الحدث - محمد بدر
في 8 آب/أغسطس 2025 اتخذ الكابينيت السياسي–الأمني للاحتلال قرارًا دراماتيكيًا بالمصادقة على خطوة للسيطرة العسكرية على قطاع غزة أي في الواقع احتلال جديد للقطاع، مع الإشارة في هذه المرحلة إلى احتلال مدينة غزة نفسها كخطوة أولى. هذا القرار التاريخي جاء بعد ما يقرب من عامين على بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ورغم العمليات العسكرية المتكررة لجيش الاحتلال، لم تنجح "إسرائيل" بعد في إسقاط حكم حماس كليًا، إذ ما زالت الحركة تنفذ عمليات ضد جيش الاحتلال على طريقة حرب العصابات، وتحتفظ بنحو 20 أسيرًا إسرائيليًا على قيد الحياة إضافة إلى عشرات الجثامين، ولم تحقق الحرب بعد هدفها المعلن بالإفراج عنهم.
على خلفية هذا الوضع المتواصل، تصاعد الضغط داخل "إسرائيل" للعثور على حل يقود إلى حسم عسكري وتغيير واقع الأمن في مستوطنات "غلاف غزة". الخيارات الرئيسة التي طُرحت للنقاش الاستراتيجي شملت: الاستمرار في القتال الطويل بصيغته الحالية، أو القبول بوقف إطلاق نار جزئي أو كامل من أجل استعادة الأسرى، أو احتلال كامل لقطاع غزة وفرض حكم عسكري مؤقت عليه.
في الواقع، الجدل حول مستقبل غزة وطبيعة "اليوم التالي" بدأ منذ بداية الحرب. شخصيات في حكومة الاحتلال، خصوصًا الوزراء من أقصى اليمين، أوضحوا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 أنّه من وجهة نظرهم يجب العودة لاحتلال غزة بل وتجديد الاستيطان اليهودي فيها. أما رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو فقد صرّح سابقًا أنّه لا يرغب في حكم إسرائيلي دائم للقطاع، وإنما يريد "تحرير غزة من حكم حماس" ونقل إدارة الحياة اليومية فيها إلى طرف آخر – مثل إدارة مدنية محلية تحت إشراف دول عربية – من دون إعادة السلطة الفلسطينية أو إقامة مستوطنات إسرائيلية داخل القطاع. بالفعل، حتى بعد قرار الكابينيت شدّد نتنياهو على أنّه "لا يريد أن يسيطر على غزة إلى الأبد" وأنّ الهدف في النهاية هو نقل إدارة غزة إلى طرف ثالث غير حماس.
مع ذلك، على الأرض توسّعت السيطرة العسكرية الإسرائيلية كثيرًا خلال 2024 و2025؛ إذ سيطر جيش الاحتلال على معظم شمال القطاع، وشنّ عملية واسعة باسم "مركبات جدعون". وحتى قبل صدور قرار رسمي، حذّر محللون من أن "إسرائيل" تزحف فعليًا نحو احتلال القطاع بحكم الأمر الواقع مع كل تقدم إضافي.
تبلورت الصيغة الرسمية لقرار الكابينيت بالمصادقة على خطوة الاحتلال في مطلع آب/أغسطس 2025، وسط نقاشات عاصفة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري للاحتلال. فقد دعم نتنياهو ووزير الجيش خطوة واسعة لحسم المعركة مع حماس عبر احتلال غزة، بينما عارض رئيس الأركان إيال زامير وجهات أمنية أخرى، واقترحوا بدائل أكثر تدريجية. قبل انعقاد الكابينيت عرض رئيس أركان جيش الاحتلال خطتين: (1) احتلال كامل للقطاع وفرض حكم عسكري فيه؛ (2) بديل محدود أكثر يتمثل في تطويق جزئي – حصار مدينة غزة ومخيمات اللاجئين المركزية، مع الجمع بين نيران كثيفة وتوغلات برية محدودة، مع تجنب التورط العميق في قلب المناطق الحضرية. الموقف الذي قدّمه رئيس الأركان كان تفضيل الخيار المحدود وتجنب الاحتلال الكامل، خصوصًا بسبب الخطر الكبير على حياة الأسرى وخشية "فخ تكتيكي" لوحدات الجيش داخل بيئة حضرية خطرة. نتنياهو، بالمقابل، مال إلى دعم خيار الاحتلال الواسع – وإن كان الحديث عن احتلال تدريجي: أولًا مدينة غزة، بعد إخلاء معظم سكانها جنوبًا، ولاحقًا السيطرة على باقي أجزاء القطاع عند الضرورة.
أخيرًا، بعد نقاش ماراثوني، صادق الكابينيت بالإجماع على مقترح نتنياهو بالبدء بالتحضيرات لاحتلال مدينة غزة. يجدر التنويه أن البيان الرسمي الصادر عن مكتب نتنياهو بعد الجلسة تجنب عمدًا استخدام مصطلح "احتلال" – وهو مصطلح محمّل بتبعات قانونية ثقيلة بشأن مسؤوليات "إسرائيل" تجاه السكان المدنيين الواقعين تحت سيطرتها – واستخدم بدلًا منه تعبير "الاستعداد للسيطرة على مدينة غزة". بالفعل، خلال الجلسة اندلع خلاف حاد بين المستشارة القضائية للحكومة غالي بهراف ميارا وبين نتنياهو، حيث حذّرت: "لا يمكنكم القيام باحتلال من دون تحمّل المسؤولية عن الأرض"، مشيرة إلى الالتزامات القانونية الثقيلة التي سيفرضها وضع الاحتلال على "إسرائيل". ردّ نتنياهو: "من أين جئتم بمصطلح احتلال؟ نحن نريد السيطرة على المنطقة كما فعلنا حتى الآن في كل الأماكن". هذه المداولات تجسّد نهج حكومة الاحتلال: محاولة تنفيذ خطوة للسيطرة العسكرية، مع تجنّب تسميتها "احتلال" لعدم إثارة اعتراف رسمي بوضع "إسرائيل" كقوة احتلال بما يترتب على ذلك من تبعات. غير أنّه، كما سيتضح لاحقًا، فإن مسألة المصطلحات لا تغيّر الواقع القانوني الفعلي: سيطرة فعلية لجيش الاحتلال على كامل قطاع غزة ستُعتبر في القانون الدولي احتلالًا كاملًا، بكل ما يرافقه من التزامات وتبعات.
من المهم الإشارة إلى أن قرار احتلال غزة أثار فورًا خلافات ومخاوف كبيرة في المنظومة السياسية والأمنية داخل "إسرائيل". فقد غضب رئيس الأركان زامير من اتخاذ قرار مبدئي بمثل هذه الخطوة المصيرية قبل عرض الموقف العسكري كاملًا. وبحسب تقارير، انفجر زامير في محادثة مسبقة مع نتنياهو قائلًا: "كيف يبدو الأمر وأنتم تقررون احتلال غزة من دون الاستماع لموقف الجيش؟ ... أنتم ذاهبون نحو فخ في غزة"، محذرًا من التورط من دون جاهزية مناسبة. أما نتنياهو فحثّ الجيش على "عرض خطة لاحتلال القطاع"، وطالب رئيس الأركان بإدخال تحسينات على الخطة وتقديمها أمام الكابينيت. هذا الاشتباك العلني غير المسبوق بين رئيس حكومة الاحتلال ورئيس الأركان لم يكن مجرد تعبير عن فجوة مهنية، بل كان أيضًا ظاهرة سياسية بحد ذاتها: إذ يرى بعض المحللين أنّ نتنياهو استغل الخلاف مع رئيس الأركان ليقدّم نفسه كقائد متشدد و"داعٍ للاحتلال" خلافًا لرأي الجيش، وبذلك يُرضي شركاءه في اليمين (مثل الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير) وقاعدته اليمينية، ويبعث رسالة لحماس مفادها أنه إن لم تستسلم، فإن "إسرائيل" ستذهب حتى النهاية.
التبعات السياسية لاحتلال غزة
في الساحة الداخلية الإسرائيلية، أثار قرار الكابينيت باحتلال غزة جدلاً سياسيًا واسعًا ومخاوف عميقة. فبمجرد الإعلان عنه، سارع قادة المعارضة وأعضاء كنيست من مختلف الأطياف – عدا أحزاب الائتلاف – إلى توجيه انتقادات لاذعة. رئيس المعارضة يائير لابيد وصف القرار بأنه "كارثة ستجر كوارث أخرى كثيرة". وحذّر من أنّ نتنياهو ينجرّ إلى خطوة طويلة وخطيرة تحت ضغط وزرائه المتطرفين. وأكد لابيد أن دخول الجيش إلى غزة سيؤدي إلى قتل الأسرى، وسقوط عدد كبير من الجنود، وسيكلّف دافع الضرائب عشرات المليارات من الشواقل، وسينتهي بـ"انهيار سياسي" للاحتلال.
أما الجنرال السابق يائير غولان، نائب رئيس الأركان الأسبق ورئيس حزب "الديمقراطيين"، فقد شن هجومًا قاسيًا، معتبرًا أنّ "قرار الكابينيت، خلافًا لرأي رئيس الأركان، هو "كارثة للأجيال". وأوضح أنّ مغزاه "الحكم بالإعدام على الأسرى والمزيد من العائلات الثكلى، وأن أبناءنا وأحفادنا سيتجولون في أزقة غزة لسنوات، بينما سندفع مئات المليارات – وكل ذلك بدافع بقاء سياسي وأوهام مسيانية". هذا الخطاب الحاد يعكس قناعة راسخة في صفوف المعارضة بأن خطوة الاحتلال مدفوعة أكثر بحسابات ضيقة لإنقاذ الحكومة الحالية وإرضاء شركائها في أقصى اليمين، وليس بمصلحة وطنية استراتيجية بعيدة المدى.
في المقابل، كان هناك من اعتبر أن الاحتلال يشكّل "فرصة تاريخية" لإعادة فرض الردع الإسرائيلي. بعض وزراء اليمين المتطرف رحّبوا بالقرار وعدّوه خطوة ضرورية لإثبات أن "إسرائيل" لن تسمح لحماس بالنجاة، بل طرحوا مجددًا فكرة إعادة الاستيطان اليهودي في غزة – وهو طرح يثير جدلاً قانونيًا وأخلاقيًا كبيرًا في ضوء الحظر الدولي على نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأراضي المحتلة.
أما على مستوى العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري، فقد عمّق القرار الفجوة بين القيادة المدنية وقيادة الجيش. فقد حذّر رئيس أركان جيش الاحتلال علنًا من أنّ الاحتلال يفتقر إلى خطة إنسانية لإدارة مليون مدني سيُجبرون على النزوح، بل أوصى بإزالة هدف استعادة الأسرى من جدول أهداف الحرب لأنه لم يعد واقعيًا. هذه المواقف قوبلت بهجوم مباشر من وزراء اليمين الذين طالبوه "بالانصياع للقرار السياسي" وشبّهوا الجيش بالشرطة التي يجب أن تنفذ دون نقاش. هذا التوتر كشف عن أزمة ثقة خطيرة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، وعن خطر تآكل مبدأ "جيش الدولة" لصالح حسابات سياسية ضيقة.
أما في الساحة الدولية، فقد جاءت التبعات سريعة وثقيلة. فدول غربية رئيسية مثل كندا، فرنسا، وبريطانيا أصدرت بيانات تنديد بالقرار، واعتبرته خطأ استراتيجيًا سيؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية وتعريض حياة الأسرى للخطر. ألمانيا ذهبت أبعد من ذلك وأعلنت عن حظر تصدير أسلحة إلى "إسرائيل"، في خطوة غير مسبوقة في العلاقات الثنائية. هذا التحول يرمز إلى بداية عزلة دولية قد تتعمق مع مرور الوقت، وصولًا إلى إمكانية فرض عقوبات اقتصادية أو حتى اتخاذ خطوات قانونية دولية.
إضافة إلى ذلك، أبدت الولايات المتحدة تحفظات باهتة، إذ شدد البيت الأبيض على أنّه لا يؤيد سيطرة إسرائيلية طويلة الأمد على غزة، فيما أرسلت دول عربية مثل مصر والأردن رسائل مفادها أنّ أي حل أمني في غزة يجب أن يمر عبر مؤسسات فلسطينية شرعية، لا عبر إدارة إسرائيلية مباشرة. كما أكدت إيران وحزب الله أن الشعب الفلسطيني "لن يكون لقمة سائغة" وأن الاحتلال سيدفع ثمنًا باهظًا.
النتيجة هي أنّ القرار فجّر أزمة سياسية مركبة: في الداخل، عزز الانقسام المجتمعي وعمّق أزمة الثقة بين جيش الاحتلال والحكومة؛ وفي الخارج، دفع بمكانة "إسرائيل" نحو مزيد من العزلة وأثار تهديدات متصاعدة بفرض عقوبات أو اعترافات دولية بدولة فلسطينية. وبذلك، فإن الاحتلال لا يُنظر إليه فقط كخيار عسكري، بل كخطوة سياسية عالية المخاطر، قد تغيّر بشكل جذري مكانة "إسرائيل" الدولية وطبيعة نظامها السياسي الداخلي.
التبعات العسكرية والأمنية لاحتلال غزة
يمثل قرار احتلال غزة تحديًا عسكريًا من أصعب ما خاضته "إسرائيل" في العقود الأخيرة، مع ما يحمله من أثمان بشرية ومخاطر استراتيجية. ويقدّر رئيس أركان جيش الاحتلال زامير أن احتلالًا كاملًا للقطاع سيستغرق عدة أشهر، فيما قد يتطلب محاربة جيوب المقاومة سنوات طويلة. هذا السيناريو يعني بالضرورة سقوط أعداد كبيرة من الجنود. فالقتال في بيئة حضرية مكتظة مثل مدينة غزة ومخيمات اللاجئين يضع القوات في مواجهة شبكة أنفاق محصنة، وعبوات ناسفة، وقناصة، وكمائن معدّة سلفًا. لذلك استخدم زامير تعبير "فخ مميت" ليحذر من حجم الخطر الكامن للقوات. يضاف إلى ذلك أنّ حياة الأسرى الإسرائيليين المتبقين لدى حماس أصبحت على المحك، إذ إن أي اقتحام واسع قد يدفع الحركة إلى تصفيتهم أو تعريضهم للنيران الإسرائيلية نفسها. ولهذا السبب صرّح زامير أنّه من الأفضل رفع هدف تحرير الأسرى من جدول الحرب، ما أثار غضب عائلاتهم وفتح جبهة انتقاد واسعة ضد الحكومة.
حتى بعد السيطرة على الأرض، سيبقى جيش الاحتلال أمام تحدي إدارة مقاومة متجددة. حماس، حتى لو فقدت سيطرتها الرسمية، قد تنتقل إلى أسلوب حرب العصابات والكمائن، كما حدث في الضفة الغربية بعد عملية "السور الواقي" أو كما واجهت الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. وبالتالي، فإن الاحتلال لن يكون نهاية القتال بل بداية لمرحلة جديدة من حرب استنزاف تستنزف أرواحًا وموارد على المدى الطويل.
وتشير التقديرات الأولية عن الحاجة إلى أربع فرق عسكرية (عشرات الآلاف من الجنود) لإدارة حكم عسكري دائم في القطاع، بكلفة سنوية قد تصل إلى 40 مليار شيقل. حتى مع تقديرات أكثر تفاؤلًا تقترح أن تكفي فرقتان فقط، فإن ذلك يتطلب تجنيدًا دائمًا للاحتياط، وإطالة مدة الخدمة، وإعادة توزيع الموارد. مثل هذا العبء سيؤثر سلبًا على جاهزية جيش الاحتلال في الجبهات الأخرى، خصوصًا الجبهة الشمالية مع حزب الله وإيران. كما أن التدريب الدوري والقدرة على التجديد التكنولوجي سيتراجعان لأن جيش الاحتلال سيكون مشغولًا بالمهام اليومية في غزة. وانغماس جيش الاحتلال في غزة سيضعف قدرته على الردع في الشمال والشرق. علاوة على ذلك، فإن استمرار استنزاف قوات الاحتياط قد يؤدي إلى أزمة ثقة ومشاكل في التجنيد الإلزامي، مع ما يحمله ذلك من خطر على النسيج العسكري والاجتماعي للاحتلال.
ومن الناحية التكتيكية، احتلال كامل قد يسمح للجيش بالقضاء المباشر على بنية حماس العسكرية، وتدمير الأنفاق، والاستيلاء على السلاح، وربما الحصول على معلومات استخبارية حساسة. غير أن غياب خطة واضحة لـ"اليوم التالي" يجعل من هذا المكسب قصير المدى، إذ ستجد "إسرائيل" نفسها غارقة في إدارة مليوني إنسان معادين لها، دون مخرج استراتيجي واضح. باختصار، الاحتلال يحمل إمكانية تحقيق "انتصار عسكري" جزئي على حماس، لكنه في الوقت نفسه يضع جيش الاحتلال أمام حرب استنزاف قد تطول لسنوات، مع مخاطر تفكك داخلي وتهديدات على جبهات أخرى. وهنا يكمن التناقض الجوهري: ما يبدو حلًا أمنيًا فوريًا قد يتحول إلى معضلة عسكرية – أمنية طويلة الأمد.
التبعات القانونية والدولية لاحتلال غزة
لا يمكن مناقشة قرار احتلال غزة دون التطرق إلى الزاوية القانونية، إذ أن هذه الخطوة تحمل أثقالًا كبيرة في القانون الدولي وفي مكانة "إسرائيل" على الساحة العالمية. أولًا: تعريف الاحتلال في القانون الدولي. وفقًا لاتفاقيات لاهاي (1907) واتفاقية جنيف الرابعة (1949)، يتحقق "الاحتلال الحربي" عندما تفرض دولة ما سيطرة فعلية على أرض لا تقع ضمن سيادتها. ويترتب على ذلك أن تصبح هذه الدولة قوة احتلال ملزمة بحماية المدنيين وضمان احتياجاتهم الأساسية. وبمجرد أن يفرض جيش الاحتلال سيطرته على قطاع غزة كاملًا، فإن وضع "إسرائيل" في القانون الدولي سيكون واضحًا: قوة محتلة بكل ما يتضمنه ذلك من التزامات.
القوة المحتلة ملزمة قانونيًا بضمان الغذاء، والمياه، والدواء، والخدمات الصحية والتعليمية، والحفاظ على النظام العام. كما أنها ممنوعة من القيام بعمليات تهجير قسري، أو مصادرة ممتلكات خاصة إلا للضرورات العسكرية، أو إدخال مستوطنين إلى الأرض المحتلة. هذا يعني أن أي محاولة لإعادة الاستيطان في غزة أو دفع سكانها إلى "الهجرة الطوعية" ستُعتبر انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وبذلك، ستتحمل "إسرائيل" مسؤولية مباشرة عن حياة أكثر من مليوني فلسطيني، بما يشمل توفير مقومات المعيشة لهم.
منذ الانسحاب من غزة عام 2005، تبنّت "إسرائيل" موقفًا قانونيًا يعتبر أن القطاع لم يعد تحت احتلالها المباشر، لأنها لا تدير حياة السكان فيه. لكن مع توسع سيطرة جيش الاحتلال داخل القطاع منذ 2024، وقيامه عمليًا بوظائف سلطة الأمر الواقع، بدأت تتعزز المطالب الدولية باعتبار "إسرائيل" قوة احتلال من جديد. وقد حاولت الحكومة التلاعب بالألفاظ، فتحدثت عن "السيطرة" لا "الاحتلال"، لتفادي الاعتراف القانوني وما يستتبعه من التزامات، غير أن هذا التفريق لا يغيّر من الواقع القانوني: السيطرة الفعلية تعني الاحتلال بغض النظر عن المصطلح المستخدم.
وأي تقصير في تلبية احتياجات السكان أو أي خرق للقواعد الدولية قد يعرض "إسرائيل" لملاحقات في محاكم دولية، وخصوصًا أمام المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي تحقق أصلًا في الوضع الفلسطيني. اتهامات مثل "العقاب الجماعي"، "التجويع المتعمد"، أو "نقل السكان" قد تتحول إلى لوائح اتهام بحق مسؤولين إسرائيليين. إضافة إلى ذلك، قد تستخدم بعض الدول مبدأ "الولاية القضائية العالمية" لمحاكمة مسؤولين عسكريين أو سياسيين إسرائيليين على أراضيها.
إلى جانب القانون الدولي، يطرح الاحتلال معضلة أخلاقية – سياسية داخلية: السيطرة على أكثر من مليوني إنسان دون منحهم حقوقًا سياسية كاملة سيعزز اتهامات العالم بأن "إسرائيل" تمارس نظام فصل عنصري. كما أنه سيعمق الجدل الداخلي حول هوية الدولة: هل يمكنها أن تبقى "ديمقراطية" في حين تحكم عسكريًا شعبًا كبيرًا بلا حقوق؟ هذه المعضلة القيمية ستكون أحد الأثقال الأشد على المجتمع والسياسة الإسرائيليين.
الخلاصة القانونية أن احتلال غزة سيضع "إسرائيل" في خانة "القوة المحتلة" رسميًا، مع كل الالتزامات الثقيلة المرتبطة بذلك. أي إخفاق إنساني أو تجاوز قانوني سيترجم إلى ضغوط دولية وربما ملاحقات قضائية. والأهم، أن الاحتلال سيعمّق الأزمة الوجودية حول صورة "إسرائيل" كدولة ديمقراطية، ويفتح الباب أمام عزلة دولية أكبر من أي وقت مضى.