الحدث- سوار عبد ربه
مع اقتراب شهر رمضان، تتجه الأنظار مجددا نحو القدس والمسجد الأقصى، حيث تتحرك حكومة الاحتلال بخطوات متسارعة تشير إلى أن الموسم القادم لن يشبه أي رمضان سابق. فالتغيرات التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير داخل جهاز شرطة الاحتلال، والدفع باتجاه إعادة هندسة العلاقة مع الأقصى، تتقاطع مع لحظة سياسية وأمنية شديدة الحساسية يصعّدها العدوان المستمر على غزة.
في هذه اللحظة يعتقد الاحتلال، وفق باحثين ومتابعين، أنه يقترب من "الفرصة المفصلية" لإعادة صياغة معادلة المكان: من مسجد حصري للمسلمين إلى "مقدس مشترك"، ومن سيادة فلسطينية إسلامية تاريخية إلى سيادة إسرائيلية مكتملة الأركان.
هذا التحول، كما يرى الباحثون، ليس هامشا في سياسة الاحتلال، بل يحتل مركز الصراع نفسه، إذ يعتبر الاحتلال أن السيطرة على الأقصى هي التعبير الأعمق عن السيطرة على فلسطين كلها. وعليه، يبدو رمضان هذا العام بمثابة اختبار تاريخي: هل ينجح الاحتلال في تثبيت معادلة جديدة؟ أم يصطدم مرة أخرى بصلابة الرباط والوجود الشعبي؟
ضمن هذا المشهد المعقد، تتقاطع شهادات المختصين في شؤون المدينة المحتلة حول ثلاثة محاور أساسية: كيف يفهم الاحتلال الأقصى؟ كيف يستعد لرمضان؟ ولماذا يصعّد الآن؟.
الأقصى مركز الصراع… ورؤية الاحتلال لـ "السيادة"
يستهل رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد، ناصر الهدمي، حديثه من أعمق نقاط المشهد، مؤكدا أن الصراع حول المسجد الأقصى ليس مسألة هامشية، بل يمثل جوهر المشروع الاستعماري منذ نشأته. ويقول: "علينا أن ندرك تماما مركزية هذا الصراع، فسلطات الاحتلال بنت كامل روايتها و(حقها المزعوم في الوجود) على أرض فلسطين استنادا إلى ادعاء السيادة والسيطرة على المسجد الأقصى المبارك. فهي تعتبر هذه السيادة خطا أحمر وترى فيها عنوانا لهيمنتها على كامل التراب الفلسطيني".
وهذا الفهم ينسجم مع رؤية أستاذ دراسات بيت المقدس، د. عبد الله معروف، الذي يؤكد أن "السيادة" أصبحت عنوانا لمعادلة جديدة يسعى الاحتلال إلى فرضها قبيل شهر رمضان. ويوضح في لقاء خاص مع صحيفة الحدث أن "الاحتلال، ولا سيما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، يعمل على تكريس معادلة جديدة في المسجد الأقصى مفادها أن المسجد لم يعد حصرا للمسلمين."
ويتابع معروف قائلا إن الاحتلال يحاول منذ أشهر "نزع الحصرية الإسلامية عن المسجد الأقصى، وتكريسه بوصفه مكانا مقدسا مشتركا."
لكن التحولات، كما يؤكد أ. ناصر الهدمي، لا تقف عند مستوى الخطاب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل دور الأطراف التقليدية المرتبطة بالمسجد، وعلى رأسها الأردن، قائلا: "الاحتلال استطاع أن ينهي السيادة الأردنية، ويقزمها إلى درجة أنها أصبحت إدارة شؤون موظفين، أما من يدخل يقتحم المسجد ويسيطر عليه واضح جدا".
بهذا تُصبح السنوات الأخيرة مرحلة إعادة تعريف كاملة للسيادة داخل الأقصى، وتصبح كل خطوة إسرائيلية جزءا من مشروع طويل الأمد يطمح إلى تحويل المسجد إلى فضاء مزدوج، وربما لاحقا إلى تقسيم مكاني وزماني دائم.
كيف يستعد الاحتلال لرمضان؟
يرى الهدمي أن شهر رمضان القادم سيكون امتدادا مباشرا للعدوان على غزة، لا حدثا منفصلا عنه. ويقول: "هناك أكثر من عامل يؤثر على إجراءات الاحتلال، أولها حربه على غزة، إذ رأينا أنه اعتبر أحد مؤشرات انتصاره ما يفرضه من إجراءات داخل المسجد الأقصى."
ويبيّن أن الاحتلال يتحرك "بخطى ثابتة"، معتبرا أن السيطرة على الأقصى باتت معيارا للتقدم في مشروعه، إذ "يمنح الأولوية القصوى لمشروع تهويد المسجد الأقصى المبارك والسيطرة عليه."
أما فيما يتعلق بشهر رمضان تحديدا، فيبرز جانب شديد الحساسية، إذ يتوقع د. معروف أن تشمل الإجراءات: "تقليل أعداد المسلمين وتقييد وصولهم إلى المسجد، والحد من بعض العبادات المتعارف عليها مثل الاعتكاف، وفي المقابل رفع وتيرة الاقتحامات بحيث يفقد هذا الشهر مكانته الخاصة."
ويضيف أن الاحتلال يتعامل مع رمضان باعتباره "اختبارا مسبقا" لما بعده "فإن تمكن من تنفيذ أجندته كاملة خلال شهر رمضان، فسيكون أكثر قدرة على فرضها لاحقا."
باب الرحمة… المرشح الأكثر خطورة للاقتطاع
يُطلق الهدمي أحد أخطر تحذيراته بالحديث عن احتمال اقتطاع جزء من المسجد الأقصى لصالح اليهود، قائلا: "هناك شخصيات تعمل على ترسيخ فكرة أن لليهود حقا في المسجد كما للمسلمين، وهذا قد يقود لاحقا إلى اقتطاع جزء من المسجد وتحويله إلى كنيس يخضع لسيطرة دائمة لهم."
ويشرح سبب تركيزه على باب الرحمة تحديدا: "قد يتم اختيار باب الرحمة، لأنه يتيح فتح باب مستقل دون الحاجة للدخول عبر أبواب البلدة القديمة، مما يجعل الكنيس المفترض سهل الوصول وآمنا بالنسبة لهم، وقابلا للسيطرة الكاملة."
ويعزز الهدمي تحذيره بمشهد ميداني غير مسبوق: "في الفترة الأخيرة باتت شرطة الاحتلال تنتشر بين المصلين داخل المسجد بصورة لم نشهدها في أي مرحلة سابقة."
رمضان القادم… الأقسى؟
وتقود هذه التطورات إلى تقييم بالغ القسوة للمرحلة المقبلة، إذ يقول الهدمي: "أتوقع أن يكون شهر رمضان القادم الأقسى مقارنة بسابقيه، وأن يشهد مواجهات تتسم بالإجرام والعنف من قبل شرطة الاحتلال."
فالأمر، كما يصفه، لم يعد مجرد إجراءات أمنية بل إعداد لبلوغ "نقطة الصفر"، وهي اللحظة التي يقرر فيها الاحتلال بدء تنفيذ خطوات أكثر خطورة: "الواقع الميداني هو الذي يحدد متى تحين نقطة الصفر، ومتى يبدأ تنفيذ مثل هذه الأفكار."
تغيير قائد شرطة القدس… خطوة سياسية بغطاء أمني
يُعد منصب قائد منطقة القدس الأكثر حساسية، لكونه المسؤول المباشر عن المسجد الأقصى، وإصدار أوامر الإبعاد، وإدارة الاحتكاك. لذلك، لم تكن محاولة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير تعيين الضابط أفشالوم بيليد مجرد خطوة إدارية أو "تدوير وظيفي".
فبحسب ما نشره موقع "واي نت" العبري، يرى بن غفير أن القائد الحالي "يعرقل الإجراءات داخل الأقصى"، ولذلك يدفع لتغييره قبل حلول رمضان.
ويؤكد الهدمي أن خلفية هذه الخطوة أيديولوجية بالدرجة الأولى: "وجود إيتمار بن غفير على رأس المنظومة الأمنية يعكس مرحلة جديدة، فهو يعيّن شخصيات تتبنى فكرته الأيديولوجيا لتنفيذ مخطط يقوم على تعزيز السيطرة على المسجد الأقصى."
ويفصل د. معروف الفروق بين القيادتين قائلا: "هناك اختلافات واسعة بين القيادة الحالية لشرطة القدس والقائد الذي يسعى بن غفير لتعيينه، الفروق تتعلق بالاصطفاف الأيديولوجي."
ويضيف: "لقد تجاوز بن غفير كل ما فعله أردان سابقا، إذ أصبحت تعيينات قادة الشرطة محصورة بأتباع تيار الصهيونية الدينية المنضوين ضمن جماعات المعبد، ما يعني أن الاحتلال بات يسيطر بالكامل على شرطة القدس."
وبحسب معروف، فقد أصبح دور الشرطة واضحا ومباشرا: "حماية المستوطنين خلال اقتحاماتهم ومنع أي محاولة فلسطينية للدفاع عن المسجد."
عام الحسم!
وفي سياق أخطر، يكشف د. معروف نظرة جماعات المعبد لهذه المرحلة: "تعتبر هذه الجماعات أن العام القادم عام الحسم في المسجد الأقصى، بعد أن نفذت كل الطقوس ما عدا القربان الحيواني الذي حاولت تنفيذه ثلاث مرات هذا العام."
وهكذا يتحول تغيير قائد الشرطة إلى خطوة تأسيسية، تتجاوز الأبعاد الإدارية نحو تثبيت بنية أيديولوجية كاملة داخل جهاز الأمن.
ما بعد 7 أكتوبر… لماذا يصعّد الاحتلال الآن؟
يرى الهدمي أن يوم 7 أكتوبر شكل نقطة تحول عميقة في علاقة الاحتلال بالمسجد الأقصى، وأن ما يحدث اليوم بعد جزءا من عملية "رد" مباشر، قائلا: "الصراع احتدم بعد السابع من أكتوبر 2023، فهذا اليوم عبر عن نصرة المقاومة الفلسطينية، فأراد الاحتلال أن يرد الصاع صاعين عبر الإصرار على إظهار انتصاره وعدم التراجع عن ادعائه بالسيادة على المسجد الأقصى."
ويضيف أن الاحتلال يتعمد انتهاج سياسة تراكمية تهدف إلى خلق حالة إنهاك نفسي في الشارع الفلسطيني: "يعمل تكتيكيا ويزيد جرعة المواجهة تدريجيا بما يدفع الناس للشعور بأن المعركة خاسرة."
مواسم دينية يهودية ترفع مستوى الخطر
ويربط د. معروف التصعيد بتوقيت ديني حساس لا يعرفه كثيرون، موضحا أن شهر رمضان سينتهي هذا العام في الثاني من نيسان العبري، وهو الموعد السنوي لمحاولة تنفيذ طقوس ذبح البقرة الحمراء على جبل الزيتون، والذي يتصادف مع عيد الفطر.
كما يشير إلى أن شهر نيسان سيشهد موسم عيد الفصح اليهودي، وهو أهم المواسم لمحاولات تقديم القربان الحيواني داخل المسجد الأقصى. وبحسبه، فإن نجاح الاحتلال في فرض إجراءاته خلال رمضان سيمنح الجماعات المتطرفة "إشارة لقرب إمكانية المعبد الثالث المزعوم".
وقائع التهويد قبل طوفان الأقصى… خلفية ضرورية لفهم اللحظة
تشير بيانات مركز رؤية للتنمية السياسية إلى أن الفترة التي سبقت 7 أكتوبر لم تكن هادئة، بل شهدت أعلى مستويات التهويد منذ سنوات. فقد ارتفعت نسبة الهدم في عام 2023 إلى نحو 60%، ووصل عدد المنازل المهددة إلى أكثر من 22 ألف منزل. كما شهد المسجد الأقصى 258 اقتحاما خلال عام واحد، فيما تجاوز عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد 51 ألفا حتى نهاية نوفمبر. وترافقت تلك الأرقام مع اقتحامات متكررة للمصلى القبلي، وقطع أسلاك السماعات، واعتداءات على المصلين، إلى جانب انتشار غير مسبوق لشرطة الاحتلال في أرجاء المسجد، كما أشار الهدمي.
هذه الوقائع، مجتمعة، تمثل المؤشر الدقيق للمنحنى الذي صعد إليه الاحتلال بعد العدوان، وللسياق الذي يدخل منه نحو شهر رمضان القادم.
رمضان على أعتاب اختبار تاريخي
تشير الخلاصات المتقاطعة بين الهدمي ومعروف إلى أن شهر رمضان هذا العام لن يكون موسما دينيا اعتياديا، بل ساحة اختبار حقيقية يسعى الاحتلال عبرها إلى فرض معادلة جديدة عنوانها تثبيت السيادة الإسرائيلية داخل المسجد الأقصى، وتحويله إلى مكان مقدس مشترك، بما يمهد الطريق لطقوس يهودية غير مسبوقة.
وفي المقابل، يرى المختصون أن العامل الوحيد القادر على تعطيل هذه المسارات هو الإرادة الشعبية الفلسطينية والرباط داخل المسجد، إذ ظل الوجود البشري عبر السنوات الحاجز الأخير أمام مشاريع التهويد. وعلى هذا الوجود يعول الفلسطينيون في القدس مجددا في مواجهة بأخطر مرحلة تقترب مع قدوم رمضان.
