الثلاثاء  07 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قناديل الدم والأمل: في ذكرى طوفان الأقصى/ بقلم: رامي بركات

2025-10-07 08:48:28 AM
قناديل الدم والأمل: في ذكرى طوفان الأقصى/ بقلم: رامي بركات
رامي بركات

في ذكرى طوفان الأقصى، تضيق الذاكرة وتتسع في آن؛ نستعيد زخم الألم والفخر، ونلتمس طريقنا عبر الحزن العميق الذي يعصف بوضع شعبنا، والأمل العنيد بأن تضحياتنا لن تضيع سدى. أين كنا كفلسطينيين يوم انفجر الطوفان وأين أصبحنا اليوم؟ سنوات أوسلو الطويلة خنقت صوت فلسطين في الوجدان العربي والعالمي، وأزاحت القضية عن مركز التفاعل الدولي، حتى بدأنا نشهد عودة بطيئة ومضطربة للوعي بعد الطوفان.

الخرائط السياسية تغيرت، وأصبح هناك تأييد شعبي جارف في الشارع العالمي للشعب الفلسطيني يقابله رفض حاسم للإبادة، بل وحتى عداء متنامٍ لكل ما يرتبط بإسرائيل، وامتد أحياناً ليطال كل ما هو يهودي في كثير من الدول، في ظاهرة تستحق الوقوف عندها بجديّة ومسؤولية. ومع هذا التحول المتسارع، توالت الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية وتزايدت قرارات قطع العلاقات وتجميد الصفقات التجارية والعسكرية مع الاحتلال.

هنا يطل السؤال الأكبر: أهذه إرهاصات انتصار أم علامات ذبح جديد لقضيتنا من الوريد للوريد؟ هل دماؤنا التي سالت على عتبات غزة أعادت فلسطين إلى صدارة الوجدانات الحرة أم سجّلت نصراً خادعاً مشوّهاً بثمن إنساني باهظ؟ لحظة الحقيقة هذه تتجلّى في مفترق طرق أمام سيناريوهات مفتوحة: إما طريق التحرّر وصناعة التاريخ، أو درب الإنهاك واليأس المتجدد.

في بداية طوفان الأقصى، وقفت معظم الأنظمة الغربية بشكل واضح إلى جانب إسرائيل، مساندةً الاحتلال رسمياً وسياسياً، ومتجاهلةً الدم الفلسطيني وصرخات الضحايا. إلا أن هذا الدعم الرسمي لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما بدأ الحراك الشعبي يتنامى بشكل ملحوظ، ليصل في غضون فترة قصيرة إلى طوفان بشري يملأ الساحات والشوارع في عواصم ومدن أوروبية كبرى مثل بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، بالإضافة إلى حراك قوي في واشنطن بين طلاب جامعاتها ومعاهدها. هذا التيار الجماهيري المتصاعد كشف حجم التضامن الشعبي الذي تجاوز صمت وغربلة السياسات الرسمية، وبدأ يفرض نفسه كقوة أخلاقية ضاغطة على الحكومات، رغم محاولات القمع والتشويه.

وفي هذا السياق، برزت جنوب أفريقيا كصوت قانوني وأخلاقي صارخ في وجه الإبادة، حين تقدّمت بدعوى تاريخية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وقد أصدرت المحكمة عدة أوامر مؤقتة استجابت لمعظم مطالب جنوب أفريقيا، مطالبة إسرائيل باتخاذ إجراءات فورية لحماية المدنيين، وإن كانت لم تصل إلى حد تعليق العمليات العسكرية بالكامل. هذا التحرك القانوني غير المسبوق فتح الباب أمام تدخلات دولية واسعة، حيث انضمت دول مثل أيرلندا وكوبا وإسبانيا وغيرها إلى الدعوى، في مشهد يعكس تحولاً في المزاج القانوني العالمي تجاه الاحتلال.

ومع تصاعد الضغوط، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية لاحقاً مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالنت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. هذه الخطوة، وإن كانت رمزية في بعدها التنفيذي، إلا أنها تحمل دلالة سياسية وأخلاقية عميقة، وتؤكد أن الدم الفلسطيني لم يعد خارج نطاق العدالة الدولية، وأن زمن الإفلات من العقاب يوشك أن ينتهي.

في هذا المشهد المتقلب، لم يكن الألم الفلسطيني محصوراً في مواجهة الاحتلال فحسب، بل امتد ليشمل خذلاناً مؤلماً من غالبية الأنظمة الغربية التي اختارت دعم إسرائيل أو تجاهلت معاناة الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن هذا الخذلان الرسمي لم يكن انعكاساً كاملاً لموقف الشعوب الغربية، التي سرعان ما بدأت تعبر عن رفضها للإبادة وتأييدها للحق الفلسطيني من خلال موجات تضامن شعبية غير مسبوقة. فقد شهدت شوارع أوروبا وأمريكا حراكاً جماهيرياً متصاعداً، قادته حركات طلابية ونشطاء حقوقيون، تحدّوا القمع القانوني والشرطي ورفعوا صوتهم دفاعاً عن فلسطين. هذا التباين بين الموقف الرسمي والدينامية الشعبية خلق حالة من الغربة المركّبة لدى الفلسطينيين: غربة عن أنظمة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما تصمت أمام المجازر، وغربة عن شعوب بدأت تستفيق وتكسر حاجز الصمت، لتعيد لفلسطين جزءاً من حضورها في الضمير العالمي.

أما في العالم العربي، فقد بدت الوقفة الرسمية مخيبة، حيث قابَلَت الأنظمة، بما فيها السلطة الفلسطينية، أي حراك أو تفاعل نصرة لغزة بقمع شديد وأغلقت الساحات في وجه الجماهير. غاب صوت الشعوب، وضاع شعور الكرامة بين الخوف والتعتيم الرسمي، بينما كانت الشوارع والجامعات في أوروبا وأمريكا تشتعل بحراك تضامني غير مسبوق، يعيد إلى فلسطين جزءاً من وهجها المفقود.

كل هذه التحولات تلقي بمسؤولية كبيرة على القيادة الفلسطينية، التي لا يمكنها الاكتفاء بإدارة الأزمة أو الخطابات السياسية التقليدية. إن دماء غزة لم تعد مجرد حدث محلي، بل أصبحت جزءاً من ضمير عالمي يتطلب من القيادة تحويل موجة التضامن هذه إلى قوة تفرض حقوق الشعب الفلسطيني على الأرض وتجعل القانون الدولي بوصلتها. القيادة الحقيقية هي تلك التي ترى في الاحتلال عدواً يجب التحرر منه وتضع كرامة الشعب ونيل حقوقه فوق كل اعتبار.

في هذه اللحظة الفارقة، يحق للفلسطينيين أن يحلموا بقيادة وطنية لا توّلى ظهرها للدماء، لا تقمع حريات الشعوب، بل تحول التضحيات إلى قناديل تنير دروب الحرية. الطريق أمام شعبنا اليوم إما أن يعبر نحو صفحة جديدة تُكتب فيها فلسطين بفصول الحرية الشاملة، أو يعود إلى دوائر النسيان وفقدان الأمل. الخيارات في أيدينا، واللحظة نادرة، وهي فرصة لإعادة الاعتبار لقضيتنا التي تستحق الصمود حتى النصر الحقيقي.