وقفات على المفارق
الوقفة الأولى... وَ "المكتوب يُقرأ من عنوانه!"
مغترب سوريّ أو على الأصح لاجئ سوري قديم مقيم في فرنسا؛ معارضٌ شرس لنظام الأسد وأكثر اليوم لنظام الشرع، وأكاديميّ سوريّ مرموق، وسياسيّ لبنانيّ عضو مجلس نوّاب، أرسلوا لي تباعًا تقريرًا يتناول الجولان السوري المحتل نقلته مواقع عربيّة عن صحيفة "يسرائيل هيوم - إسرائيل اليوم"؛ صحيفة يمينيّة مموّلة من رجل أعمال يمينيّ داعمٍ لنتانياهو، توزّع مجانًا منافسَةً للصحافة اليوميّة الأخرى اللبراليّة إلى حدّ ما والمُباعة... يعني صحيفة بلاط!
وذلك قبل أن أطّلع على التقرير في المصدر. الملفت كان أن العنوان الذي جاءني من لبنان كان: "بسبب أحداث السويداء.. إقبال مرتفع من دروز سوريا للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي" – موقع المشهد.
أمّا العنوان من لدن السوريّين؛ المقيم والمُغترب: "إسرائيل للجولاني شكرًا أبا محمّد حقّقت لنا المستحيل السويداء بداية تحوّل" – قناة مركز القرار في السويداء.
فأين من هذه العناوين الجولان؟! وكما يُقال عندنا: "المكتوب يُقرأ من عنوانه!"
الوقفة الثانية... والتقرير
اطّلعت على التقرير في المصدر فكان العنوان، ترجمة حرفيّة: "ارتفاع %600: انقلاب تاريخي في تجنيد الدروز من هضبة الجولان. منذ انفجار حرب "حربات حديد" (التسمية الإسرائيليّة للحرب على غزّة) تجنّد حوالي 150 درزي من الجولان – مقابل 4 فقط قبل ذلك".
فرضًا أن هذا صحيح، فالصحيفة تعيد ذلك إلى الفترة منذ اندلاع حرب غزّة والتي انفجرت كما هو معلوم قبل مقتلة السويداء بسنة وتسعة أشهر، وسنة وثلاثة أشهر قبل سقوط النظام، فكيف تكون السويداء والجولاني وراء ذلك كما جاء في عناوين المواقع أعلاه؟!
وبغضّ النظر، الجولانيّون مجتمع كما كلّ المجتمعات، فيهم السمين وفيهم الغثّ، ولكن حقيقة تاريخيّة هي أن غثّهم قليل ولا يقارن بغثّ كلّ مجتمعاتنا العربيّة.
هذا أوّلا، وإضافة؛ حدا يفهّمني كيف الارتفاع من 4 إلى 150 هو %600!؟ (ولا آينشتاين ما قدر عليها!) فكيف استطاع مراسلا الصحيفة أو من زوّدهم بالمعلومة الوصول إليها؟!
يعني بالرياضيّات المبسّطة؛ أن ترتفع الـ 4 إلى 150 هذا معناه ارتفاع بِـ %3750!
هذه الأمور والتي تبدو وكأنّها ثانويّة في الموضوع هي لبّ الموضوع، فهي التحريض الممنهج بعينه!
الوقفة الثالثة... والدروز وتحديّات التواجد الراهنة
قبل سقوط النظام السابق في سوريا بأشهر قليلة كنت أعمل على دراسة حملت عنوان هذه الوقفة (لم أنشرها على ضوء التطوّرات التي تسارعت في المشهد الدرزيّ السوريّ)، كنت تناولت فيها فيما تناولت؛ الجولان كاتبًا: "القاصي والداني يعرف أنّ العرب الدروز أبناء الجولان السوريّ المحتلّ منذ العام 1967م، ثبّتوا عروبتهم وسوريّتهم بملاحم نضاليّة من خلال وحدة قلّ نظيرها؛ سياسيّة على اختلاف القناعات السياسيّة، واجتماعيّة على اختلاف القناعات العقائديّة (متديّن وغير متديّن).
وظلّ اختراق صفوفهم محدودًا ومحصورًا في أقليّة قليلة لم تستطع، رغم دعم الاحتلال وأدواته بين العرب الدروز الفلسطينيّين، أن تفتّ من عضد الجولانيّين في مناهضة الاحتلال وأن تفتّ من مواقفهم العروبيّة القوميّة التقدّميّة.
شهدت الفترة ما قبل العام 2011 (انفجار الأوضاع في الوطن الأمّ سورية)، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، أزمة في الصفّ الوطنيّ الجولاني تمحورت في صلبها حول شكل العلاقة مع الوطن الأمّ، ليس في الناحية الوطنيّة وإنّما الناحية السياسيّة.
وتمحورت حول شكل العلاقة مع الاحتلال في أمور حياتيّة معقّدة والعلاقة مع الوطن الأمّ فيها انقسم الجولانيّون بين فريقين؛ الأوّل موالٍ للوطن بلدًا وقيادة والثاني موالٍ للوطن بلدًا دون قيادته.
هذه الأزمة، ورغم أنّها ظلّت محدودة، إذ لم تؤثّر على الأقلّ في الموقف من الاحتلال، لكنّها تركت آثارًا سلبيّة تفاوتت في حدّتها وأثّرت على النسيج الوطني على الأقلّ اجتماعيّا.
"الحرب على سوريّة" في مصطلح الأُوَل، و"الثورة السوريّة" في مصطلح الأُخَر فعَلت ما لم يستطع فعله الاحتلال؛ ضربا المعسكر الوطنيّ بمتراسيه ضربة نجلاء.
هذا الانقسام، الذي وصل في أوج مراحله حدّ الصدام، خلق فراغًا وجد فيه الاحتلال وأدواته وداعموهما من بين قيادات دروز الـ 48 الموالية فرصتهم التاريخيّة لِدقّ أسافين "أسرلة" الجولانيّين.
تضافرت جهود كلّ هؤلاء لاستغلال الفرصة ونجحوا إلى حدّ بعيد في خلق ظواهر أسرلة حياتيّة تضرب اليوم في العمق، وصار من الصعب تلافيها.
الجريمة النكراء التي ضربت الجولان مؤخّرا قاصفة عمر إثني عشر طفلًا، وضعت الجولانيّين في مواجهة أنفسهم. صحيح أن الموقف العقلانيّ الممهور انتماءً طغى وأعاد لديهم ألَقَ مواقفهم التاريخيّة، غير أنّ الساذج من يعتقد أنّه كفيل برفع كلّ ما ترسّب".
الوقفة الرابعة... وعودة إلى تقرير يسرائيل هيوم
بدْءًا يجب أن نعرف أنّ يوم خاض الجولانيّون عام 1981-1982 معركة التصدّي لفرض الجنسيّة الإسرائيليّة وانتصروا (من يريد أن يفهم ما معنى حصار فليعد إلى الحصار الذي فُرض حينها على الجولانيّين).
فطبيعيّ كان أن يسقط البعض في المعارك ويومها سقط بعض الجولانيّين وقبلوا الجنسيّة الإسرائيليّة. هؤلاء وبحكم القانون الإسرائيلي يسري عليهم قانون التجنيد الإجباري، إلّا أنّ المؤسّسة لم تفعّله عليهم.
ومن الناحية الأخرى وخلال كل هذه السنوات وكأمر طبيعيّ كثر الزواج بين جولانيّين وجولانيّات ودروز إسرائيل، طبقًا للقانون الإسرائيلي تُعطى الجنسية بشكل أوتوماتيكي للأبناء إن كان أحد والديهم يحمل الجنسيّة الإسرائيليّة.
إضافة فإنّ عددا من دروز إسرائيل يسكنون في قرى الجولان وهؤلاء أبناؤهم ملزمون بالخدمة.
ولكن حتّى هؤلاء لم يؤتمن جانبهم مرّة من قبل المؤسّسة الإسرائيليّة، ولعلّ في التقرير نفسه البيّنة فيجيء فيه ترجمة: "كذلك في موضوع التصنيف الأمني والذي كان في السابق حاجزًا، هذا الحاجز يمرّ ملاءمة: اليوم الفحص ينفّذ بفاعليّة على يد الـ "شاباك" (المخابرات) ومن يجتاز يجنّد".
وبغضّ النظر عن صحّة ما جاء في التقرير عن عدد المجنّدين من عدمها، وبغياب أيّ إحصاء جولانيّ أهليّ رسميّ، فعلى الغالب أن هؤلاء المتجنّدين هم من هذه الشريحة التي خرجت عن الإجماع الجولانيّ من البداية.
وعطفًا على التقرير وتصريح الجيش أن عدد الشبّاب في الجولان الذين في السنّ الملائم للتجنيد هو 2000 شاب، وحتّى إذا صحّ الرقم 150 فالحديث يدور عن %7.5 وهذه نسبة صغيرة وتقلّ عن عدد المجنسيّن طوعًا أو بحكم الزواج ما بين الجولانيّين والدروز في إسرائيل.
وإضافة فالمعلومات التي نقلتها "يسرائيل هيوم" عن بقيّة الأمور موضوع التقرير، هي عن رئيس مجلس محليّ. الرؤساء في الجولان هم مجنّسون ومعيّنون فرْضًا على السكّان من قبل المؤسّسة وهذه معركة أخرى من معارك الجولانيّين التي خاضوها ببطولة حرصًا على عدم الاعتراف بأدوات السلطة وحفاظًا على انتمائهم.
ولذا ليس غريبًا أن تجيء يسرائيل هيوم بما جاءت به من معطيات مصدرها مثل هؤلاء.
الجيش بالمقابل كان "متواضعًا" قياسًا بأمثالهم فيقول التقرير: "إن في الجيش يعترفون أنّ الطريق طويل ولكن التوجّه واضح، الأرقام تبدو صغيرة ولكن التغيّير "الذهنوي" عظيم".
الوقفة الخامسة... والعطف على الوقفة الثالثة والرابعة
بغضّ النظر عمّا جاء في الوقفتين، الجولانيّون يعيشون اليوم أصعب أيّامهم، فالموبقات التي ارتكبها النظام السوريّ الجديد وأدواته في الجبل، وبمعزل عن الدور الإسرائيليّ الذي يعرفه ويفقهه الجولانيّون جيّدا، وضعتهم كما كلّ الدروز العروبيّين القوميّين في وضع استثنائيّ.
فمطرقة المذابح من ورائهم وسندان الاحتلال وَ "زلمه" من دروز إسرائيل من أمامهم، ولذا فالقلق والتخبّط اليوم بينهم هما سيّدا الموقف تلمسه في كلّ لقاء.
صحيح أن لا خوف على مواقف البالغين من موضوع الانتماء الوطنيّ لسوريا رغم ما حدث وخيبة الأمل القاتلة، وأنّ لا خوف عليهم في الموقف من الاحتلال والاستعداد للتصدّي لممارسته الرابضة خلف التلال استهدافًا لأراضيهم؛ رافدهم الاقتصادي ومثالًا؛ مشروع المراوح الجهنّمي، ولكنك لا شكّ تلمس عندهم هذا القلق والتخوّف المشروعين على جيل الشباب خصوصًا وأنّ حلم العودة للوطن، على الأقلّ في المستقبل المرئيّ، تباعد، وخيبة الأمل من التغيير في سوريا باتت هي الأخرى عند البعض حلم تلاشى إلى أمد بعيد.
هي محنة بكلّ المعايير!
هل هم قادرون على تخطّي المحنة؟!
قاموا عبر تاريخهم من محن أكبر من هذه، ولن تكبر هذه عليهم إن أحسنت قواهم الوطنيّة كما عادتها في الملمّات، لمّ شملها!
الوقفة الأخيرة... بين المتابع المراقب والعارف
التفاؤل الذي عبّرت عنه أعلاه ليس نابعًا موقع المراقب المتابع وإنّما العارف، فقد رافقت كلّ معارك الجولانيّين ككاتب تقارير ميدانيّ عن معركتهم الأمّ ضدّ التجنّس وكمحامٍ رافق مئات معتقليهم في المعتقلات والسجون الإسرائيليّة، لدرجة أن فرضت عليّ السلطات العسكريّة الإسرائيليّة تحديد إقامة ومنعتني من دخول الجولان طوال مدّة الإضراب التاريخيّ.
هذا منبع تفاؤلي ما جفّ يومًا ولن يجفّ، والجولان سوريّ عروبيّ كان وسيبقى!