الإثنين  27 تشرين الأول 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الإعلان الدستوري الجديد.. مرآة أزمة النظام السياسي الفلسطيني/ بقلم: رامي بركات

2025-10-27 06:10:02 PM
الإعلان الدستوري الجديد.. مرآة أزمة النظام السياسي الفلسطيني/ بقلم: رامي بركات

في ظل استمرار غياب الانتخابات وتآكل المؤسسات المنتخبة، يفتح الإعلان الدستوري الجديد الصادر عن الرئيس محمود عباس نقاشاً واسعاً حول مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، وما إذا كان هذا الإعلان محاولة لتنظيم انتقال السلطة، أم وسيلة جديدة لتثبيت الحكم بالمراسيم وتدوير أزمة الشرعية المستمرة منذ سنوات.

هذا الإعلان لم يأتِ في فراغ سياسي أو زمني، بل في لحظة تتزايد فيها التصدعات داخل البنية السياسية، وتتراجع فيها الثقة الشعبية بكل ما هو رسمي، ما يجعله أقرب إلى استجابة للأزمة منه إلى معالجة جذرية لها.

تآكل الشرعية وتضخم الحكم بالمراسيم

منذ سنوات طويلة، يعيش النظام السياسي الفلسطيني على ما يمكن وصفه بـ"الشرعية الطارئة" التي تستمد وجودها من الضرورة لا من التفويض الشعبي.

وجاء الإعلان الأخير – المتعلق بآلية انتقال منصب رئيس السلطة الوطنية في حال شغور المنصب – ليضيف طبقة جديدة من الجدل إلى مشهد فقدان الشرعية الذي طال أمده.

ورغم أنه بدا في ظاهره محاولة لسدّ فراغ سياسي، إلا أنه في جوهره يعيد إنتاج نمط حكم يستبدل التوافق الديمقراطي بقرارات أحادية، ويكرّس واقع “الحكم بالمراسيم” بدل سيادة المؤسسات المنتخبة.

بهذا، تتكرّس معادلة مألوفة: غياب الانتخابات يُبرَّر بالظروف القاهرة، والظروف القاهرة تُبرَّر بغياب الشرعية، لتدور الدائرة على ذاتها دون مخرج حقيقي.

الشرعية المؤقتة بدل المنتخبة

الإشكالية لم تبدأ بهذا الإعلان؛ بل تمثل تتويجاً لمسار طويل من تجاوز النصوص وتعليق المؤسسات، حتى بات النظام السياسي يعيش على “شرعية مؤقتة” لا “شرعية منتخبة”.

الإعلان صدر عن سلطة تنفيذية انتهت ولايتها الدستورية منذ سنوات، وتعمل استناداً إلى مبدأ الضرورة لا إلى تفويض شعبي حقيقي.

وبذلك يتحوّل إصدار إعلان دستوري – في ظل غياب المجلس التشريعي – إلى تجاوز واضح للقانون الأساسي ومبدأ الفصل بين السلطات.

أصبح الأصل هو الحكم بالمراسيم، لا التشريع عبر هيئة منتخبة، مما أفقد المنظومة الفلسطينية مضمونها الديمقراطي، وحوّل القانون الأساسي من وثيقة تأسيسية إلى غطاء إجرائي يبرّر استمرار الواقع القائم.

تفويض بلا تمثيل شعبي

نقلُ مهام الرئاسة المؤقتة إلى نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يمثل خلطاً مؤسسياً خطيراً بين إطارين مختلفين في الطبيعة والوظيفة.

فالسلطة الوطنية يفترض أن تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع، بينما اللجنة التنفيذية تستمدها من التعيين في هيكل تنظيمي يخضع لهيمنة فصائلية.

بهذا تتحوّل المرحلة الانتقالية إلى فترة وصاية تنظيمية تقيّد الإرادة الشعبية، وتُبقي القرار بيد النخبة السياسية ذاتها التي تدير المشهد منذ عقود.

ويثير ذلك تساؤلاً أعمق: هل نحن أمام نظام يسعى إلى ضمان انتقال السلطة أم إلى إعادة ترتيب الوراثة السياسية ضمن حدود السيطرة القديمة؟

تهديد للتداول الديمقراطي للسلطة

ينذر الإعلان الجديد – من حيث بنيته وآلياته – بتكريس حالة “التحكم من الأعلى” في مسار الخلافة السياسية، ويفتح الباب أمام ترتيبات تُرَضي الخارج أكثر مما تعبّر عن الداخل الوطني.

بهذا يتحوّل النقاش حول الخلافة إلى حقل مساومات بين الاعتبارات الإقليمية والدولية، بينما يُستبعد المعيار الشعبي من المعادلة تماماً.

بين الشخصية الجامعة وشخصية القبول الدولي

اختيار خليفة مؤقت عبر آلية تنظيمية مغلقة يجعل معيار القبول الدولي والإقليمي – وربما الأمني – يتقدم على معيار الشرعية الوطنية.

وبهذا يصبح الهدف ضمان استمرارية الوضع القائم، لا بناء إجماع داخلي يعكس الإرادة الفلسطينية.

يتحوّل النظام السياسي بذلك إلى إدارة للأزمة لا إلى  مشروع لتجاوزها، وتُختزل القيادة في شخصية “قابلة للتسويق” خارجياً أكثر من كونها ممثلاً حقيقياً للداخل.

إنها مفارقة مألوفة في التجربة الفلسطينية: حيث تُقدَّم "الشرعية المقبولة" على "الشرعية المنتخبة"، ويُقاس نجاح القيادة بمدى انسجامها مع متطلبات الخارج لا مع احتياجات الداخل.

“القوة القاهرة” فلسفة حكم دائمة

النص الذي يسمح بتمديد الفترة الانتقالية بسبب “القوة القاهرة” يعيد إنتاج ذريعة مألوفة استخدمت سابقاً لتأجيل الانتخابات.

استمرار الحديث عن ظروف استثنائية – سواء الانقسام أو الاحتلال – يجعل النظام أمام فراغ متكرر يُعالج كل مرة بمرسوم جديد وفتوى تبريرية، فيُفرغ مبدأ التداول السلمي من مضمونه.

تتحول “القوة القاهرة” من ظرف مؤقت إلى فلسفة حكم، وتصبح أداة لتأبيد الواقع القائم بدلاً من تجاوزه.

وما يُخشى منه أن يصبح الاستثناء قاعدة، وأن يتحوّل المؤقت إلى دائم، بحيث يُعاد إنتاج ذات البنية السلطوية التي تتغذى على الأزمة وتعيد إنتاجها باستمرار.

بين الشرعية الشكلية والشرعية الشعبية

الإعلان الدستوري الجديد لا يقدّم حلاً لأزمة الخلافة بقدر ما يديرها من موقع التفرد. إنه يضيف غموضاً إلى غموض، ويفاقم شعور الفلسطينيين بأن مستقبلهم يُرسم عبر مراسيم مغلقة تفصلها النخبة التنظيمية على مقاس الحاجة.

لا يمكن لأي إعلان يصدر من طرف واحد أن يُعيد شرعية نظام فقد صلته بمصدرها الحقيقي.

وحدها الإرادة الشعبية – عبر انتخابات حرة وشاملة – قادرة على تحصين النظام ومنع انزلاقه نحو التوريث أو الوصاية الخارجية.

وحين تُقصى صناديق الاقتراع، يتحوّل القانون من ضامن للشرعية إلى أداة سلطة، ويغدو الإعلان الدستوري مرآة لمأزق بنيوي يحكم المشهد السياسي الفلسطيني اليوم.