الجمعة  29 آذار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الموسيقى كعدسة لفهم التاريخ وحَل الأسئلة المركزية للهوية الفلسطينية

2023-03-13 11:59:36 AM
الموسيقى كعدسة لفهم التاريخ وحَل الأسئلة المركزية للهوية الفلسطينية
الموسيقى الفلسطينية ساهمت في نشر علامات مميزة للهوية الفلسطينية

تدوين- سوار عبد ربه

قدم الموسيقي الفلسطيني عيسى بولص، محاضرة بعنوان "الأغنية الفلسطينية ومجريات تطورها وانحسارها منذ الحرب العالمية الأولى حتى أوسلو"، عَرَضَ فيها بحثا يسلط الضوء على التطور التاريخي للموسيقى في فلسطين والمؤدين والملحنين والفرق الموسيقية، وعلى الطرق العديدة التي صاغها الموسيقيون ونشروا من خلالها علامات هوية فلسطينية مميزة طوال القرن العشرين، متتبعا كيف تم التعبير عن هذه الهوية تاريخيا عبر سياقات محلية ووطنية وإقليمية، ذلك باستخدام الموسيقى كعدسة لفهم التاريخ والتجربة الفلسطينية بشكل أفضل وكذلك إبراز أهمية الموسيقى في المساهمة في حل الأسئلة المركزية للهوية الفلسطينية.

 

عيسى بولص

ما قبل عام 1948

يقول الملحن والباحث الفلسطيني عيسى بولص، إن المصادر تكشف عن مشهد موسيقي تواجد في السياقات الريفية والحضرية حيث كانت الأغاني تشكل جانبا مهما من الحياة الاجتماعية وتعتبر أداة قوية للتواصل، إذ أن الزجالين كانوا يوظَّفون لأداء حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات الدورية وكانوا يجلبون الأخبار إلى القرى والبلدات ويناقشون القضايا الآنية، وقد تضمنت هذه الأنشطة ارتجالات شعرية ولحنية باللهجة العامية العتابا والمعنى والميجنا والشروقي، أو الأنواع الموقعة الفرعون والدلعونا والمربع وظريف الطول والقريدي، وكانت بالغالب يرافقها أنواع مختلفة من الرقص.

وبحسب بولص، بدأت التسجيلات في فلسطين تظهر من العقد الأول للقرن العشرين في الإطار المشرقي العام للصناعة الموسيقية، وتشير المصادر إلى وجود صناعة موسيقية لبعض الموسيقيين والمغنيين الذين عملوا في فلسطين منهم أحمد الشيخ، وكانت هذه الصناعة تلازم تلك التي ظهرت في مصر.

عرض لروّاد النهضة الموسيقية الفلسطينيّة قبل النكبة

أما على المستوى الشعبي استمر الفلسطينيون في التعبير من خلال الأغنية عن مفاهيم تتعلق في محيطهم الآني بكافة تعقيداته وفقا لبولص، وفي أواخر العشرينيات بدأت تظهر معاني الأغنية السياسية ذات معان موسيقية أبعد من تلك التي كانت متداولة في سياق الأغاني الشعبية، كأغاني نوح إبراهيم، ونمر ناصر، وكذلك القصيدة التي تبعت الأحرف الأبجدية التي نظمها عبد الرحمن البرغوثي في رثاء محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير قبيل إعدامهم عام 1930، (من سجن عكا طلعت جنازة).

وبهذه الفترة بدأت تظهر ممارسات موسيقية تعنى بالموسيقى الغربية من قبل أناس كانوا قد تدربوا على آلات غربية في ظل البعثات التبشيرية، كيوسف البتروني، سلفادور عرنيطة وأوجستين لاما.

عصر النهضة: انتشار إقليمي واسع النطاق

يقول الباحث إن الموسيقى في عصر النهضة كانت مثيرة جدا، إذ ظهرت شركات تسجيل مثل "بيدوفون"، وحقق الموسيقيون الفلسطينيون في العقد الأول من القرن العشرين، انتشارا إقليميا واسع النطاق، تبعته تسجيلات في العشرينيات والثلاثينيات للعديد من الموسيقيين الفلسطينيين مثل رجب الأكحل، ثريا قدورة، نمر ناصر، إلياس عوض ونوح إبراهيم، وشملت هذه التسجيلات أنواعا عديدة من الأغاني منها القصيدة، النشيدة، الموال، والليالي، الأغاني الحضرية الخفيفة، الطقطوقة، الأغنية الشعبية الريفية الفلسطينية، الأدوار، والموشحات.

وكانت مواضيع هذه الأغاني عاطفية، وطنية، سياسية ودينية، أما الغناء فكان إما باللهجات العامية المحلية، بدوي، فلسطيني ريفي، أو فلسطيني مدني، أو باللغة الفصحى والبعض باللهجة المصرية والعراقية.

 

وبحسب بولص تظهر التسجيلات أن العديد من هؤلاء المطربين كانوا يحظون باحترام كبير كرجب الأكحل وثريا قدورة وإلياس عوض، حيث تم الكشف عن قدراتهم العالية من حيث الأداء والتحويلات المقامية والمدى الصوتي والتزيين والزخرفة واللعلعة والتلحين.. الخ، وهذا يدل على أن المجتمع الفلسطيني كان قادرا على إنتاج فنانين بارعين قويي الأداء وذوي قدرات متميزة خلال الربع الأول من القرن العشرين.

وعام 1936 أنشئت إذاعة هنا القدس، ثم إذاعة الشرق الأدنى (1941)، وخلال حقبة الأربعينات أراد صبري الشريف الذي كان يعمل مسؤولا عن قسم الموسيقى في إذاعة الشرق الأدنى أن يسخر الأدوات المحلية وبحور الشعر العامي والنماذج المحلية الفولكلورية واستخدامها في نسج معالم أغنية جديدة بعيدة عن الطرب المصري، وكان يهدف إلى تقصير الأغنية زمنيا والعمل على جعلها ذات معنى، وإحداث حراك بالموسيقى المحلية من خلال الاستفادة من الأدوات المتاحة في تقاليد الموسيقى الأوروبية ودمج العديد من تقنياتها بما في ذلك التناغم والقوالب والأوركسترا، ولتحقيق ذلك كلف شاعرا يونانيا اسمه أسعد سعيد للقيام بالعمل الميداني وجمع الأغاني من فلسطين ووظف موسيقيين مصريين لتنفيذ هذه الرؤيا هم عبد الحليم نويرة ومدحت عاصم.

صبري الشريف

النكبة وخسارة المشهد الموسيقي

وفي أعقاب النكبة خسر الفلسطينيون معظم المشهد الموسيقى والبنية التحتية ليس فقط في سياق المحطتين الإذاعيتين ولكن أيضا من حيث الأنشطة الموسيقية التقليدية، وفقا لبولص، إذ أصبح الموسيقيون الفلسطينيون منفصلين جغرافيا عن بعضهم البعض، في سوريا، لبنان، الضفة الغربية، غزة، الداخل المحتل، العراق، مصر، الأردن، مع بقاء بعض موسيقيي إذاعة القدس في فلسطين الذين انتقلوا إلى رام الله، بينما انتقل العديد من موسيقيي إذاعة الشرق الأدنى مع المحطة إلى قبرص.

وفي أعقاب ذلك وظفت الإذاعات والمعاهد والجامعات العربية في لبنان وسوريا والعراق بعض الموسيقيين الفلسطينيين بسبب مواهبهم ومعرفتهم الموسيقية وقراءتهم للنوتة وقدرتهم على التوزيع والتنغيم والتدريب والتعامل مع الكثير من أنواع الموسيقى في المنطقة والعالم، منهم رياض البندك، سلفادور عتيقة، حليم الرومي، يوسف البيتوني، يحيى السعودي، وروحي الخماش، محمد غازي والكثير من العازفين.

وتظهر واحدة من الخرائط، التي أرفقها بولص في محاضرته أن جميع أنواع الموسيقى منها الأغاني الفلكلورية، الريفية، الموسيقى الآلية، الدينية، الموشحات، القصيدة وغيرها خرجت من فلسطين عام 1948، حيث تشير الأسهم إلى مكان انتهاء كل نوع، فآنذاك كان لشخص فلسطيني أو أكثر دور في تأسيس الأنواع الموسيقية في هذه المناطق، ذلك لأن الفلسطيني في مكان تواجده حاول التكيف والتفاوض وأحيانا كان مضطرا أن يعبر تعبيرا غير سياسي عن الهموم اليومية التي يعيش بها، وكان يتعرض للتهميش والاضطهاد والرقابة، كما أن حال الفلسطينيين لم يكن واحدا في هذه المناطق، وكل منهم كانت لديه مصادر مختلفة فيما يخص حياته اليومية وكذلك الإنتاج.

صبري الشريف والرحابنة

نتيجة للنكبة عام 1948، توقفت رؤية صبري الشريف، وأخذ يبحث عن فرص لتنفيذ فكرته في إنشاء موسيقى جديدة في مكان آخر بالمشرق العربي، فسافر إلى بيروت عام 1950 للقاء الأخوين رحباني، ساعيا إلى تحقيق ما تصوره على أنه مستقبل الموسيقى الشرقية، والعربية.

يقول بولص: "بين عامي 1952-1956 في سياق إذاعة الشرق الأدنى أنشأ صبري الشريف وحدة إنتاجية تتألف من استيديوهات وأوركسترا ضمت أكثر من 40 موسيقيا معظمهم من الأجانب، وقام الشريف بتوفير عقود عمل لإنتاج أعمال الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وتوفيق سكر وغيرهم من خلال شركته الخاصة، كما وفر ما بعد 1956 سبل المونتاج والتوزيع لكل ما أنتجه الرحابنة حتى 1974.

الأخوين الرحباني

وخلص الباحث إلى أن الشريف كان له تأثير مباشر على القرارات الموسيقية التي تتعلق بالأغنية المشرقية في سياق الرحابنة.

وبحسب الموسيقي الفلسطيني، استمر الغناء يحاكي اللهجة الفلسطينية في لبنان حتى بداية التسعينات وفي الأردن حتى أوائل السبعينيات وبحلول عام 1967 بات معظم الموسيقيين الفلسطينيين يعملون خارج فلسطين.

الاحتلال الإسرائيلي يضيق الخناق على الموسيقيين الفلسطينيين

لم يسمح للفلسطينيين في الضفة الغربية بالتعبير عن أنفسهم بحرية، ومن كان له رأي سياسي، تعرض للاضطهاد، السجن، التنكيل، أو الترحيل، إلا أن هذا الوضع كسره مصطفى الكرد بعد حرب الأيام الستة عام 1967 كأول موسيقي يتحدى الأوامر العسكرية، من خلال تقديمه لعروض موسيقية واحتجاجية سياسية.

يقول بولص إن الكرد أحيا أول حفل موسيقي له في تشرين الأول عام 1967 في دار الطفل، وتألفت أغانيه من مجموعات شعرية محلية، وكان الكرد قد وضع موسيقاه بين النشيد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ونمط الطقطوقة، كما قدم في العام 1973 أكثر أغانيه التي لا تنسى "الجلاد، السكة، الأمل، والبحارة".

 

وبحسب بولص لحن الكرد أغانٍ باللهجة العامية المقدسية وكذلك بالفصحى، وفي ألبوم "أرض وطني" عام 1976 رافقه الشقيان إيميل وسمير عشراوي على الجيتار والتناغم الصوتي، إلا أنه في تلك الفترة قامت حكومة الاحتلال بترحيله وأمضى السنوات التسعة التالية في المنفى.

واستكمالا للرحلة الموسيقية التي بدأها الكرد رفقة الأخوين عشراوي، أسس الأخيرين فرقة البراعم في الستينيات، وفي بدايتها كانت الفرقة تؤدي الأغاني الأجنبية في الحفلات والمناسبات، لكن في بداية السبعينيات بدأت بإعادة توزيع بعض أغاني فيروز وذلك من أجل تقديم أغان باللغة العربية وسرعان ما بدأت البراعم بتنفيذ أغان خاصة بها باللهجة المقدسية والفصحى وتطرقت إلى مواضيع سياسية واجتماعية وفكرية وكذلك مفاهيم مقاومة، وقدموها في القدس وبيت لحم.

وبحسب الباحث، انضم المقدسي جورج قرمز منتصف السبعينيات إلى الفرقة، وغنى عن التجربة الفلسطينية والحياة تحت الاحتلال، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة، وبين عامي 1977-1984 سجل عدة ألبومات منها "أنا اسمي شعب فلسطين"، "طريق الأرض"، وأصبحت أغانيه تحظى بشعبية كبيرة بين الجمهور الفلسطيني في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي.

 

يرى بولص أن الكرد والبراعم قرمز لعبوا دورا أساسيا في تطوير أنواع جديدة من الأغاني الفلسطينية الاحتجاجية في السنوات التي أعقبت حرب الأيام الستة تلك التي جمعت بين الشعر واللهجة الفلسطينية المحلية وظاهرة المغني الثائر الذي يرافقه العود وكذلك من حيث الموضوعات التي تتناولها هذه الأغاني.

ومن أهم معالم هذه الحقبة أن صناعة الأغنية الفلسطينية في إطار الضفة الغربية وخاصة في منطقة الوسط كانت تستقل تدريجيا عن الفضاء المعروف في المنطقة العربية ولكن ليس عن بقية العالم وكانت أيضا معزولة عن وسائل البث الإذاعي والتلفزيوني العربية التي لم تبث الأغاني السياسية والاحتجاجية والناقدة والاجتماعية والفكرية أو حتى الفلسفية، لكن لم تكن هذه الفرق معزولة عن الناس، وفقا لعيسى بولص.

فرق موسيقية

استعرض بولص في بحثه مجموعة من الفرق الموسيقية التي أثرت في المشهد الموسيقي الفلسطيني، معرجا على تأسيس فرقة العاشقين في سوريا عام 1976، هذه التي أدت أغانٍ شعبية معدلة وموسعة، وسخرت النماذج الشعرية التقليدية وحررتها، كما استخدمت كتابة الأشعار الوطنية المعاصرة بالعامية أو الفصحى.

وكانت الفرقة بقيادة حسين نازك الذي عمل كمؤلف رئيسي ومجمع للمأثور ومدير فني للمجموعة حتى عام 1985 وتحت إشرافه أنتجت المجموعة بعضا من أشهر أغانيها.

كما تطرق بولص إلى تأسيس فرقة صابرين عام 1980، على يد مجموعة من الموسيقيين الشباب في القدس وكان سعيد مراد من ملحنيها وأصدرت الفرقة التي استخدمت الآلات الغربية الإلكترونية الشائعة في تلك الحقبة ألبومها الأول عام 1982.

كما قامت بتلحين قصائد معروفة لمحمود درويش وإبراهيم طوقان وعندما انضمت المغنية وعازفة القانون كميليا جبران إلى الفرقة عام 1982 انتقلت صابرين تدريجيا إلى تبني آلات موسيقية غير الإلكترونية وأضافت الآلات التقليدية وقام سعيد باختيار كلمات معروفة لمحمود درويش وسميح القاسم، لكنه استخدم أيضا كلمات باللهجة الفلسطينية كتبها لهم حسين البرغوثي.

 

 

وبحسب بولص؛ مع إصدار الألبوم الثاني برزت صابرين كأكثر الفرق الموسيقية الفلسطينية تأثيرا، وفي ذلك الوقت تراجعت الخصائص الذكورية والعسكرية التي سادت الموسيقى الفلسطينية ممثلة بفرقة أغاني العاشقين وكذلك الفرق الشعبية المنشأة حديثا وبدأت الفرق الجديدة مرحلة استكشاف مواضيع وروايات أكثر تأملا وفي المحصلة طورت هذه الفرق عددا من المتابعين بين جماهير الضفة الغربية وأراضي 1948 و أصدرت عدة ألبومات.

وفيما يتعلق بالشعراء وكتاب الأغاني، يقول الباحث إنهم تبنوا أنماط كتابة رمزية مع استخدام اللهجات العامية وبعض أدوات الزجل المحلية، كما كانت هناك نقاشات وتوجهات في الصناعة الموسيقية أهم ما يميزها بأن الموسيقيين الفلسطينيين في الضفة الغربية ومن ضمنها القدس ابتكروا طرقا مختلفة للتفكير في الأغنية الفلسطينية وكانت بعيدة إلى حد كبير عن فكر موسيقيي عصر النهضة، وعن منظومة الصناعة الموسيقية الشبابية والتجارية التي كانت شائعة في ذلك الوقت في المحيط الآني، لكنه لم يكن بعيدا عما كان يجري في العالم في ذلك الوقت.

فرقة صابرين

كما أن معظم الشعراء كانوا يكتبون وفي ذهنهم فنية التقييم من ناحية، وحالة المعنى من ناحية، وخطورة الخطاب المباشر المحرض، وكان الموسيقيون يلحنون وفي ذهنهم فنية التعبير وحالة المعنى، والتفاوض مع ما هو حقيقي وفعال بغض النظر عن شرقيته، أو غربيته.

وخلص الباحث إلى أن الأغنية الفلسطينية في السنوات التي سبقت الانتفاضة يمكن تصنيفها بثلاث فئات: الأغاني الشعبية الموسعة، الأغاني ذات الطابع العسكري والوطني، أغاني الفن المعاصر، ويمكن ربطها بشكل فضفاض في ثلاث أيديولوجيات مهيمنة وهي: الوطنية العلمانية، الماركسية الاشتراكية، والإسلامية.

الانتفاضة الأولى: الأغاني كطريقة للكفاح

وفي حقبة الثمانينات حدث تطور ثقافي وسياسي جديد يحث على استخدام وتكريس الفنون التقليدية، والمأثور كأساس للإنتاج الموسيقي في هذه المرحلة، وخاصة في سياق الفرق الاستعراضية، أي تلك التي تستخدم المسرح، والرقص أو الدبكة في عروضها، وفقا للباحث.

ومع اندلاع المظاهرات العامة في ديسمبر عام 1987، بدأت هذه الفرق باستغلال فرصة المد الوطني والشعبي لتجذير هذا التوجه في الصناعة الموسيقية، وشهدت هذه الفترة ارتفاعا في الأغاني ذات الطابع العسكري والوطني والاحتجاجي والإسلامي، واستمر النظر إلى الحفاظ على الأغاني الشعبية الفلسطينية التقليدية وأدائها كطريقة للكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي أدركه القادة السياسيون، وعملوا على دعم مونتاج هذه الأغاني وتوزيعها عبر أشرطة الكاسيت.

وأشار عيسى بولص إلى أن الأغاني الموجودة على هذه الكاسيتات تضمنت ألحانا شعبية موسعة بنصوص شعرية معدلة أو مؤلفة حديثا، تغنى باللهجة الفلسطينية، -فلاحية في الغالب- وتستند إلى هتافات احتجاجية يسهل تذكرها أو تصنع في المظاهرات، معتبرا أنه وبالاعتماد على هذه المواد أنشأ الموسيقيون، إطارا سياسيا جديدا لتخيل الأمة، وهو إطار سعى للحفاظ على التراث الفلسطيني وإلى حد ما تقديسه كوسيلة لتعزيز الانتماء والمشاعر الوطنية في حركة المقاومة.

 

وخلص الباحث إلى أن الأغاني الوطنية المعاصرة التي قامت بموازنة المميزات الفنية بضرورة الإنتاج التي أصبحت محصورة في جماهير النخبة المثقفة وطلاب الجامعات، وتراجعت تدريجيا مثل هذه الأغاني والفرق وانخفض الاهتمام في الأدوات الفنية في التعبير مع استمرار بعض الفرق والملحنين في العمل في هذه الحقبة.

اتفاقيات أوسلو

مع توقيع اتفاقيات أوسلو دخلت الأغنية الفلسطينية في مرحلة جديدة، تحاكي اقتصاد السوق، ذلك بعد أن حدث تحولا اجتماعيا وثقافيا نتج عنه تيارين رئيسيين، الأول يحاول أن يعتمد على مفاهيم السوق في الإنتاج الثقافي، والآخر يحاول أن يستمر باستقلالية الصناعة الموسيقية الفلسطينية عن قوانين السوق، وباتت الصناعة الموسيقية عالقة في هذين الاتجاهين، ولكن الاعتماد على الممولين بات يستخدم من كافة الأطراف، وفقا لبولص.

وفي غضون بضعة سنوات استبدلت حالة المعنى والاستقلالية التي ميزت الصناعة الفلسطينية في حقبة السبعينيات والثمانينيات وحتى أوسلو لتبدأ مرحلة جديدة تحاكي اقتصاد السوق مع الإبقاء على بعض العناصر والأدوات التي تعبر عن المقاومة والاحتجاج.

وتطرق بولص إلى كاتبة الأغاني والموزعة المغنية ريم بنا، التي ذاع صيتها في حقبة ما بعد أوسلو، وكانت أغانيها متجذرة في أنواع موسيقى البوب الغربية، وعكست الاتجاهات في الموسيقى المعاصرة، واصفا عملها بموسيقى البوب الغربية المغناة باللغة العربية، اعتمادا على موازين شعرية معاصرة أو تقليدية.

الانتفاضة الثانية

وفي هذه الحقبة أظهر بولص أن الفلسطينيين سعوا داخل وخارج الضفة الغربية وقطاع غزة لإحياء ثقافة المقاومة التي كانت شائعة في حقبة الانتفاضة الأولى، بينما تم استدعاء مفاهيم إنتاجية للانتفاضة الأولى، وبات هناك جيل جديد من الأغاني الاحتجاجية ذات الطابع الديني، ولكنها قوالب وألحان شائعة في سياقات إسلامية إقليمية ليست محلية بالغالب، كما ظهرت أيضا موجة جديدة من الموسيقى الفنية الآلية والغنائية.

ولاحقا ألهم الانتشار العالي للهيب هوب والراب وموسيقى الروك البديلة وموسيقى التكنو الكثير من الأشخاص لاستخدام هذه المنظومة في التعبير عن أنفسهم.

ورأى الباحث أن الانتفاضة الأولى شهدت تحركا موسيقيا نحو الداخل الفلسطيني أي نحو التراث أو المأثور، في حين أن الانتفاضة الثانية كانت تتطلع للتوسع إلى الخارج أي إلى أنواع إسلامية وعربية وغربية متنوعة سواء من المحيط الآني أو أبعد من ذلك.

أما فيما يتعلق بالجيل الحالي، فاعتبر الموسيقي الفلسطيني أنه بدأ بالاعتماد على طرق أخرى للتعبير الموسيقي يسهل الوصول إليها ومتاحة له، كفنون الهيب هوب والراب وكذلك أنواع الأغنيات المتواجدة في المنطقة ومن ضمنها الغناء في لهجات غير فلسطينية، كاللبنانية والمصرية.

أما على المستوى الرسمي فكان هناك تفضيل للتراث الشعبي كرموز وطنية مطلقة للثقافة الفلسطينية المعاصرة وأحيانا نبذ العاملين في القطاع الموسيقي أو التربية من قبل المؤسسات التي تعنى بالإنتاج إذا ما اقترنت أعمال وأنشطة أولئك الموسيقيين في سياق فرق الأعراس والحفلات.

وفيما يتعلق بمسار الموسيقى الفلسطينية الحالي، أوضح بولص أنه لا يوجد مسار واحد للموسيقى الفلسطينية وبدلا من ذلك نجد مجالا واسعا من الفكر والسلوك الموسيقي لا يمكن تحليله بسهولة بواسطة التحليل الموسيقي وحده.

العوالم الفلسطينية وانعكاسها على الأغاني 

يرى بولص أن الأغاني الشعبية، الدينية، الهيب هوب، الراب، تعكس الصناعة الموسيقية الفلسطينية، العوالم التي يعيش فيها الفلسطينيون منها ما قد نعتبره منخرطا في التجارية والدعائية والمسارات الكولونيالية ومنها ما زال يستنبط ويستلهم من المواد الخام المحلية طرقا جديدة في التعبير.

ختاما، قال الموسيقي الفلسطيني عيسى بولص "إن كل هذه البنود قد يتم تفسيرها بشكل مفيد على أنها أعمال هدفها الأساسي الاستبانة الثقافية والبقاء ضمن نظام استعماري استيطاني تأسس على محو أي أثر للسكان الأصلانيين، وأي فعل لبقاء السكان الأصليين وهو في جوهره فعل مقاومة سياسية وثقافية واجتماعية ولكن أفعال المقاومة قد لا تعبر عن المرجعيات التاريخية، وقد لا تحول الحاضر بالضرورة بشكل فردي أو ناضج وقد لا تردشنا إلى طريق ثقافي آمن في المستقبل".