تضمن كتاب حِرفة السوسيولوجي،مقدمات إبستمولوجية،نصوصا تهم التاريخ وفلسفة العلوم،مثلما انطوى على بيان حول السوسيولوجية، ذي حمولة واسعة جدا.
عمل اشتغل عليه بيير بورديو إلى جانب جون كلود شامبوردون وجون كلود باسرون،وصدر سنة 1968،ثم طبعة ثانية سنة 1972،بحيث وضع مقدمة إبستمولوجية للسوسيولوجية المعاصرة،توخى مضمون هدفها الأول بشكل واضح نحو ترسيخ بشكل أكثر صلابة الشرعية العلمية لهذا المجال،بوضعه بكيفية لالبس فيها ضمن امتدادات،الإرث الذهني ل''علوم الطبيعة"،الفيزياء ثم البيولوجية بالدرجة الأولى: آخر مولود للعلوم التجريبية''هذا العلم مثل الأخرى،تتطلع السوسيولوجية صوب نموذجها''وبالتالي يمكنها الاستفادة من مكتسبات ماسبقها،بالاستناد أساسا على تاريخها وكذا الإلمام بسيرورة تطورها.
هكذا،بوسع السوسيولوجية أن تستدعي تماما نظام''العلم التجريبي'' شريطة إزالة عدد معين من العوائق ثم تبني سلسلة''مبادئ"،ضمنها ضرورة تحقيق''القطيعة''و"بناء الموضوع'' (العنصر الأول والثاني)،كمعطيين جوهريين.
هكذا سيتم ''دمج ''على الوجه الأكمل إن صح القول،الابستمولوجية وتاريخ العلوم،ثم المنهجية،بخصوص الممارسة الفعلية للبحث السوسيولوجي،الذي يتوجه نحوه بجلاء مشروع هذا الكتاب.تشير أولى الإحالات الواردة في المقدمة إلى الخلفية الفكرية لهذا ''الوضع".
حضر الدرس الوضعي لأوغست كونت،لكن خاصة فلاسفة تاريخ العلوم،مثل جورج كانغليم وغاستون باشلار،قصد التذكير بعدم جدوى فصل المنهجية عن تطور العلوم،وكذا "فصل المنهجية عن الممارسة"بل يلزم دمج التقنيات ضمن مجموع عمليات البحث بما في ذلك أكثرها نظريا.يستحضر المفهوم المتبنى هنا،التصور الباشلاري عن''العقلانية التطبيقية'' (العنصر الثالث للمقدمة)،من هنا استبعاد الأتمتة البيروقراطية لعمليات البحث ثم أخيرا، تحديد''التحقق العلمي"من خلال الالتقاء التدريجي لنسق من البراهين تفترض اشتغالا جماعيا جيدا للنسق العلمي.
*وضعية تأملية في السوسيولوجية :
''الرسالة''الرئيسية،المقتضبة أحيانا،التي تستوقفنا غالبا عند إطار حِرفة السوسيولوجي،على الأقل ضمنيا أنه لاوجود للتجريبي دون النظري،ولاوجود لمنهجية دون ممارسة،ثم لاجدوى بخصوص نشدان التحرر من كل فرضية قَبْلية قبل الانخراط في بحث على مستوى العلوم الاجتماعية،بتوظيف أو الأفظع،تأليه''تقنيات''غير محايدة سوى مظهريا.
التدخل''الفلسفي''في حقل تجريبي،لاتتوخى مع ذلك مهمة السوسيولوجي الاستسلام لإغواء وضعية ''الانجاز''أو التأسيس،وهي حالة تقليدية للفلسفة أمام العلوم الاجتماعية،لكن بالأحرى المساهمة في تعميم الهابيتوس :"بخلاف التقليد المتمسك بمنطق البرهان،رافضا بالتالي ولوج ألغاز الإبداع،واضطراره بالتالي التأرجح بين بلاغة التوضيح الشكلي ثم علم نفس أدبي للاكتشاف،نود هنا تقديم وسائل امتلاك استعداد ذهني يعتبر شرطا للإبداع وكذا البرهان''(الطبعة الرابعة، ص17).
هذا يفسر أيضا بدون شك،أن هذا الكتاب شكَّل موضوعا للعديد من القراءات السريعة أو التجزيئية،وقد ركزت على إدراجه ضمن فضاء النظريات الفلسفية التي ناقشتها فرنسا سنة 1968(اعتبر تجليا من بين تجليات''فكر68''،الذي وسمته ''القطيعة''مع الإيديولوجية الذاتية،تيمة نصادفها ثانية عند لوي ألتوسير وفق صيغة أخرى)،أو على العكس،رأوا فيه مجرد''ذراع مسلح"للأعمال التجريبية المرتكزة على عمليات''إعادة الإنتاج الاجتماعي''وكذا البحث في التماثلات البنيوية(هكذا جاء الوصف الساخر لرايمون بودون في كتابه''المناهج في السوسيولوجية''،الصادر سنة 1970).
أيضا،صحيح،أنه رغم إلحاحه على الشروط العملية لبث هابيتوس علمي،لاتتناول مضامين حِرْفة السوسيولوجي النواحي''العملية''لمسار رجل علم الاجتماع،ويمثل الشيء اليسير بخصوص إمكانية اعتباره''مرشدا''أو''دليلا''،بينما يؤكد بقوة على أولية التطبيق في العمل العلمي.
إضافة إلى ذلك،أوضحت مقدمة الطبعة الثانية،الصادرة سنة1972، إلى أي حد أدرك الكتَّاب حدود منظور من هذا القبيل :"بإمكان كل مبدأ أن يتخذ صيغة قاعدة،أو على الأقل، تمارين لاستبطان الوضعية؛مثلا،بهدف إبراز مختلف الممكنات التوجيهية التي ينطوي عليها مبدأ مثل أولية العلاقات،فينبغي تبيان ذلك تبعا لأجزاء،وبوسعنا المبادرة إلى هذا الأمر خلال حلقة دراسية،أو بشكل أفضل ضمن فريق للبحث،بفحص بناء عيِّنة،تهيئ استمارة أسئلة،أو تحليل سلسلة لوحات إحصائية،وكيف يحكم هذا المبدأ الاختبارات التقنية للعمل البحثي(وضع سلسلات حول الساكنة انطلاقا من تباينات مختلفة في إطار علاقات معتبرة،إعداد أسئلة،تعتبر فرعية بالنسبة لسوسيوغرافيا الساكنة نفسها،تسمح بتحديد الحالة المعنية داخل نظام للحالات حيث تأخذ كل معناها،أو كذلك تعبئة تقنيات خطية وكتابة آلية تسمحان بضبط إجمالي وشامل لنظام العلاقات بين العلاقات التي كشفت عنها اللوحات الاحصائية"(ص5- 6). بالتأكيد،في حالة غياب إمكانية التوافق حول طبيعة المابعدي،فلن يتجلى قط.
تخلص تماما مشروع هذا العمل من ''تزكيات''عدة أو اتخاذ مواقع منهجية بعينها،لذلك سيدحض وضعية ''تسيّد'' ''المنهجيين''وكذا ''المنهجية''،وضعية تحددت باعتبارها نظاما معياريا مرتبطا بممارسة نمطية وبيروقراطية للبحث،ويترك أسئلة المنهج عند الخلفية، دون الرغبة في تجريدها من الأهلية :ينبغي أن تشكل موضوع جزء ثالث و التطرق إليها في الفصل الثالث المتعلق بتقديم النصوص.
نتيجة محتوى أفكار هذا العمل،جعلته مؤهلا،إلى قراءة فلسفية :لم يتضمن سوى القليل من التحليل التجريبي بالمعنى الحقيقي للكلمة،نوعيا وكميا،وقد فاض بالمفاهيم المجردة والإحالات على ''مدارس"فلسفية أو علمية متباينة جدا،مما ربطه بالتقليد الفرنسي المدرسي، عبر مصنَّف شارح لنصوص فلسفية،بيد أنه فعل ذلك وقد طور كليا مرافعة جذرية لصالح البحث التجريبي وضد التعميم النظري السابق لأوانه،أو بالأحرى ضد'' ملخصات'' توفق بين الكتَّاب الكبار،مما يبعده في الوقت ذاته عن التقليد السكولائي.انطلاقا من ذلك،يتموقع ضمن امتداد سوسيولوجي راديكالي لحالة فتجنشتاينية(المقصود فتجنشتاين)،ينفتح بنا صوب شيء آخر غير حقيقته،ويحثُّ بتواضع على تأمل''استعمالات''النظرية والخطاب السوسيولوجي في الممارسة اليومية.يلزم إذن النظر إليه باعتباره ''مقدمات'' بالمعنى المطلق للمصطلح.
*كتاب متكامل :
توخى هذا المنجز لنفسه ''التكامل''.لذلك تموضع عند نقطة عبور بين التقاليد الكبيرة للعلوم الاجتماعية التي تختبر مع سياقنا هذا،أوج معارضتها(على الأقل ظاهريا)منطلقين من السوسيولوجية التجريبية الأنغلوساكسونية،وتحديدا ''الوضعية الأداتية"فالتفاعلية المتبادلة ثم البنيوية،ومن كارل ماركس والماركسية مرورا بالمدرسة السوسيولوجية الفرنسية.يكفي،بالتأكيد،من جهة ثانية،هذا المنحى التكاملي لشرح الصعوبة التي واجهت الشارحين بخصوص وضع الكتاب ضمن المجال الفكري :سواء تحدثنا عن''الدوركايميين''(نسبة إلى دوركايم)،أو أنصار''ماكس فيبر'' وكذا''الماركسيين"،بل أيضا،لا''النظري"ولا ''التجريبي''،ولا المعارض للبحث الكمي،أوالمتعصب له،إلخ.إذن، بشكل أكثر تحديدا،استند كتاب حِرفة السوسيولوجي على''مفهوم لنظرية المعرفة السوسيولوجية،جعل منها نظام مبادئ يحدد شروط ممكنات جل الأفعال وكذا الخطابات السوسيولوجية بالمعنى الخالص للمفهوم،وانطلاقا من ذلك فقط،مهما كانت نظريات النظام الاجتماعي المرتبط بالذين ينتجون أو أنتجوا أعمالا سوسيولوجية باسم هذه المبادئ".
أقام العمل في المقام الأول،هذه الإرادة المتكاملة على تمييز بين :''النظرية الخاصة للنظام المجتمعي''،والتي تميز كاتبا أو مدرسة،وكذا''نظرية المعرفة الاجتماعية"المتبلورة عمليا في سياق الممارسة المجتمعية،بناء على مسوغ الهابيتوس العلمي المشترك لدى كتَّاب ثم التقاليد التي تطرح باعتبارها متباينة: "من الممكن تحديد مبادئ معرفة المجتمعي بصرف النظر عن نظريات المجتمعي التي تفصل بين المدارس والتقاليد النظرية"(ص 108).
توسعت الصفحتان 48و 49 فيما يتعلق بتبيان هذا التعارض،إلى أن بلغ مستوى قويا من خلال توافق مفترض''ميتا-علمي"أو حول''المبادئ''وكذا تباينات حول"النظريات الجزئية'' للحقيقة المجتمعية.
بالتالي،مايميز جوهريا السوسيولوجية،تآلف كبير لمفهوم العلوم عند السوسيولوجيين الرئيسيين،بغية التصدي للدوكسا الأكاديمية،التي تخلق تعارضات مصطنعة،و"ثنائيات إبستمولوجية''نمطية (الفردانية/الكلِّيانية،إلخ)،أو تلك التوافقات الخاطئة تبعا لخلاصات سوسيولوجية.
تقوم تلك الوحدة،أبعد من الانقسامات النظرية والإيديولوجية، التي تكون فقط وجيهة عندما يتعلق الأمر باستحضار الوزن الخاص لمختلف العوامل الاجتماعية أو التأسيس التجريبي لجهاز مفهومي أو نظرية ''محلية''(''إقليمية''أو "جزئية'')،قابلة لكي تصف وتؤول حقيقة عالَم مجتمعي،بمعنى حينما تتشكل"المقدمات الابستمولوجية''،للقطيعة والبناء.
إحدى المقومات التي استدعت الحالة التكاملية لكتابنا حول حِرفة السوسيولوجي، تكمن في''فرضية غياب الوعي"،من خلال طرح إشكالية أن الفاعلين الأفراد غير مدركين تماما لمجمل العوامل التي تحكم تصرفاتهم،فرضية يميزها أصحاب هذا الكتاب،عن تلك المتعلقة بوجود''لاوعي"معتم و ساكن،والذي شهد العديد من التغيرات والصياغات داخل علوم الإنسان،ثم أكثر،ضمن سجال متوسط المعرفة.
طريقة أخرى،بالتأكيد أكثر إجرائية،من أجل صياغة فرضية الامتثال التي تدعي مبدأ"الحتمية المنهجية''(ص 31)،وبكيفية دقيقة فكرة أن عِلل تصرف لاتُختزل إلى مايدركه الفاعلون عفويا،في إطار وهمية شفافية أفعالهم،أو مطلق "حرية" "اختياراتهم''،بينما أمسكت بهم أفخاخ تصنيفات عفوية.
ادعاء''مسلمة عدم الوعي"،وإن تخلصت من كل افتراض أنثروبولوجي،قد أحدث العديد من الالتباسات،والتناقضات الجذرية،بل وساهمت في مضاعفة الانقسامات الواضحة ولم تخول إمكانية استيعابها.بالنسبة للبعض،يربط استحضار قضية عدم الوعي،مؤلفي هذا العمل بإبستمولوجية حتمية(بل قَدَرية)تلغي الفعل الفردي: شكلت لازمة للعديد من "انتقادات بورديو''غاية اليوم،سواء ضمن نطاق السوسيولوجية الفرنسية أو العالمية.وبالنسبة للبعض الآخر،فالحديث عن تلك المسلمة،وضع السوسيولوجي أو العالِم في إطار سياق علاقة''مهيمنة"على الفاعلين وكذا (لانهائيات)قدراتهم المعرفية والإبداعية :هكذا الشأن مع النقد"الاتنو-منهجي"والذي نعاينه ثانية بين طيات العديد من"تيارات"السوسيولوجية المعاصرة.
هذان الملاحظتان المشككتان بخصوص المفهوم المطروح من طرف أصحاب كتاب حِرفة السوسيولوجي،أقرتا في كل الأحوال البداهة التالية: فشل العمل في أن يفرض على نطاق واسع رؤية تبناها تتعلق بالتقارب الميتا-علمي،وساهم بالأحرى بشكل مفارق،في إغناء بعض الانقسامات التي ادعى سابقا كونها بلا أساس.إقرار،لايلغي بالتأكيد أطروحات فقراته،لكنه يؤكد عدم وجود''قوة أصيلة للفكرة الصحيحة''على مستوى المجال الابستمولوجي،ولا أيضا باقي المجالات الأخرى،وبأن مختلف الالتباسات لن تتبدد سحريا نتيجة التعابير''المعنية بتحقيق التكامل''،ويذهب بالصراعات حول الكلمات نحو أبعد من النظريات''الجزئية''بحيث تلامس أيضا ''المبادئ''أو على الأقل بعض"مبادئ'' البحث السوسيولوجي.
في هذا السياق،اشتغل جان كلود باسرون على تفاصيل رؤية تحرر العلم الاجتماعي من الوهم أمام هذا التقارب المستحيل مظهريا.في المقابل،يمكننا التساؤل،إذا كانت الانقسامات لاتترجم عجز الحقل فيما يتعلق بعمله على تقعيد إطار أدنى للاتفاق يقوم مع ذلك''موضوعيا".
*كتاب حِرفة السوسيولوجي وفضاء الإحالة :
ندلي بتوضيح ملموس عن حالة التكامل التي سعى إليها هذا العمل،قدر رهانه على"التمثل"وكذا اتخاذ موقف،اختياره لنصوص بدقة متعددة الأصوات :
قاربت استشهادات الفلسفة وتاريخ العلوم ثلث النصوص تقريبا(14نصا)،مع رجحان قوي جدا لباشلار وكانغليم،قياسا للعديد من العلماء الآخرين،إبستمولوجيين أو مؤرخين أنغلوساكسونيين (داروين، كامبيل، ويند، كابلان) ثم بيير دوهيم الفيزيائي الفرنسي ومؤرخ العلوم ؛أما بالنسبة لدوركايم والدوركايميين فقد اتجه الاختيار نحو إحدى عشرة نصا،سبعة لدوركايم،اثنين لفرانسوا سيمياند واثنيين أخريين لمارسيل موس؛ثم تأتي السوسيولوجية التجريبية الأنغلوساكسونية المعاصرة(7نصوص)،من خلال التمثيل لها بكتَّاب متنوعين جدا على مستوى النظريات وكذا المناهج التي وظفوها(جون غولدثورب،ديفيد لوكوود يمثلان السوسيولوجية التجريبية البريطانية،بفضل الحمولة النظرية لنصين،ثم ب. م. بيرجر /س. و. ميلز/ شاتزمان/كاتز/شتراوس،أسماء تعكس توجهات متعددة داخل السوسيولوجية الناطقة باللغة الانجليزية)،ماكس فيبر(4نصوص)،فلسفة اللغة واللسانيات(ثلاث كتاب،من بينهم فتجنشتاين)الأنثروبولوجية(ليفي شتراوس،مارسيل ماجي،مالينوفسكي)،كارل ماركس وأخيرا بانوفسكي.تبقى الإشارة،إلى أن ماركس والماركسية يشغلان هنا موقعا صغيرا ضمن مجموع أحال كثيرا على أعلام أنغلوساكسونيين.
ملفت للنظر،التنوع الكبير للموروث الذي استعاده ثانية هذا العمل،لقد بدت لنا،متقاربة أساسا حول عدد معين من ''المبادئ''،وفي الوقت نفسه،هذه"المبادئ''،العامة اتسمت بخاصية أن تكون مندمجة وضمنية ثم ''تطبيقية" مثلما هي"نظرية"،ويقدم الكتاب نفسه بمثابة توضيب متأمِّل في نموذج التعميم البيداغوجي،لهذه المبادئ،مع رفضه في ذات السياق وضعه ل''وصفات''خاصة بالمنهجية المعيارية.بنفس مستوى إقراره،بأن وضعية من هذا القبيل تعتبر ملائمة لانتعاش الالتباسات وسوء الفهم.
إلى جانب انتقاء النصوص،اقترح الكتاب بيبليوغرافية موسعة،منحت مجالا واسعا إلى السوسيولوجية التجريبية الأنغلوساكسونية(لازارسفيلد،بودون،روبرت ميرتون…).وكذا الانتروبولوجية واللسانيات،دون التغافل عن ريمون آرون وجان بياجي.شكلت أعمال تلك السوسيولوجية التجريبية،"وضعية مرجعية''غالبة،تموقع في إطارها العمل،واستثماره في الوقت نفسه لدلائل إبستمولوجية وكذا استلهام نصوص تأسيسية.
وقد اندرج عرض الكتاب تحت كنف''رعاية''ثنائية النظرية الدوركايمية وكذا التاريخ وفلسفة العلوم،سنلاحظ مع ذلك بأن الإحالات التي أدرجت كإشارات أسفل الصفحات منحدرة بدورها غالبا من الفلسفة والابستمولوجية(لاسيما إبستمولوجية العلوم الاجتماعية) أنغلوساكسونية(كارل غوستاف هيمبل، دينيس ريشتي، كامبل،إلخ)أو فلسفة اللغة(فتجنشتاين وكذا امتداداته) المعاصرة.
يعتبر مجال الإحالات في الوقت ذاته فلسفيا وسوسيولوجيا،أوروبيا وأنغلوساكسونيا (الأمريكي والبريطاني بدرجة أقل)،نظريا وتجريبيا،مما ساهم في التشويش على الحدود المألوفة للمنظومة الأكاديمية.
*عمل سجالي :
خلف هذا المظهر التضامني،يظل أيضا الكتاب،ربما قبل كل شيء،مهمة ضد محاولات عدة،انزلاقات و''هفوات''طبعت إبستمولوجية علوم الإنسان،بل الابستمولوجية عامة :لقد استهدف خاصة الازدواجية غير القابلة للانفصال التي تؤلف بين ثنائية فيلهلم دلتاي والوضعية الآلية في إطار تقسيم مشؤوم بين وضعيتين،الرفض المطلق لعلوم الطبيعة وكذا الاستنساخ الحرفي لمناهج يُزعم أنها ناجحة،وقد عرضت معايير عمياء على مستوى التصديق تنسى ببساطة مجرد فحص جدوى الأدوات.هكذا،يرفض الكتاب الحالي التصورات البيروقراطية والمتدرجة هرميا ل''عمليات البحث".إنه يرد الاعتبار للبناء النظري مع العمل على تثمين ممارسة البحث التجريبي،مجازفا بالسعي لإبرازه خلال ذات الوقت باعتباره'' تحت- نظري''(تُستبعد''نظرية المجتمعي"إلى مرحلة ثانية)ثم"تنظيريا"(قد ينظر إلى التركيز على''بناء الموضوع"،والعديد قد استولى عليهم هذا التأويل،مثل تأكيد لوجهة نظر متسيِّدة للسوسيولوجي).
بناء على ثنائية العمل هاته،يمكننا من جهة ثانية،الاستنتاج بأنه كذلك"تسوية" بين حالتين :وضعية ترفض التطور المفرط في الاستقلالية للإبستمولوجية أو المنهجية،لصالح تطبيق انعكاسية تستند على البحث التجريبي(وضعية مثلتها بعد ذلك الإبستمولوجية ''الفعلية''لبيير بورديو،لاسيما مع الأجوبة،علم العلم والانعكاسية،مخطط للتحليل-الذاتي…)؛ ثم وضعية فلسفية أكثر،عند التقاء الإبستمولوجي والفلسفة التحليلية،مثلما انكب عليها جون كلود باسرون(الاستدلال السوسيولوجي،الفضاء اللا-بوبري للاستدلال الطبيعي)والذي تطور بعزم ''إلى جانب''البحث التجريبي،في إطار حوار متين تقريبا مع الأخير.
ينطوي هذا العمل على انتقادات صريحة ضد العديد من انزلاقات السوسيولوجية المهيمنة : التجريبية الوضعية التي تطورت في الولايات المتحدة الأمريكية وكذا أغلب البلدان؛"إغراء النبوءة"التي تحكم السوسيولوجي غالبا،حيث علاقته مع الجمهور غير المهني غامضة بنيويا؛امتثال السوسيولوجية للموجِّهات السياسية،أكاديمية الكتَّاب''تجميع لحصيلة المكتسبات النظرية"و''النظريات الكبرى"… على مستوى المسار العلمي،فقد شُرِّحت بإسهاب العديد من الأخطاء المتداولة،ك:الماهوية،بحث في ''الطبيعة الأساسية''،توظيف كلمات متأتية من حقول أخرى أو الحس المشترك.
إن استهدفت الانتقادات غالبا مقولات سجالية في الصميم("سوسيولوجية عفوية''،"ثرثرة يومية"،"مقتضى الحياد الإيتيقي"،أصبح''عقيدة"،'' موضة المنهج")أو ''المذاهب''("التجريبية''،"الوضعية"،"التنبوئية"،''التعصب الاثني''،إلخ)،فقد تناولت أيضا صراحة بعض الكتَّاب :فريدريش هايك ممثل الذاتية(ص 19)،روبرت ميرتون الذي منح أهمية مفرطة للصدفة في تاريخ العلوم(ص 29) ،ثم تالكوت بارسونز بخصوص توفيقه الخاطئ"بين النظريات الكبرى"(ص 45)،ثم العودة مرة أخرى إلى تنظير بارسونز وميرتون(ص 47 -46)،وضعية تم في إطارها مقاربة سوسيولوجية جورج غورفيتش من خلال نماذجه ذات الأبعاد المتعددة(ص 47)،بارتون ولازارسفيلد بكيفية خافتة أكثر،بخصوص عدم كفاية تسمية أدوات جديدة من أجل عمل ل"البناء''(ص 53) ،ثم إلتون مايو،فيما يتعلق بعدم اكتراثه برهانات الطبقة،الإيديولوجية،والسلطة،ثم من جديد بارتون ولازارسفيلد بالنسبة ل''العِرقية المنهجية''،الإحصائية و توظيفهما المتوقف على مناهج نوعية(ص 66)،ثم روبرت بيرستدت،كاتب خلال فترة مابعد الحرب لمقالة في الجريدة الأمريكية للسوسيولوجية سلطت الضوء على المنهج الاتنوغرافي،استتبعها نجاح كبير بعد ذلك.
*موروثات وتقاليد وحوارات :
تذكرنا في المقام الأول الوضعية التي تبناها هذا العمل،بإميل دوركايم في كتابه : قواعد المنهجية السوسيولوجية،وبالفعل،ربما صُنِّف كتاب حِرفة السوسيولوجي،ضمن سياق سنوات 1960،كبلورة لمخطط دوركايمي''متجدد''على ضوء تطور السوسيولوجية العالمية،لكن أيضا فلسفة اللغة.إنها لحظة الارتقاء القوي ل''الوضعية'' الأداتية المتأتية من الولايات المتحدة الأمريكية،والتي أثارت،كردة فعل وبدلا من استعراض ''جواب سريع''،إلحاح الكتَّاب على مسألة بناء الموضوع وكذا الرهانات المتعددة لتوظيف المعجم العلمي.
الأبحاث الابستمولوجية وكذا تاريخ العلوم وفلسفة اللغة،والتي فتحت مجالات أمام الأبحاث العقلانية والتجريبية في الفلسفة(العقلانية التطبيقية)،ساهمت في ''توطيد'' السوسيولوجية بين طيات التاريخ''العادي"للعلوم.طرح تصنيف النصوص كمخطط أولي''الخواطر الأولى للقطيعة وتقنياتها"،كما أن جزءا من تناول العمل قد احتفظ''حسيا''بهذا الوضع للنقد المنهجي للغة''.أيضا،استلهم أساسا السوسيولوجية التجريبية الأنغلوساكسونية،لكن باعتبارها خلفية و''معطى بارزا''(قدر كونها تجسيدا للتجريبية والوضعية)وكذلك مصدرا لإرث ملتمس .لقد رأينا خاصة،بأن الإحالات على الأخيرة، استفاضت حين تقديم النصوص والبيبليوغرافية،بينما غابت تقريبا في النصوص المنتقاة،ولم يظهر حضورها خاصة سوى مع مناسبة"النقد- ذاتي''(نموذج نص إليهو كاتس).
استدعى هذا العمل،عبر سياقاتات مختلف مناهج السوسيولوجية،ضمن أفق إبستمولوجي وتأملي.لكن دون الدخول في تفاصيل توظيفها.اللازمة،التي أصبحت ثابتة في عمل بورديو،انطلاقا من النصف الثاني لسنوات 1960،الإلحاح المقترن بإرنست كاسيرر،على"نظام العلاقات الموضوعية''الذي يمثل موضوع السوسيولوجية.مفهوم،وقد أفضى إلى البحث في"التماثلات البنيوية''،سيقود إلى تأمل نقدي حول التحليل المتعدد المتغيرات :"ينبغي أخيرا الاستفسار،بخصوص إمكانية أن نطرح خلال كل مرة،أمام التساؤل الابستمولوجي،منهجية تحليل المعطيات التي أظهرت قدرتها كي تطبق على مختلف أنماط العلاقات الكمية،وتحديدا التحليل المتعدد المتغيرات: فعلا،حينما نفترض أنه بوسعنا المبادرة كي نفصل تباعا نجاعة مختلف تغيرات نظام علائقي شامل تؤثر داخله،بغاية تناول الفعالية الخاصة بكل واحدة منها،تمنع هذه التقنية ذاتها من تناول الفعالية التي يمكن لعنصر ما الاحتفاظ بها في خضم اندماجه ضمن بنية بل تحديدا الفعالية البنيوية لنظام العوامل"(68- 69).
نشير بأن كتاب حِرفة السوسيولوجي تضمن نقدا قويا لتوظيف استمارة الرأي(ص 62)،توسع في عرض ذلك مقال بورديو الشهير''لايوجد رأي عام''الصادر سنة 1973،وكذا ملاحظات شتى حول رهانات التوضيح الاستدلالي للموضوع العلمي.يستند على مارسيل ماجي وعمله المعنون ب"مرشد الدراسة المباشرة للسلوكات الثقافية"قصد تسليط الضوء على الملاحظة الاثنوغرافية شريطة أن تكون ''متسلحة''على المستوى الابستمولوجي.
تيمة الانعكاسية حاضرة جدا بين ثنايا عملنا هذا،لاسيما مايتعلق بالخلاصة التي تحاور بين الابستمولوجية النقدية للوضعية(بحيث نلاحظ تناغما مع المفهوم الذي اشتغل عليه رايت ميلز في الضفة الأخرى من الأطلنطي)وكذا سوسيولوجية المعرفة(ضمن مسار دوركايم ومانهايم).بالفعل،تقدم لنا صفحات الكتاب صياغة دقيقة لضرورة''التحليل السوسيولوجي-الذاتي''وكذا حدوده :على أساس مجموع الحقل العلمي،ستخول''الضوابط المتقاطعة''تطورا جماعيا،لأنه''لايمكن لموضوعية العلم الاستناد على مقوم متقلب كما الشأن بالنسبة لموضوعية العلماء''(102ص ).
يتجلى بوضوح العدو الأول لكتاب حِرفة السوسيولوجي :إنه''الإغراء الوضعي"،الذي وصل ذروته أواسط سنوات 1960،حقبة الاستيراد المتحمس للتقنيات القادمة من أمريكا إلى أوروبا ثم الانخراط في إيمان علموي،ستقوض،أو على الأقل أضعفت انتقادات السنوات التالية : ستكون مابعد 68 أيضا حقبة مبالغة- تنظيرية،لاسيما من الجانب الماركسي…
أخيرا،طرح المُؤَلَّف مفهوما ل''الحاضرة العلمية"حيث يساهم النقد المتسلح بأعمال الزملاء في انبثاق عقل علمي صلب أكثر فأكثر(تم إقراره بشكل جماعي)،يتيح للسوسيولوجية الابتعاد عن ''نجاح مدني"لصالح نوع من''الباطنية''وفق الصياغة،والاستشهاد الأخير لدوركايم.
*خلاصة :
وسم إذن،كتاب حِرفة السوسيولوجي مرحلة مهمة في خضم الصراعات الداخلية للسوسيولوجية،ليس فقط الفرنسية بل العالمية،النقد الابستمولوجي للوضعية الذي سادت سنوات 1960 ،تذكر صفحات العمل بوجاهة المفاهيم الابستمولوجية للمؤسسين(ماركس،دوركايم، ماكس فيبر)،وبكيفية حديثة أكثر،ركز على وحدتها،القائمة على هابيتوس مشترك،بمعنى"مبادئ علمية مستبطنة''استثمرت في البحث.لهذا عبأ مصادر فلسفية مستعارة من المذهبين الكبيرين(الفلسفة الانغلوساكسونية للغة والتاريخ وفلسفة العلوم الفرنسية)،والتي أمدته بوسائل قصد ترسيخ الشرعية العلمية للحقل.
إن أخفق العمل في خلق"توافق حول المبادئ"مثلما تطلع إليه،فسيكون من الصعوبة بمكان شرح هذا الفشل بغير تحليل أكثر عمقا لبنيات الحقل السوسيولوجي،والتي أدركها جزئيا،على الأقل جزئيا.
أيضا،يمكننا اعتبار هذا المشروع منجذبا بين تأكيده على التوافق ثم البعد السجالي،مما حال دون وضوحه التام بخصوص أهدافه،كما أن غياب التتمة، أضفى حقا، مزيدا من الصعوبة على مستوى التأويل.بالتالي،يدعو كتاب حِرفة السوسيولوجي إلى إبداع قسم آخر بل وتوثيقه.
*مصدر المقالة :
*Pierre Bourdieu Jean claude chamboredon et Jean claude
Passero :Le métier de sociologue ;Paris 1973.pp ;1- 9.