الأربعاء  08 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جَميدٌ وكُتب / بقلم طارق عسراوي

2016-10-25 09:30:20 AM
جَميدٌ وكُتب / بقلم طارق عسراوي
طارق عسراوي

 

 في السابعة صباحاً صحوتُ أركض صوب الجسر عائداً إلى رام الله، انه أسوأ يوم للسفر بين ضفتي النهر، سبت الحَشْر – كما أطلق عليه - حيث تُغلَق المعابر باكرا، كما غالبية أيام هذا الأسبوع الذي يصادف به مرور أعياد رأس السنة العبرية. كلما توجهت للجسر تذكّرت الشاعر خليل حاوي في قصيدته الجسر، ورحت أدندن " يعبرون الجسر في الصبح خفافا .. أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد".

 

ولكنني للحقيقة، أعبر الجسر مثقلاً بالأحمال هذه المرة، بحقيبتين مكدستين بالكتب والجميد والهدايا. بين الجسرين، وقبل دخول قاعة القادمين أتعاون مع عامل الأمتعة في حمل الحقائب الثقيلة إلى حزام التفتيش الالكتروني فينتبه لنا مجند الحراسة الواقف في زاويةٍ كاشفة للمسافرين، يختارني دون مئات المسافرين ليسألني ماذا تحمل في حقائبك؟ أقول له بنبرة حاسمة: جميداً وكتباً! تقول الحكاية الشعبية : إن ملك مؤاب الدبياني طلب من رعايا مملكته طهي اللبن مع اللحم في يوم معين خلافا للتعاليم اليهودية، ليتأكد من وقوف شعبه إلى جانبه في وجه اليهود الذين كانوا في حالة نقض للعهود مع تلك المملكة.

 

وحين نفّذ شعب مملكة ذيبان رغبة ملكهم في ذلك اليوم قام بنسف الاتفاقات والعهود مع اليهود، ولذلك حملت الوليمة هذا الاسم، فهل يكون الجندي قد أدرك مغزى جلبي الجميد!. دخلت قاعة القادمين، وأخذت دوري في طابور العائدين الطويل على شباك الجوازات، حيث مجندة تجري حديثا مع أخرى تجلس إلى جانبها، وتجيب مكالمة هاتفية، ثم تعيد جمع شعرها في رباط الشعر، وبين كل ذلك تدقق في أوراق المسافرين على مهل قاتل، ويعتبر من قبيل الحظ العاثر مثلاً أن تقف امامك عائلة أو امرأة مع اطفالها، فذلك يعني نصف ساعة من التدقيق بوجه أطفال لا يجدون سببا واحدا يجعلهم لا يركضون في القاعة الواسعة، مما يدفعك فطريا للجري خلفهم واحضارهم واحدا واحدا امام المجندة لاختصار الوقت! والمتمرس بعادات الجسر يحمل حقيبة صغيرة على كتفه يضع فيها كتاباً ينفع في قتل الوقت وهش الذباب السمج.

 

وللكتاب مثلبة بين فوائده العدة في وقت الجسر، فحدث أن سألتني مجندة ذات عبور عن الكتاب الذي احمله بيدي ولما عرفت انني في نصفه تقريبا، شاءت ان تعذبني بسوط القراءة، فقالت، وابتسامة مكر على وجهها: "أقعد على كرسي عشان تخلص الكتاب"، وامتد ذلك لثلاث ساعات من التأخير احتجزت خلالها وثائق سفري! صرت أحمل بيدي من يومها حقيبة أخفي بها الكتاب الذي أحمله قبيل وصولي لشباك أمن الجوازات، تفاديا لعداء الجنود تجاهه.

 

في ليلة امس وبينما كنت أجهّز الحقائب وأضع فيها الكتب التي اقتنيتها وضعت جانبا كتابك الأخير كي ترافقني حكايتك الطريق المحكومة بشمس الاغوار الحارقة، وانتظار الحافلات الخانق فوق نهر الأردن. فكّرت حينها، ماذا لو وضعتك مثل شمس ساطعة على حافة نافذة المجندة، وأمام عينيها مباشرة، وبقصد هذه المرة، أجعلك عرضة للاشتباك معها، بينما أقف جانبا أراقبها وهي تقلّب الصفحات، وتقطب حاجبيها بينما تتعالى مفرداتك الغزيرة على فهمها فلا تمس منك أيّ معنى ! تناولت الكتاب مجدداً، وعدت أقرأ من حيث انتهيت، فبزغ وجهك من بين المفردات، وبات ملمس الورق ناعماً مثل ملمس البرقوق، ورحت أسير خلف إيقاع خطواتك الحثيثة في المدينة، أمرق من زقاق السوق، أصعد درجات المرسم، ألهثُ في ظلّ شجرة التوت. حينما نبّهني الواقف خلفي لنداء المجنّدة، كانت أصابعي تلامس وجنتك، ولهفتي تلحف خلف ضحكتك المبحوحة. صدّقيني لقد تلعثمت كثيرا حين سألتني المجندة: ماذا تخفي خلف ظهرك ؟!