليار شيكل، وهو رقم تضاعف منذ ذلك الحين بفعل العملية العسكرية الأخيرة. ويرى الكاتبان أن جزءًا من هذه التكاليف سيتحمله دافع الضرائب الإسرائيلي، وهو ما سيشكّل عبئًا غير مسبوق على اقتصاد يرزح أصلًا تحت ثقل الحرب المستمرة منذ عامين.
ويضيفان أن التكلفة لن تقتصر على إعادة الإعمار، بل ستمتد إلى النفقات الجارية لتوفير الخدمات المدنية، من صحة وتعليم وغذاء وبنية تحتية، بما لا يقل عن عشرة مليارات شيقل سنويًا، إضافة إلى تكلفة إدارة عسكرية ومدنية قدّرها الجيش سابقًا بأكثر من عشرين مليار شيكل سنويًا. كل هذا فضلاً عن نفقات التجنيد الاحتياطي ووسائل القتال والتسليح التي ترافق أي عملية عسكرية واسعة. ومع أن قطاع الدفاع يلتهم أصلًا الحصة الكبرى من الموازنة، فإن هذه الأعباء ستدفعه إلى مستويات غير مسبوقة.
ويحذر فلوج وفرنكل من أن تداعيات الخطة ستصيب أيضًا القطاع الخاص، وبخاصة صناعة التكنولوجيا الفائقة التي تُعد قاطرة النمو الاقتصادي. فالتجنيد الواسع للقوى العاملة الماهرة سيؤدي إلى إضعاف الشركات الإسرائيلية، بينما قد تتفاقم المقاطعات والعقوبات الاقتصادية الدولية، بدءًا من قيود على التصدير والاستيراد، وصولًا إلى سحب الاستثمارات الأجنبية. ويشيران إلى أن هذه التطورات سترفع من مخاطر إسرائيل الاستثمارية وتؤدي إلى تراجع تصنيفها الائتماني وارتفاع معدلات الفائدة.
وتستعرض المقالة مثالًا حديثًا تمثل في إعلان صندوق الثروة النرويجي، الأكبر عالميًا، بيع استثماراته في عشرات الشركات الإسرائيلية، مع بحثه الانسحاب من أخرى. كما تتوسع الدعوات في أوروبا والولايات المتحدة لفرض مقاطعة أكاديمية وعلمية على إسرائيل، وهو ما بدأ بالفعل بشكل “صامت”، حيث يواجه الباحثون الإسرائيليون صعوبة متزايدة في التعاون مع جامعات دولية وفي الحصول على تمويل لمشاريعهم البحثية، فضلًا عن تقلص برامج التبادل الطلابي. ويؤكد الكاتبان أن انعكاسات ذلك على قطاع التكنولوجيا ستكون مدمرة، لأنه يشكل أكثر من نصف صادرات إسرائيل وربع إيراداتها الضريبية المباشرة.
ويرى الكاتبان أن إسرائيل تعيش بالفعل عزلة دولية متنامية، بعد أن كانت قبل سنوات قليلة مقصدًا مفضلًا للاستثمار والبحث العلمي والسياحة، إلى أن جاءت الأزمة السياسية الداخلية المرتبطة بمحاولات الانقلاب القضائي، ثم الحرب الأخيرة، لتقلب الصورة رأسًا على عقب. والنتيجة هي تزايد الدعوات لمقاطعتها اقتصاديًا وثقافيًا وأكاديميًا، وهو ما يغذي بدوره موجة عداء جديدة لليهود في العالم. وبرأيهما، فإن ثمن هذه العزلة سيكون فادحًا: دين عام متضخم، تباطؤ في النمو، غلاء معيشة متصاعد، تراجع مستوى الخدمات العامة، وهجرة عقول قد تفقد إسرائيل تفوقها النوعي في الاقتصاد العالمي.
ويخلص فلوج وفرنكل إلى أن القرار باحتلال غزة لا يمكن أن يُتخذ من دون حساب استراتيجي شامل يدمج الاعتبارات الاقتصادية مع الأمنية والسياسية. فالمسألة لا تتعلق فقط بميزانية الدولة، بل بمستقبل مكانة إسرائيل الدولية ومستوى معيشة مواطنيها. ويحذّران من أن تجاهل هذه الكلفة وغياب الشفافية في عرض الحقائق على الجمهور قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي يوازي الانهيار السياسي، مؤكدين أن “الأمر يتعلق بمصيرنا جميعًا”.