الثلاثاء  28 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بين الفساد البنيوي والفساد العارض/ بقلم: ناجح شاهين

2025-10-28 10:01:39 AM
بين الفساد البنيوي والفساد العارض/ بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

(الفساد في الدول العربية بما فيها السلطة الفلسطينية فساد بنيوي علاجه سياسي، لا قضائي ولا إداري).

قبل الثورة الرأسمالية الحديثة في بريطانيا ثم فرنسا، كانت الحياة الاقتصادية تحت الإشراف المباشر للحياة السياسية. كان الملك أو السيد الإقطاعي يملك الأرض والمنتجين الذين يعيشون عليها على نحو صريح، مثل الحالة العبودية وبدرجة ما الإقطاعية، أو بشكل نصف صريح مثل حالة الإنتاج الخراجي في الدول العربية الكبيرة مثل دولتي العباسيين والفاطميين. (يشيع في كتب التاريخ قول معبر لهرون الرشيد: اذهبي أيتها الغيمة حيث شئت، فأنى ذهبت، فإن خراجك إلى جيبي).

 تغير الوضع في الزمن الحديث على نحو حاسم حرر المنتج من سيطرة السياسي باستقلال الحياة الاقتصادية "تماماً"، ووضعها في نطاق الحيز الخاص الذي لا يجوز للدولة أو الموظف العمومي انتهاكه، إنما واجبه الأول هو الدفاع عنه وحمايته من اعتداء الآخرين. هكذا أعلنت الدولة التي تخدم البرجوازية أن دورها الأقدس هو حماية الملكية الخاصة ورعايتها والسماح لها بالنمو والحركة والتنقل والمناورة كما تشاء وتشتهي. 

في ظل هذا النظام الجديد يدفع المنتجون الضريبة للدولة لكي تقدم الخدمات والسلع العمومية، وتستعمل العنف الذي تحتكره لحماية المواطن من التهديدات الداخلية والخارجية. غني عن البيان أن هذا الشكل من الحكم لا يترك في يد الموظف الكثير من الثروات ليقتطع منها ما ينمي ثروته أو ثروة أسرته. ويذكر بعضنا دون شك أن دونالد ترامب تبرع براتبه في دورته الأولى للدولة معبراً عن زهده في ذلك الراتب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع قياساً لثروته الطائلة. أما عندما يكون الحاكم "فقيراً" فإن توقه إلى "تحسين" وضعه قد يدفعه في هذه الحالة إلى تلقي بعض الهدايا من الأغنياء لسبب أو لآخر، وهو ما يميز القادة الإسرائيليين على سبيل المثال كثيراً. 

في بلاد العرب، خصوصاً البلاد التي تعتمد على الريع، يبدو أن المواطن لا ينتج القيمة. ويعيش معظم الناس على الراتب الذي يتلقونه من الدولة التي تأتي لهم بالمال من المساعدات الخارجية (مثل السلطة والأردن والسودان..الخ)، أو من ريع النفط الذي تبيعه الدولة وتشتري بثمنه كل شيء. المواطن هنا "لا ينفق" على الدولة، وإنما هي التي تنفق عليه. ولذلك لا تبدو قضية الفساد حساسة كثيراً في هذه الأنظمة. 

الأموال العامة تأتي هنا إلى البلد بجهد الدولة التي "تبيع" أوروبا وأمريكا موقفاً سياسياً وتقبض ثمنه رواتب للأمن والصحة والتعليم...الخ. هذا هو السيناريو الذي تعيشه مناطق السلطة. ولأن "المنتج" الذي لا وجود له لا يتعرض لسرقة إنتاجه، فإن الاحتجاجات تظل ضعيفة، إذ تقوم "الدولة" باقتطاع جزء من المال الذي تحصل عليه من الخارج ثمناً لجهدها أو أتعاباً لها إن شئنا استخدام لغة المحامين. 

يشمل الفساد أشكالاً متعددة من قبيل الرشوة والابتزاز والمحسوبية، ومحاباة الأهل والمعارف والعشيرة السياسية أو الطائفية، وإساءة استخدام النفوذ، وإنفاق المال على الأتباع والموالين، والكسب غير المشروع ، والاختلاس. ويمكن له أن ييسر العمل الإجرامي مثل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والاتجار بالبشر . أخيراً يعد استخدام قوة أجهزة الدولة لأغراض أخرى غير تطبيق القانون وحماية حدود الوطن، مثل قمع المعارضين السياسيين ووحشية الشرطة فسادًا سياسيًا أيضًا. إذن دعونا نعرف الفساد بشكل مبسط بأنه حصول الفرد على منافع أو أموال ما بسبب وجوده في موقع أو وظيفة عمومية، دون أن يقدم عملاً نظير ذلك. ونقصد بالعمل هنا أي نشاط مدر للدخل في سياق الاقتصاد الرأسمالي المعتاد من قبيل الوظيفة أو التجارة..الخ. لكن الأمر الأخطر بمقدار كبير في السياق الفلسطيني هو الفساد المؤسسي أو الفساد البنيوي أو ما نحب تسميته بالفساد بالجملة.

هنا يواجهنا فساد ينخر في أساس وجود بعض المؤسسات السياسية أو الاجتماعية الكبرى من قبيل أجهزة الحكومة ذاتها ومنظمات "المجتمع المدني".

فالسلطة تتلقى تمويلاً لا بأس به من جهات دولية مانحة دون أن تقدم نظير ذلك أية خدمة اقتصادية "بيزنس" أو أية سلعة مادية واضحة. لذلك لا مناص من القول بأن المانحين الدوليين إنما يعطونها المال لقاء الموقف السياسي. هذا ريع سياسي، وهو فساد بامتياز: حصول على المال بفضل الموقع الذي يحتله الفرد أو المؤسسة والذي يؤهله للقيام بأمور يرضى عنها المانح الأجنبي. بالطبع يسمح ذلك لنا بالاستنتاج بأن السلطة ليست في وضع يسمح لها ب "محاربة الفساد".

وهذا ينطبق على منظمات المجتمع المدني التي تتلقى التمويل الأجنبي دون استثناء: إنها لا تعمل للممول شيئاً في بلده، وإنما تعمل في مجتمعنا المحلي وفق أجندات الممول، فهي إذن تقدم موقفها ثمناً للتمويل. ومثل السلطة لا يسمح وضع "المجتمع المدني" من ناحية طريقة حصوله على المال مبدئياً بأن يحارب الفساد.

من الواضح إذن أن جزءاً رئيساً من الطبقة "البرجوازية" المتكونة في هذا السياق إنما نما بفضل الفساد الذي ما كان له أن يولد بدونه. وليس لدينا هنا أية معلومات بحثية حاسمة بخصوص نسبة هذه الشريحة من مجمل مكونات الطبقة البرجوازية، ولكننا نظن أنها نسبة كبيرة، وعلينا أن نتذكر أن جزءاً كبيراً من "البزنس" الرأسمالي منذ "أوسلو" ارتبط أيضاً بالفساد على نحو عميق، ومن ذلك الشركات التي احتكرت أسواقاً مضمونة الربح كالهاتف والاتصالات والإنترنت والسجائر. بل إن شركات تعمل في البناء والمعمار حققت أرباحاً خرافية بالارتباط بالفساد بالذات وعلى نطاق لا يستهان به. 

ما قلناه مبسطاً في الفقرة السابقة يوضح أن الفساد هنا ليس فساداً عارضاً يشبه الذي وقع فيه نتانياهو على سبيل المثال، متوهماً وداعياً الله أن لا يتم اكتشاف أنه تلقى صندوقاً من النبيذ الفاخر أو علبة سيجار..الخ. نحن هنا في مواجهة طبقة أو شريحة كبيرة من طبقة برجوازية ولدت وترعرعت وتمارس هيمنتها بالشراكة التامة مع الفساد الذي لا حياة لها بدونه. وبهذا المعنى فإننا في مواجهة مشكلة حلها يشبه الحل الذي قدمته الثورات الكبرى الفرنسية والروسية والإيرانية وليس "هيئة مكافحة فساد" لا تملك لنفسها قبل غيرها ضراً ولا نفعاً. خصوصاً أنها تقدم تقريرها إلى الملك أو الرئيس أو الزعيم الذي يشكل القائد الفعلي والرسمي للنظام كله وللطبقة التي تقود البلاد والتي يعود الفضل في وجودها إلى بنية الاقتصاد الفاسد ذاته.