مقالات الحدث
لم يكن العدوان الإسرائيلي الأخير على محافظة طوباس، وما سماه جيش الاحتلال "عملية الأحجار الخمسة"، حدثاً عابراً أو عملية أمنية محدودة بزمن أو هدف قريب، بل خطوة محسوبة في سياق مشروع أوسع لإعادة تشكيل الضفة الغربية بالكامل سياسياً وجغرافياً وأمنياً وديموغرافياً. الاجتياحات المتكررة، واستهداف المدنيين والبنية التحتية، وقطع الطرق، وتطويق القرى والمخيمات والمدن، واستخدام قوة نارية كثيفة، ليست سوى أدوات لفرض واقع جديد تُهندس من خلاله دولة الاحتلال المجال الفلسطيني وتفككه، تمهيداً لمرحلة ما بعد الحرب على غزة، ولصياغة مستقبل سياسي تريد فرضه دون تفاوض أو التزام دولي. ما يجري في محافظة طوباس يعكس بوضوح رؤية إستراتيجية أعمق، تتجسد في السعي لفرض الأمر الواقع، وفي إعادة إنتاج نموذج السيطرة طويلة المدى المرتبط بالبنية القانونية والعسكرية للاحتلال، بما يجعل المحافظة نموذجاً مكثفاً لاتجاهات تطال مستقبل الضفة بأكملها.
جوهر العملية العسكرية في طوباس لم يكن "تعقب" مجموعة من المقاومين كما يدعي الاحتلال، بل هي محاولة واضحة لفرض معادلة جديدة عنوانها السيطرة الكاملة، وإضعاف أي بنية قد تُستثمر لاحقاً لنهضة مقاومة أوسع أو لعودة الحراك الشعبي. المنطقة، بتكوينها الريفي والجبلي وامتدادها نحو الأغوار، تمثل نقطة إستراتيجية حساسة ترتبط بممرات الطرق، وبالتواصل بين شمال الضفة وجنوبها، وبمناطق زراعية ومائية يريد الاحتلال إحكام قبضته عليها. لذلك يمكن قراءة العملية كخطوة باتجاه إعادة رسم الخريطة الميدانية، بما يخدم أجندة دولة الاحتلال في "اليوم التالي" لغزة، من خلال واقع أمني جديد في الضفة، مفكك، هش، يمكن التحكم به عن بعد دون الحاجة إلى احتكاك مباشر أو مسؤولية قانونية.لذلك يريد الاحتلال دمجها في منظومة "يهودا والسامرة الكبرى". ومن هنا يتضح أن ما يحدث ليس رد فعل، بل عملية سياسية بملامح عسكرية.
أما من زاوية "الأمن" الإسرائيلي، فإن العملية جاءت تتويجاً لرغبة معلنة في منع أي محاولة فلسطينية لإقامة بنية مقاومة موحدة في شمال الضفة، خصوصاً في جنين وطولكرم ونابلس وطوباس. إسرائيل تخشى أن يتحول هذا الامتداد إلى نموذج مشابه لبنية المقاومة في غزة. ولذلك، يُستخدم التصعيد في محافظة طوباس وغيرها كأداة لإبقاء الشمال تحت ضغط عسكري مستمر، ولحصار أي مجموعات مسلحة قبل أن تتطور أو تتصل بالمشهد في غزة. هذا الربط بين الجبهتين يعكس سياسة إسرائيلية تهدف إلى منع تشكل جبهة فلسطينية موحدة، وإلى استخدام الضفة كورقة ضغط موازية لجبهة غزة، سواء في الحسابات السياسية أو في مفاوضات وقف إطلاق النار.
كما أن العملية العسكرية في محافظة طوباس تكشف أيضاً جانباً من الإستراتيجية الإسرائيلية القائمة على تحويل الضفة إلى فضاء مقطع الأوصال، فاقد للتماسك، غير قادر على إنتاج مقاومة موحدة أو حتى حراك اجتماعي واسع. الاجتياحات الليلية، الإعدامات الميدانية، الاعتقالات العشوائية، هدم المنازل، وكل ما يدخل في صناعة الخوف الممنهج، ليست مجرد أدوات عقابية بل هي جزء من هدف استراتيجي له علاقة بتفكيك النسيج المجتمعي الفلسطيني ومنع أي بيئة حاضنة للمقاومة. الاحتلال يريد مجتمعاً خائفاً، مرهقاً، منشغلاً بتأمين الحياة اليومية، غير قادر على خلق جبهة سياسية أو شعبية موحدة. وبالمقابل، يريد تعزيز دور المستوطنين، وتحويلهم إلى ذراع أمنية رديفة للجيش، تمنحه القدرة على التوسع دون تحمل المسؤولية المباشرة.
ما يجرى في محافظة طوباس هو أيضاً رسالة ميدانية واضحة تربط غزة بالضفة. الاحتلال يريد منع أي تنسيق فلسطيني داخلي أو أي جبهة موحدة. يريد أن تبقى المقاومة محاصرة في غزة، وأن تبقى الضفة تحت ضغط مستمر يمنعها من الانفجار أو التحرك. لذلك، تستخدم إسرائيل الضفة كورقة ضغط على المقاومة من جهة، وعلى المجتمع الفلسطيني كله من جهة أخرى، محاولة استباق أي موجة غضب قد تنفجر بسبب ما يحدث في غزة أو بسبب الظروف المتفاقمة في الضفة نفسها.
عندما ننظر إلى سياق العملية، يصبح واضحاً أنها جزء من منهج ثابت يندفع بسرعة منذ سنوات، لكنه تسارع بشكل كبير بعد السابع من أكتوبر. الاحتلال يتحرك اليوم بأريحية غير مسبوقة، مستفيداً من بيئة دولية أقل ما يقال عنها أنها مشلولة ومن انشغال العالم بالحرب على غزة، ومن صمت عربي وإقليمي ودولي لا يرتقي إلى مستوى الحدث. هذا الانشغال يمنحه هامشاً واسعاً للعمل دون محاسبة، ويجعله يشعر بأن الضفة باتت ساحة مفتوحة يمكن إدارة الصراع فيها وفق إيقاعه الخاص. في هذه البيئة، تصبح العمليات في طوباس أو جنين أو طولكرم أدوات لإنجاز مشروع أكبر لا تعلنه إسرائيل صراحة، لكنه يتكشف من خلال مجمل السياسات اليومية.
كما لا يمكن تجاهل أن العملية جاءت أيضاً في سياق حسابات داخلية إسرائيلية. الحكومة اليمينية تحتاج إلى جرعات مستمرة من "الانتصارات الميدانية" ولو كانت رمزية لتغطية أزماتها الداخلية، وإظهار الجيش بمظهر القادر على رد الاعتبار بعد فشله في 7 أكتوبر. التصعيد في الضفة يتحول إلى ورقة سياسية داخلية تستخدم لامتصاص غضب الشارع الإسرائيلي، ولإرضاء قواعد اليمين المتطرف التي تطالب بسياسات "يد حديدية". وبالتالي، فإن العمليات في محافظة طوباس ليست مجرد تحرك أمني، بل هي أيضاً عملية تسويق سياسي داخل إسرائيل نفسها، ورسالة للشارع الإسرائيلي بأن الحكومة تسيطر وتفرض هيبتها.
وعلى الجانب الآخر التصعيد كذلك يحمل بعداً مرتبطاً بالمستوطنين واليمين الديني القومي. هؤلاء يرون في الحرب فرصة ذهبية للاندفاع نحو مشروع "يهودا والسامرة الكبرى"، وفرض السيادة الدينية على الضفة. التصعيد تجاه طوباس والشمال وما رافقه من تعزيز للبؤر الاستيطانية والطرق الالتفافية جزء من مسار تدريجي يهدف لضم الضفة عملياً، إن لم يكن قانونياً. المستوطنون اليوم يتحركون بثقة، مستفيدين من غياب الرقابة الدولية، ومن دعم وزراء في الحكومة يرون في التوسع الاستيطاني مصلحة دينية وقومية وأيديولوجية.
في الجانب الجغرافي والاقتصادي، يندرج التصعيد ضمن سياسة أوسع تستهدف إضعاف الاقتصاد الفلسطيني عبر تقييد حركة العمال والتجارة وفرض عقوبات جماعية ومحاصرة القرى والمخيمات لإجبار سكانها على النزوح التدريجي، حيث يستخدم الاحتلال الاقتصاد كأداة ضغط لخلق حالة إنهاك مجتمعي تضعف القدرة على الصمود وتعيد إنتاج تبعية اقتصادية كاملة لإسرائيل. وفي الإطار ذاته، تتكامل الأهداف الجغرافية والاقتصادية للعملية، إذ يسعى الاحتلال للسيطرة على الموارد الحيوية، خصوصاً المياه والأراضي الزراعية والمراعي في الأغوار والمناطق الخصبة، مدركاً أن السيطرة على الأرض لا تكتمل دون التحكم بمصادر الحياة. لذلك، تتحول الاجتياحات والطرق العسكرية والقيود على الحركة إلى أدوات منهجية لخلق بيئة طاردة تدفع السكان تدريجياً إلى الرحيل، خاصة في القرى المحاصرة والمناطق النائية التي تواجه حصاراً يومياً.
الجانب الأخطر في التصعيد الإسرائيلي هو ارتباطه برؤية أوسع تتعلق بمستقبل الضفة الغربية. الاحتلال يتحرك اليوم نحو تثبيت نموذج "الدولة الواحدة بنظامين"، وهو النموذج الذي يجعل من الفلسطينيين سكاناً بلا سيادة، ويحول مناطق (أ) إلى مساحات بلا مضمون سياسي. كل عملية من هذا النوع هي خطوة إضافية نحو تفريغ هذه المناطق من أي قدرة على الحكم الذاتي أو إدارة أمنية أو حتى بقاء مؤسسي. وفي ظل إضعاف السلطة الفلسطينية وتصويرها كعاجزة، تبرز رواية إسرائيل عن ضرورة "ترتيبات أمنية بديلة" تدار من خلال الاحتلال أو من خلال هياكل أمنية هجينة تضمن السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
إذا نظرنا إلى كل هذه العناصر معاً، يتضح أن "عملية الأحجار الخمس" وغيرها من عمليات دولة الاحتلال في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة لم تكن مجرد ردة فعل أمنية، بل كانت حجر بناء جديد في مشروع سياسي طويل المدى. الاحتلال يتحرك بخطة واضحة، فرض الأمر الواقع، تقويض أي مسار سياسي، وتشكيل الضفة وفق مصالحه وحده. ما يجري ليس صدفة ولا استثناء، بل بنية متكاملة تتجسد يومياً في الشوارع والقرى والمخيمات.
هذا التصعيد ـ إذا استمر بالوتيرة ذاتها ـ سيعيد تشكيل المشهد الفلسطيني كلياً. قد يؤدي إلى انهيار تدريجي للسلطة أو إلى انكماش دورها، وإلى اتساع نفوذ المستوطنين، وإلى تغيير جغرافي عميق يطال التواصل بين المدن، وإلى واقع اقتصادي خانق. لكنه أيضاً قد يدفع الفلسطينيين، رغم كل الجروح، إلى التفكير في مسارات جديدة للمقاومة السياسية والشعبية، وربما إلى إنتاج أدوات أكثر تنظيماً لمواجهة هذه المرحلة المعقدة.
أخيراً يبقى المشهد مفتوحاً على احتمالات كثيرة، بعضها خطير وبعضها قد يحمل بذور صياغة جديدة للوعي السياسي الفلسطيني.كما أن المرحلة المقبلة ستعتمد كثيراً على قدرة الشعب الفلسطيني على قراءة هذا التحول بوضوح، وعلى إعادة بناء استراتيجيات المواجهة السياسية والقانونية والشعبية، فالصراع لم يعد مرتبطاً بالحدث العسكري المباشر، بل بات مرتبطاً بإعادة تعريف العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم وهويتهم، وبمحاولة الاحتلال فرض شكل جديد للحياة في الضفة تحت غطاء القوة المطلقة. وفي ظل هذا المشهد ، يظهر ما يجري في محافظة طوباس كمرآة لحقيقة أعمق مفادها أن الاحتلال يسعى لحسم مستقبل الضفة قبل أن يُحسم مستقبل غزة، ورسم خرائط اليوم التالي منفرداً. غير أن التجربة التاريخية تؤكد أن الخرائط التي تفرض بالقوة قد تصمد لبعض الوقت، لكنها لا تصنع واقعاً دائماً ولا استقراراً حقيقياً. وما يحدث في طوباس، بكل ألمه وقسوته، يذكّر بأن الصراع على الأرض لم ينتهِ، وأن الضفة أمام مرحلة جديدة تتطلب وعياً ووحدة ورؤية سياسية فلسطينية قادرة على مواجهة مشروع يراد له أن يتحول إلى قدر مفروض.
