الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الطريق إلى القدس يعبرنا ولا نعبره!!

ناريمان شوخة – رام الله

2017-02-10 05:32:58 PM
الطريق إلى القدس يعبرنا ولا نعبره!!

قصص الحدث
 

بقعة سوداء مستبدة، يلعنها كل من يجتازها...
يوجد بها أناس ينتظرون دورهم بفارغ الصبر على ممر طويل يعتريه التعب ويعج بالضوضاء والفوضى الداخلية التي لا ترى بالعين المجردة، وبالرغم من بشاعة المكان إلا أن هناك بعض التفاصيل التي تجعلك تنسى شتم الحدود قليلاً، وتفكر بما يمكن أن يذيب جليد انتظارك.

 

كذلك العجوز صاحب الوجه الممتلئ بالتجاعيد، يرتكز على الجدار اللعين، فرغم حقارة هذا الحائط إلا أنه أمتص قليلاً من تعبه، وفي مشهد آخر تعتريه الرومنسية، تجد شاباً بصحبة خطيبته للمرة الأولى إلى القدس؛ مشهد يجمدُ غضبهم ويمنحهم وقتاً إضافياً لتتشابك أيديهم وتلتقي عيونهم، بينما يروّح الشبان عن أنفسهم بالغناء تارةً والتقاط صور "السلفي" تارةً أخرى: "يلا يا شباب سلفي وطابور خلفي"، غير مهتمين بالمكان والتعب وما يفعله هؤلاء الجنود خلف المتاريس المرصوصة أمام غرف التفتيش.
 

أيقظت شرودي ركلة طفلة صغيرة على ظهري محمولة على ساعد أمها، فلم أقوَ على النظر إليها خوفاً من رؤية ملامحها تتغير من البراءة إلى الغضب، لذا قررت أن أنظر إليها بلمحة سريعة لأبادلها ضحكة عبثية، ثم أردفتُ قائلة ًفي سري: "يا صغيرتي، عندما تكبرين لن تغضبي من الانتظار أو من أشعة الشمس الحارقة، بل ستغضبين لكونك تنتظرين رؤية جزء من وطنك".
 

وفجأة تصاعد رنين هاتف بإلحاح بصوت أحمد قعبور: "فليمسي وطني حراً، فليرحل محتلي..."، وتجاهل صاحبه الرد بنفس الإلحاح. متى يا قعبور؟ متى؟ ونحن ما نزال نقف هنا كسجناء ينتظرون إحصاءهم ونقلهم إلى المعابر؟ متى ونحن نتعرض لعمليات تفتيش مذلة في سياسة احتلالية ممنهجة هدفها إرغامنا على العيش في أسوأ الظروف وأقلها كرامة ًوإنسانية؟!


ولا أحدثكم عن السلوك المريب الذي يعاملوننا به في أدق التفاصيل، فبعض سنتيمترات للحية عفا عنها مقص الحلاق لزمن يسير، قد توقظ فيهم رعباً أمنياً وريبةً لا نهاية لها، بينما زي شرعي لامرأة محتشمة، قد يزرع فيهم رعب العالم أجمع. يا إلهي! لماذا يعتقد هؤلاء الحمقى أن كل مسلم ملتزم هو بالضرورة مشروع إرهابي لإيذائهم وزعزعة أمنهم؟ لا بل إنهم فقط يريدون زرع تلك الصورة في أذهان العالم للإساءة للمسلمين والإسلام!


نمشي بخطوات ثقيلة كما لو أننا تخلينا عن أوزاننا حتى في سيرنا ونمضي كعابري سبيل نظمأ لرؤية شمس من نوع آخر، فكلنا هنا نجتمع تحت هدف واحد، وهو الوصول إلى ما بعد الحاجز؛ حاجز قلنديا البغيض.
 

وبعد ساعات ثقيلة من الانتظار والوقوف والصراخ والتعب لنصل جميعاً في النهاية إلى شباك تجلس خلفه جندية شقراء تداعب شعرها بكل استفزازٍ ومزاجية رعناء، وبجانبها جندي أخرق يضحك من سحناتنا وملابسنا، غير مدركين لأهمية انتظارنا وحاجتنا الضرورية للعبور إلى وجهاتنا المختلفة، فقط كان ما يسترعي اهتمامهم إذلالنا والتأكد من تصاريحنا، هذه التصاريح التي لم تمنح اعتباطاً أو كرماً، بل التي منحت بالتحديد لدعم اقتصادهم ومحالهم التجارية ومجمعاتهم الاقتصادية العملاقة، حيث أن التسوق من مناطق الداخل، سيساهم في أرباح وكسب مبالغ طائلة على حساب أسواق الضفة، إضافة إلى ترسيخ الفكرة البائسة في أذهان الناس بأن لا إمكانية للدخول إلا بأوامرنا واستثناءاتنا الخاصة.

وبعد إجراءات التثبت من الهويات والتصاريح المزعجة التي تذكرنا بهيمنة الاحتلال، يقول الجندي بلهجة عربية مكسرة: "خذ هوية وزيخ من دور"، أي أنه سمح لي بالعبور، أخيراً أغمضت عيني وزفرت في ضيق: "لكِ الله يا قدس".

 

وبعدها مررت ببوابة أشبه بالجحيم، مركبٌ عليها جهازٌ يصدر طنيناً مزعجا ًمعلنا ًعن تواجد أي شيء حديدي قد يضر بأمنهم، وهكذا تفحصني الجندي في استياء ثم قال في عجرفة: "أنت روح".
"انتظر… نسيت أن تفتش قلوبنا لترى كم نكرهكم ونستحقركم وندعوا عليكم بالهلاك"، تمتمت في نفسي وابتلعت نظراته المتعجرفة، وتقدمت في الممر الضيق المؤدي إلى آخر ممر.


قطعت تذكرتي وصعدت إلى الحافلة وجلست في أقرب مقعد قابلني لأخفف من الإجهاد والإعياء الذي حل بي، ثم وضعت رأسي المثقل بالتفكير على الشباك واستحضرت كلمات ابنة عمي صفية التي قالتها لي يوما: "للقدس حروفٌ لا تليق إلا بها، للقدس كلمات تنحني كرامة في حضرتها، سيدة الأرض وأم الحياة هي القدس، هي الأولى والأخيرة هي إيلياء ودار السلام، ولكن أبداً لن تكون أورشليم المزعومة". قطع شرودي سير الحافلة عندما وصلت لكلمة "أورشليم". توقفت الحافلة قليلاً عند لوحة خضراء مكتوب عليها "أورشليم" ليأكدوا لنا أننا وصلنا.


هي القدس وليست "أروشليم"، هم لم يدركوا أن الفلسطيني باق في بيته وأرضه، ومهما فعلوا فمفهومنا عن الأرض والوطن وارتباطنا ببيوتنا وقبورنا يختلف تماماً عن مفهومهم.
استعدت نفسي وروحي وحياتي كأنني ولدت من جديد، ما أروع سماء القدس التي تبدو أوسع وأكثر إشراقاً من أي مدينة أخرى، إذ ترى الحمام يحلق بدوائر وحلقات فيها وكأنه يردد اسم الله بورد صوفي، فوق ساحة واسعة مقدسة بالسلام وأشجار النخيل الشامخة وأبواب يتجمع البعض على أعتابها وأقواس حجرية تعلوها زخرفات قديمة وأعمدة تنتصب بشموخ رغم كل الحقب التاريخية التي مرت بها، وأصوات تعلو من كل اتجاه وجموع من السياح ومن الفلسطينيين حيث هناك متسع للهموم والأحلام والحكايات.

 

رغم محاولتي تحاشيهم إلا أنك أينما تذهب تراهم أمامك، رمقت بطرف عيني قبعاتهم السوداء العريضة والضفائر الطويلة التي تتدلى من رؤوسهم، وأشكالهم المنفرة لا تليق بروعة الأقصى، رأيت من بعيد الباب الكبير الذي يدخل منه الناس إلى الحرم، ودخلت عبره، كان باب القطانين، لأرى قبة الصخرة حية أمامي، لم أكن أتصورها بهذا الحجم والجمال، راودني شعور غريب وأحسست بقشعريرة لاذعة تسري في أوصالي وتجمدت نظراتي نحو القبة الصفراء الذهبية ذات الطابع المعماري الخاص، وتلمست جبهتي صخور الأقصى الحانية ثم توجهت نحو المسجد الأقصى مباشرة.


دخلت.. وريثما تدخل صدقني ستذرف من عيونك دمعة لا تعرف بماذا تفسرها، أهي دمعة خشوع أم رهبة أم انتماء أم استياء لما حصل ويحصل بها من تخريب وتدمير وتهويد؟! لا أعلم، لكن أعدك بأنك ستبكى عندما تخوض في فنائها، كل شيء في قمة الجمال والإتقان. هي جنة على الأرض.
 

الرخام والذَّهب والنوافذ العالية والنقوش الجميلة والألوان الممزوجة والآيات القرآنية وصوت الشيخ الذي ينادى إلى الصلاة: "الله أكبر..الله أكبر"، صليت ما فاتني وصليت ما استطعت من الركعات فامتلأ المسجد بصبغة العروبة التي تحافظ على الروح الإسلامية للمكان.
 

بعدها خرجت وتوجهت إلى الدرجات الحجرية العريضة ومررت من بين البسطات الموجودة على جوانب الطريق التي تقودك نحو البلدة القديمة المتاحة للمارين فرجة ممتعة على أزقة الحي الضيقة المتعرجة والكثير من الدكاكين التي يباع فيها كل ما يخطر على البال؛ الأقمشة المطرزة بألوان العلم الفلسطيني والأحجار الكريمة والبخور والتحف الخشبية والكثير الكثير.
 

ومضيت وأنا مشدودة من هول الموقف تبصرت في أرجاء المكان حركة الباعة ووهج المسك برائحته تنشرح الأنفس والناس على أشدها ومشاعر لا يمكن لأي كلمة من قواميس اللغة أن تصفها، والأناشيد الروحانية التي يشغلها أصحاب المحلات على أبوابهم: "هو في مثلو الوطن يابا هو في مثلو؟" كلها تمنحك شعوراً بالاطمئنان، رغم أن اليهود في كل صوب ومدخل وكل زقاق.

 

مجدداً ثانياً وثالثاً وعاشراً، أكرهكم…

 

تناولت بعضاً من كعك وفلافل القدس الذي له نكهة خاصة، وشربت الشاي الأخضر بالنعناع في مقهى قريب على بعد شوارع قليلة عن البلدة القديمة، هناك ساحة صغيرة مليئة بمقاهٍ من نوع خاص، هناك يجلس رسامون يأتون من أماكن مختلفة يعرضون على المارة ورواد المقاهي رسوماتهم التي تحاكي تقنية الكاريكاتير؛ من بينهم لفتت انتباهي رسمة لطفل ذي عشرة أعوام أجبر على ترك فلسطين ولن يزيد عمره حتى يستطيع العودة إلى وطنه، إدارة ظهره وعقد يديه لرفضه للحلول الخارجية، وملابسه المرقعة وظهوره حافي القدمين لانتمائه للفقر.
 

هي رسمة الشهير ناجي العلي "حنظلة" مرت على هذه الرسمة سنون عدة، ولكنها ما زالت تحتفظ بجمالها وكينونتها.
 

وفجأة انتبهت إليّ سيدة مسنة وأنا أخبئ صورة وخريطة عن القدس وبيدي قلم، حينما أنهينا الصلاة في جامع جمال عبد الناصر برام الله، همست بلطف في أذني: "هل لك أن تحدثني عن القدس يا بنيتي؟ لم أرها طوال حياتي؟"
 

اعذريني يا سيدتي، وكذلك الأمر بالنسبة إلي، فلا أستطيع وصفها وتصويرها لك بدقة، هل لي أن أقرأ لكِ كلماتي التي كتبتها شوقاً عن القدس للتو؟
وأعتذر منك أيها القارئ، حاولت أن أكتب عنها رغم عدم رؤيتي لها، فعاصمتنا الأبدية لن تبدو غربية عني حتى لو لم أرها!