تنتهج الحكومة الإسرائيلية استراتيجية قائمة على الخنق الاقتصادي للسلطة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، عبر توظيف أدوات عّدة من أهمها إيرادات المقاصّة، من خلال الحجز والاقتطاع، وذلك على مدار السنوات الماضية، ولكن التطوّر الدراماتيكي والخطير كان في منتصف العام 2025، حين أوقف وزير المالية الإسرائيلي المتطرف "سموتريتش" تحويل كافّة إيرادات المقاصّة، واحتجزها بشكل كامل، الامر الذي أفقد الخزينة العامة (68%) من إيراداتها، وبلغت أموال المقاصّة المحتجزة لدى إسرائيل حوالي (13) مليار شيكل، وأثر ذلك سلباً على الإيرادات المُجباة محلياً من ضرائب محلية ورسوم مختلفة، بسبب انكماش دورة الاقتصاد، وأدخل السلطة الفلسطينية في أزمة مالية هي الاعمق منذ تأسيها، كون إيرادات المقاصّة هي العنصر الحاكم في الإيرادات الفلسطينية. الأمر الذي أثر سلباً على قدرة السلطة الفلسطينية على الوفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين العموميين، والموردين، وعلى تقديم الخدمات للمواطنين.
وبالتزامن مع ذلك، عملت إسرائيل أيضا على توظيف أدوات إضافية لخنق الاقتصاد الفلسطيني، منها أزمة تكدّس الشيكل، واغلاق السوق الإسرائيلي امام العمال الفلسطينيين منذ أكثر من عامين، والتهديد بقطع العلاقة البنكية، والحصار المطبق على كافة القرى والمدن الفلسطينية من خلال سياسة البوابات، واعاقة حركة التجارة، وغيرها. وعلى الرغم من إطلاق الصندوق الطارئ لدعم الموازنة العامة، الا انه يبقى محدود الأثر، خاصة وان المبالغ التي تعهدت بها الدول محدودة جدا، ومن عير الواضح مدى دوريتها او استمراريتها.
وبالتالي لا انفراجة للأزمة المالية دون حلول لقضية المقاصّة، وضرورة الانفكاك من قيودها، ومن هنا توجد ضرورة العمل على كافة المستويات (الدولية/ القانونية/ الدبلوماسية/ المحلية) على حلول جوهرية لقضية المقاصّة، كونها سيف مسلط على رقاب الشعب الفلسطيني، وأداة استراتيجية إسرائيلية لتقويض الكيانية الفلسطينية عبر الخنق الاقتصادي، وذلك من خلال استثمار الدعم الدولي، وزخم مؤتمر نيويورك لحل الدولتين، ومخرجات مؤتمر المانحين بقيادة المملكة العربية السعودية وفرنسا، والذي تضمن الإعلان لأول مرة بالالتزام بالعمل على مراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي الناظم للعلاقة المالية ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ووضع إطار جديد لتحويل أموال المقاصّة، لذا يجب البناء على هذا الإعلان والاستثمار في الزخم الدولي للعمل على حلول لقضية المقاصّة قبل فتوره، وعبر الدعوة لمراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي ووضع إطار جديد للعلاقة الاقتصادية ما بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، من خلال مساري عمل:
على الأمد القصير: تولّي دول/ دولة إدارة ملف المقاصّة، كلياً او جزئيا، من خلال متابعة إجراءاتها المختلفة، خاصة مع التحوّل الرقمي فيها، وإطلاق برنامج محوسب مشترك في العام 2022، لإدارة التقاص، والعمل على ضمان تحويل المقاصة، والعمل مرحليا على إحالة جباية بعض الضرائب لوزارة المالية الفلسطينية بشكل مباشر مثل ضريبة "البلو" للمحروقات، وغيرها.
على الأمد البعيد: نقل الصلاحيات الجمركية الى السلطة الفلسطينية من خلال "ميناء جاف"، وتولي وزارة المالية الفلسطينية ادارته واجراءاته الجمركية، ان كان في داخل المناطق الفلسطينية او بالتعاون مع دول الجوار، الأمر الذي بمنح السلطة الفلسطينية صلاحيات التخليص الجمركي بشكل مباشر.
أمّا على الصعيد المحلي، فتوجد ضرورة لتعزيز القاعدة الإنتاجية، وذلك من خلال حزمة تحفيزات للقطاع الخاص ولمنشأت الأعمال للتعافي من آثار الحرب، وخاصة منشآت الاعمال الصغيرة ومتناهية الصغر، والاستثمار في القطاعات الزراعية والصناعية من اجل إحلال الواردات الفلسطينية بدلاً من الإسرائيلية والمستوردة، لتعظيم الإيرادات المحلية والتخفيف من الإيرادات عبر المقاصة، عدا عن دور ذلك في التخفيف من نسبة البطالة، وإعادة البعث للدورة الاقتصادية، إضافة الى ضرورة الاستثمار في الاقتصاد الرقمي، والطاقة البديلة، والتي ستعزز أيضا من الانفكاك من قيود المقاصّة.
وختاماً، حتى لو بدت الحلول المقترحة صعبة التطبيق، خاصة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، إلّا أنّ بقاء الوضع على ما هو عليه، هو الأشد خطورة، لذا فان ملف الاشتباك الاقتصادي هو ضرورة قصوى، ومن هنا توجد ضرورة لإطلاق استراتيجية وطنية فلسطينية تشاركية، وباستثمار حالة التضامن مع الشعب الفلسطيني، واعتراف الدول بالدولة الفلسطينية، والزخم الرسمي والشعبي العالمي الداعم للقضية الفلسطينية، نحو العمل على الانفكاك من قيود المقاصّة، فبدون إيرادات المقاصّة لن تنتهي الأزمة المالية، وستضيق مرونة عمل السلطة الفلسطينية في تلبية احتياجات المواطنين والخدمات الأساسية يوماً بعد يوم.
