تطرقت رئيسة تحرير الحدث في مقالها الأخير إلى مفارقة الإنحياز بين قوة الحق وحق القوة، كواحدة من الجراح التي تبضع جسد الفلسطيني وتحز أحاسيسه الحائرة على إثر حرب الإبادة البشعة في غزة، وما تلى أحداث السابع من أكتوبر 2023 من مآس ما زال الفلسطينيون، كل الفلسطينيين تحت الاحتلال، يتجرعون مرارتها.
وبينما نحبس الأنفاس لما ستؤدي إليه خطة ترامب، وآمالنا معلقة على إنتهاء هذه المجزرة، على الرغم من كل ما يعتري الخطة من شوائب وتحديات ومصائد لا يمكن للمرء إغفالها فيما يتعلق بالأمل الأكبر، ألا وهو تحقيق الحلم الفلسطيني في التحرر من نير الاحتلال ونيل استقلاله على أرضه، لا بد من الوقوف عند هذه المفارقة لما لها من دلالات عميقة.
باختصار، يمكننا القول بأن الحيرة بين قوة الحق الذي لا جدال فيه، وحق القوة التي تبدو الإنسانية عاجزة عن إيجاد بديل لها منذ الأزل، هي بحد ذاتها حيرة مأساوية. فبرأيي هي مأساة أن يحار صاحب الحق، القوي حكماً بمجرد قيامه والتسليم به، في لجوئه إلى حق القوة عندما يجد نفسه ملزماً بذلك بعدما سدت أفقه كافة على الرغم من تقديمه تنازلات لا مثيل لها كانت إلى الأمس القريب ضرباً من الخيال، ليس ضعفاً بل شغفاً بغد أفضل تفرضه عليه إنسانيته. ذلك أن حق القوة يرتكز أساساً ويكتسب شرعيته من قوة الحق المؤسس له. وهو بذلك، أي حق القوة، يجب أن يتحرر من أية اعتبارات أخرى تتعلق بميزان القوى وقدرة الضحية على الصمود والبقاء أو هشاشتها في وجه عدوها الغادر. فلا قوة تقوى على صاحب الحق، وإلا فلنسأل أطفال غزة وأمهاتها وشيوخها عن كسرهم لأبشع محاولات الإلغاء والإبادة والتهجير. وعندما يصل بنا واقع الحال إلى نقطة تفقد عندها الضحية قدرتها على تحديد كيفية مواجهة العدو وتفقد إيمانها بجدوى أي من مسارات تلك المواجهة، وعلى الرغم من إقرار العالم أجمع بقوة حقها، فإنما نحن أمام مأساة كبرى لا تهدف سوى إلى جلد الضحية وإدانتها، في الوقت الذي تُمنح للجلاد فرصة الإفلات من لعنة ما تقترفه يداه من فظائع لم ير العصر لها مثيلاً.
يمكننا القول بأن الحيرة بين قوة الحق الذي لا جدال فيه، وحق القوة التي تبدو الإنسانية عاجزة عن إيجاد بديل لها منذ الأزل، هي بحد ذاتها حيرة مأساوية
أستميح القارئ عذراً وأعول على وعيه لعدم الوقوع في فهم مغلوط لما تقدم. فالقصد ليس التهليل لحق القوة على الإطلاق، إذ قد يدعي الغاصب المعتدي بأنه صاحب حق يفترضه ويُنمقه ويُقنع الآخرين به، وبالتالي يرتكز إليه في تفعيل "حق القوة" للدفاع عن حقه المزعوم وانتزاعه من ضحية يصورها، وببراعة، على أنها هي من يهدد وجوده. إنما المقصود هنا هو أن الحق، عندما لا يملك العالم برمته سوى الاعتراف به، كما رأينا مؤخراً في تعاقب الاعترافات بالحق الفلسطيني في الوجود وتقرير المصير، حتى وإن لم يعدُ ذلك ظاهر الأمور، يؤسس لمشروعية لا أرى جدال فيها في إبقاء الضحية على قدرتها على تحديد خيارات المواجهة والدفاع عن حقها، وفوق ذلك إيمانها بجدوى مقاومتها، بكافة السبل التي تحدد هي فقط، أي الضحية، أولوياتها وأشكالها، بما فيها تفعيل "حق القوة" عندما لا تجدي أية خيارات أخرى نفعاً للحفاظ على وجودها. ذلك هو ما يجب أن يبقى حاضراً وجلياً طالما آمنا بأن السابع من أكتوبر لم يكن سوى نتيجة لمأساة مستمرة منذ ما يربو على سبعة عقود وليس بداية سوى لمذبحة لم يكن لأي ضحية أن تخال اتساع صدر العالم وضميره لها.
حق القوة يرتكز أساساً ويكتسب شرعيته من قوة الحق المؤسس له
لامس ما كتب في رأي الحدث وتراً مشدوداً في أعماقي، دفعني لحزن عارم لمجرد التفكير بأن القيادة الفلسطينية، والإنسان الفلسطيني، قد لا يزال يتخبط فيما بين قوة حقه، وحقه في القوة، ليس رغماً عن كونه الضحية التي ما زالت تدفع أثماناً لا يرقى لاستيعابها فهمي المتواضع فحسب، بل بسبب ذلك بالتحديد. فهل للعالم أن يقف لبرهة وقفة صادقة مع ذاته، كما فعل في كافة اللحظات التي تمكنت فيها الإنسانية من إنهاء مآسيها الأكبر عبر التاريخ، ويقوم بما لا يقل عن أداء دوره الضروري في ظل فقدان الأمل بصحوة ضمير منعدم أصلاً لدى الغاصب، ولإلزام إسرائيل بوقف تام لعدوانها المستمر ومناوراتها لإفشال خطة تنهي الحرب مع أنها لا تعير "قوة الحق" اهتماماً صادقاً، وهو أقل بكثير من القليل الذي يمكنها القيام به.. وإلا فإننا سنجد أنفسنا نحار وندور مجدداً في دوامة من الألم تُبقي عالمنا أسير مقولة كان جار أبي البسيط يكررها على الدوام، مفادها بأن "درهم قوة خير من قنطار حق".