كان المقصود دائماً دولة فلسطينية في غزة وجزء من سيناء. وقد كان ذلك الخيار "استراتيجياً" بالنسبة لإسرائيل إلى درجة القبول بدولة فلسطينية غزية تقودها جماعة "حماس الإرهابية". ولا بد أن تواطؤ نتانياهو المعروف في تمرير المساعدات المالية القطرية لغزة لم يكن الهدف منه بناء قوة القسام التي "ستنفذ" عملية السابع من تشرين الأسطورية، وإنما رشوة قيادات المقاومة لكي تدمن الرفاه والسلطة وتتحول إلى "دولة". كان ذلك سائغاً ومقبولاً تماماً من قبل مجمل النخب الصهيونية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأموال تمر عبر الحقائب إلى غزة تحت مسمع وعيون الاحتلال، كانت عملية قضم الضفة شبراً فشبراً تتم يومياً وفي وضح النهار. جاء السابع من تشرين ليفاجئ الجميع، ويقلب الطاولة على رؤوس من توهموا أن غزة قد حيدت، وأنها ستكتفي بنفسها دولة فلسطينية عتيدة، وتترك الضفة لمصير الاستيطان والابتلاع الكامل. وقد استثار فعل المقاومة الغزية غضب القيادة الصهيونية إلى حد اتخاذ قرار بأن غزة لا "تستحق" أن تكون دولة تنعم بالدعة والرخاء، وإنما تستحق مقاومة وشعباً الإبادة والتطهير بلا رحمة.
لسوء حظ صانع القرار الصهيوني أن ضغط شعوب العالم، خصوصاً في أوروبا وأمريكا إضافة إلى صمود المقاومة وشعبها على نحو أسطوري تمكنا أخيراً من إقناع الجميع بعدم إمكانية تنفيذ مشروع التطهير. وهكذا تم التراجع عن ذلك، والعودة إلى مشروع دويلة غزة بعد القيام بالإعدادات الضرورية، وعلى رأسها تطويع تلك المساحة الصغيرة ووضعها في النهاية تحت حكم فلسطيني على مقاس احتياجات اسرائيل بقدر ما هي السلطة في الضفة وربما أكثر. يفتح قرار مجلس الأمن 2803 الباب لمسار "تقرير المصير" بعد "إصلاح السلطة وإعادة إعمار غزة".
وعلى طريقة الراحل بيرس في كتابة الجمل المفتوحة التي تسمح لاحقاً بالتأويل، هذا على افتراض أن أمريكا أو اسرائيل تخشيان أحداً في منطقتنا، فإن القرار لا يتضمن أية إشارة إلى وحدة الضفة وغزة، ولا يتطرق من قريب أو بعيد إلى انسحاب إسرائيل من الضفة أو وقف الاستيطان...الخ.
وهكذا يشي القرار بمقدار لا بأس به من الوضوح أن المقصود هو تأسيس دويلة في غزة وحدها بعد تكريسها دمية سياسية يعيش فيها الفلسطينيون تحت البصطار الإسرائيلي والأمريكي محاصرين بإسرائيل ومصر السيسي وبحر الروم بحيث لا يمكن تخيل حدوث أي شكل من الاختراق. تفوح رائحة استثناء الضفة واستبعادها في ثنايا القرار بقوة تزكم الأنوف؛ ذلك أن القرار برمته إنما يتحدث عن قوة دولية ومجلس سلام ونزع سلاح وإعمار ...الخ في سياق غزة، ويتمخض عن ذلك كله خلق البيئة الملائمة ل"تقرير المصير" للفلسطينيين بعد استكمال تهيئة غزة بالذات، وهنا بالتحديد لا يرد ذكر الضفة أبداً، وهو ما يسمح لنا بالاستنتاج، مثلما يسمح بالقول لاحقاً، إن القرار الأممي الذي "جب ما قبله" ووافق عليه العرب والسلطة الفلسطينية، إنما تحدث عن تقرير المصير للشعب الفلسطيني في غزة باعتبار أن بيت القصيد هو إقامة دولة فلسطينية وليس استعادة أرض فلسطين أو حق العودة إليها ...الخ.
لذر الرماد في العيون يتحدث القرار المصاغ بعناية عن "إصلاح السلطة"، ويغفل بذكاء إخبارنا أنه إذا صلحت السلطة فإنها يمكن أن تنتقل لحكم غزة وتترك رام الله تحت السيادة الإسرائيلية. إما إذا لم "تصلح" السلطة للمهمة فإن مجلس السلام الذي يقوده سيء الصيت توني بلير سيعمل ومعه ما يشاء من الوقت على تأسيس نخبة/قوة قادرة على حكم دولة غزة بالاستناد التام إلى المعايير الصهيوأمريكية.
سوف تدعى السلطة دون شك، إذا استجابت تماماً للخطة الترامبية إلى حكم دولة القطاع، مع الإقلاع العلني عن أية "مطامع" في الضفة التي يمتنع القرار بأريحية تامة أن ينبس بكلمة واحدة عما يجري فيها من توسعة للاستيطان وتشريع للبؤر الجديدة وتقدم قانوني فيما يتصل بفرض السيادة من قبل الكنيست على الضفة، وهو ما يتقدم باضطراد بانتظار لحظة الحقيقة: غزة كلها، وربما مع جزء من سيناء للفلسطينيين، بينما الضفة اسرائيلية مئة بالمئة. ليست السياسة محلاً للنوايا الحسنة، ولكن إن شئنا جدلاً الحديث في ذلك، فإن واشنطون كانت ستشير ولو على نحو عابر إلى ارتباط الضفة بغزة في موضوع الدولة، وكانت ستشير بجملة إلى الاستيطان. لكن الحديث عن تقرير المصير جاء في صيغة "إمكانية الدولة الفلسطينية" بعد إصلاح السلطة، والإعمار، وتثبيت الأمن، ونزع السلاح، ونجاح تجربة القوة الدولية. وليس هناك التباس أن ذلك كله إنما يقتصر على غزة وحدها لا شريك لها. لقد فتح القرار الباب على مصراعيه لسيناريوهات مرعبة من قبيل أن تصبح غزة:
o كيانًا فلسطينيًا منزوع السلاح.
o تديره السلطة الفلسطينية تحت إشراف دولي.
o يُسمّى الدولة الفلسطينية أو الكيان الفلسطيني أو السلطة الغزية، أو أي اسم "معقول" يقع عليه الاتفاق.
أما الضفة فسوف تواجه ما يبدو جلياً منذ عقد على الأقل:
o البقاء تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
o استمرار الضم التدريجي الزاحف أو الإعلان الرسمي عن ضم جزئي/كامل لما تبقى من أراضيها.
o تحويل الحكم الذاتي فيها إلى إدارة بلدية فقط.
سيقول من يفضلون النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس أن إسرائيل قد أعادت للفلسطينيين أرض غزة كاملة غير منقوصة، مع حصولهم على أرض جديدة مقتطعة من سيناء، قد تكون أكبر من الضفة ذاتها.
إضافة لذلك سيشيد هؤلاء بإنشاء كيان فلسطيني له مؤسسات "دولتية" وحكومة وعلم واعترافات أممية. وسيتم تقديم العزاء والسلوى بضياع الضفة انطلاقاً من أن الاستيطان فرض أمراً واقعاً فيها لا يمكن تغييره. بداهة أن ذلك كله لا بد أن يترافق مع اعتراف العرب جميعاً، ربما باستثناء اليمن إن لم يتم إسقاط أنصار الله، بحق اسرائيل في الاحتفاظ بالضفة والجولان وجبل الشيخ وربما جنوب لبنان. لكن هل ستقبل اسرائيل بعد ذلك كله بترسيم حدودها النهائية؟ بداهة لا، فهذه الوجبة تظل "تصبيرة" في انتظار قضم المزيد على طريق تحول اسرائيل إلى دولة ممتدة المساحة بما يسمح لها بالسيطرة الأكيدة على المحيط الذي تندمج فيه وتسيطر عليه.
